حلم الفناجس

مسرحية



حلم الفناجس*



بيات محمد مرعي











((لمكان زنزانة شبه مظلمه .. حاجيات بسيطة لرجل لا يتجاوز  الثلاثين عاماً.. يجلس في احدى الزوايا يحاكي نفسه المتعبة...))

الســـــجين :  هي... أنتِ .. "كأنه ينادي شخصاً خلف الجدار" انت يا من خلف الجدار... اتسمعينني.. لا وقت للنوم الان.. أني ادعوك هذه الساعة لحفلة الذكر التي سأقيمها هنا.. "لا احد يجيب"... لماذا لا تجيبين ؟ .. "يحاكي نفسه" لماذا لا تجيب... ؟

               اتسعمعين أني احتفل اليوم بالذكرى الثالثة.. حين ابلغني ذلك السجان اللعين عن وجودكِ بالزنزانة المجاورة لي...

               نعم قبل ثلاثة اشهر ، حين جاؤا بي الى هنا .. الى هذا المكان البائس... قال لي ابق وحيداً هنا وأعلم انك تجاور شابة جميلة...

               هذا ما اخبرني به ، ثم رحل ضاحكاً...

               شابة جميلة ... شابة جميلة..

               ومنذ ذلك الوقت اشهر ثلاثة وأنا اخطها على جداري الأصم هذا.. جدار لعين لا يملك حدوداً او شعوراً بالرأفة بي ...

((يعود نحو الجدار يخاطبها))

               انتِ أيتها الجارة الصامتة ابداً .. يا آنسة ... يا سيدة علامَ هذا الصمت المميت.. لقد تعرق جبيني وتصلبت يداي وأ، اضرب الحائط الصلب الذي بيننا...

               هل تخشين ان تجيبي ، ام تشعرين بالخجل مني

               لماذا لا تجيبين .. ؟

               هل انت خرساء... ؟

               " يسائل نفسه" ربما لاقت من التعذيب ما افقدها النطق يا سيدتي اجيبي ارجوك...

               لا تدعي الحيرة تحز جسدي...

               إن كنت خرساء.. اضربي جدارك مثلي كي اذيب عزلتي ووحدتي...

               "يصغي الى الجدار بشيء من الشك"

               ربما هناك شيء ... وربما لا يوجد أي شيء

               يا الهي إني استمع انفاساً خلف الجدار

               حسناً ... حسناً... إذن ما زلت حية... رغم انك خرساء ولكن هذا لا يهم سأحتفل بأنفاسك كما تحتفل الملائكة بروح زكية... "يدور في مكانه فرحاً"... سأضيء ما تبقى من هذه الشمعة المعمرة

               احترقي ايتها النور واطردي كل الارواح الشريرة من هنا..

               ((يستمع))

               زيدي من انفاسك نحو الجدار... رطّبيه.. رطبيه بقوة كي اشم رائحة تربة وجودك معي... تعرقي .. واجعلي من صمتك قصيدة وصال بيننا يا عجينة الصمت.. أني اشعر بتمزيق الصمت... حسناً يا ملاكي .. اضربي هذا الجدار المتسخ بالشؤم اقتربي منه لا تخافي .. هيا... هيا... هيا...

((يدور في المكان حتى يسقط متعباً))

               يا سيدتي.. لماذا لا تجيبيني.. لا يعقل عذاب صمتك هذا ... لابد انك خرساء... و... و ... وغير قادرة على الحركة....

((يقترب من الجدار ويعيد التنصت))

               ما زالت تلك الانفاس... جناحي طير مسافر

               كم اتمنى الساعة ان يكون لي القدرة على ازاحتك أيها الجدار اللعين .. ليتني امتلك مخالب تنين او فأس عملاق متوحش لأهشم قامتك وعنادك أيها الجدار الاصم...

((صمت قصير))

               يا سيدتي.. اكاد اجن في عزلتي .. ألا تثيرك العزلة؟ .. نعم العزلة .. العزلة .. هذا العالم الساكن في مقبرة ضجيج... اتعلمين اني احس بالاختناق شيئاً فشيئاً..

               اني لا اطيق هذا الحال ...

               "يستذكر عندما كنت صغيراً ... كنت اجمع الصحف القديمة التي يجلبها ابي ، لأصنع منها طائراتي الورقية واجعلها تحلق في السماء لأضع على متنها احلامي كلها حينها ادركت ان لاحدود للعالم .. لقد رأت عيناي حينذاك بحاراً وجبالاً شتى كان الكون بأسره اجمعه في كف يدي ادحرجه مثل كرة لاعب ماهر...

               أما الان اصبح عالمي لفافة ورق في قارورة بحار خائب بين موجات بحر تائه...

               كم أنا مخنوق .. لم يعد هناك فناء يتسع لطائرتي منذ اللحظة التي جاؤا بي الى هنا...

               ((يصرخ)) يا سيدتي .. يا سيدتي كم انا محتاج للصراخ يا سيدتي.. تعالي نغزل لنا حكاية...

               هل تريدين معرفة البداية .. حسناً سأقصها عليك منذ عشرة اعوام وأنا اعمل في محطة السكك الوسطى اعمل بجد واخلاص ولم اتهاون عن اداء واجبي قدر شعرة... كنت حريصاً على تنظيم حركة العربات الحديدية المتوجه شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً.

كنت مكلفاً بعمل اسمه نظام تحويل سكك القطارات بالتناوب كان عملي بسيطاً ودقيقاً في نفس الوقت ولكنه لا يحتمل الخطأ .. لأن في ذلك كوارث في تصادم القطارات ببعضها...

وذات ساعة مشؤومة ركضت باتجاه خروف .. نعم خروف ليس اكثر وقف على ذلك الطريق الحديدي خشيت عليه من عجلات العربات الجبارة..

ركضت ركضت باتجاهه كي انجيه...

ونسيت التحويل الثالث للعربات السابعة والتاسعة ... ويا للهول .. لما حدث

انه حادث بشع.. فقدت صوابي لأجله

تصادمت العربات ببعضها كانت محملة بالاف من البشر...

لم اصحو بشكل حقيقي الا وأنا هنا في هذه الزنزانة ومعي صبر عمره خمسة وعشرون عاماً...

((ينتبه لنفسه))

هل تسمعين حديثي ايتها السيدة الغريبة

قولي لي كيف ولماذا جاؤا بك الى هنا

هل انت قاتلة... سارقة... خائنة

ماذا انت.. تكلمي لقد نفذ صبري .. الصبر ... لم يعد في جعبتي خصلة صبر... أي صبر وأنا اجالس من لا يطيق الكلام معي...

لقد قرأت ذات يوم حكمة فيلسوف حيث قال الصبر شجرة خريف عارية تخترقها الريح من حيث تشاء...

ولكن صبري لا يذلله سوى الخمر العتيق أتعلمين يا سيدتي ان احد حراس السجن اللعين هذا له ضلع ممدود في بئر الرشوة..

انه يجلب لي زجاجة خمر كل يوم... مقابل ان ارى طالعه في فنجانه الكاذب .. انه احد البلداء اسكره في فنجانه ويسكرني بالخمر العتيق...

((يضحك بسخرية ... ثم صمت قصير))

كيف حال الجو في زنزانتك... هل تشعرين بالبرد ام الحر كحال زنزانتي.

((يبدأ بنزع بعض ثيابه))

صفي لي مكانك...

ولكن دعيني احدثك انا اولاً

((بسخرية عالية))

هنا يوجد نافذة شمالية تطل على البحر ارقب من خلالها السفن القادمة نحونا ... وهذا جهاز مرئي يصلني بالعالم عبر قنوات التلفاز وهذه خطوط سلكية ولا سلكية كي يستطيع العالم سماع حديثي.. أما سريري فهو من ريش النعام المساعد على تهيأة لي نوماً رغيداً مع احلام مدهشة ...

((يثير ضحكاً عالياً وساخراً))

"يحزن" لم يستطيعوا ان يوفروا لي في زنزانتي الحقيرة سوى اجهزة وحدتي وعزلتي المقيتة.

لم تعد اضلعي تحس ببرد المكان او دفئه.. لقد تعطلت بسب هذه الارض اللعينة التي امتصت احلامي كلها...

((ينتبه الى الجدار يبدأ بالطرق))

يا سيدتي... هل تسمعين حديثي.. ؟

قولي لي كيف انت...

هل انت سمراء... ام شقراء

هل شفتيك ممتلئتان .. أم رقيقتان

لماذا لا تجيبين...

تنفسي يا ملاكي ... زيدي انفاسك "كأنهه يستمع لأناسها" حسناً.. حسناً زيدي اكثر فاكثر اني اسمعك إن انفاسك تصفُ لي عينيك الجميلتين نعم اني اراهما امامي...

سيدتي السمراء.. اني اراك ها انت مبتسمة يالجمالك الاخاذ..

((يرقص فرحا)) ستحلق اسراب طيور الفناجس عالياً ... عالياً ... عالياً

((يسمع صوت جرس اعلان عن موعد وجبة الغذاء"

"يتقدم بطبق معدني))

حاضر .. حاضر يا سيدي ((يمد الطبق جانباً ثم يبدأ بالاكل))

طعام بائس يذكرني بوليمة حاكم مخلوع....

ذات يوم جاءت تذكرة دعوة بأسم السيد مدير عام السكك الحديدية.. لقد سقطت بيدي سهواً .. اخذت التذكرة واستعرت زياً انيقاً ثم ذهبت الى هناك...

((يحاول تجسيد مشهد الدعوة))

عندما وصلت الى هناك استقبلني شاب انيق جداً تصورت في باديء الامر انه صاحب الدعوة .. ولكني عرفت فيما بعد انه كبير الخدم..

كان كل شيء مذهلاً وجميلاً... سيدات انيقات معطرات ما رأت عيناي مثلهن من قبل..

رقص وغناء وقهقهات...

أحسست حينها أنني في مملكة الفراشات ...

اخذت ارقص وأرقص وأرقص...

((يتوقف عند الجدار))

يا سيدتي.. زيدي من انفاسك

أتعلمين ما اتمناه الان... ان احضر حفلاً مثل ذاك واراقصك حتى الفجر

((بشي من الخجل)) ستكونين اجمل الحاضرات سنجلس عند حافة بحيرة الاسماك الملونة حينها انادي كبير الخدم ذاك.

((يشير بيده)) هي أنت .. اجلب لنا عصير فاكهة التفاح وقطعتين من الكعك والحلوى احضر لنا وجبة عشاء فاخرة مع انغام موسيقى هادئة

نعم هذا ما كنت سأفعله...

كنت سأطلب من الحاضرين ان يستمعوا لكلمتي

ايها السادة ايتها السيدات...

يا ابناء الكروش المنتفخة ... ((قطع))

عفواً.. عفواً...

يا ابناء السادة المحترمين جداً جداً

من دواعي سروري وافتخاري ان تكون معنا وبصحبتي هذه الليلة سيدة عظيمة الشأن من سيدات المجتمع الضوئي...

سيدة اطلقت انفاسها لتذيب جدار الصبر والعزلة...

انها السيدة جارتي... ((قطع))

((مع الجدار)) ها ما رأيك بهذا .. اليس جميلاً حسناً .. حسناً يا ملاكي لابد من العودة بعد هذه السهرة الممتعة

لنأخذ قسطاً من النوم والراحة...

((يستلقي ارضا))

لابد من النوم .. اتمنى لك حلماً جميلاً وأنا سوف احتضن حلمي .. نعم حلمي .. حلمي .. حلمي.. ((يستذكر))

منذ كنت صغيراً كانت لي احلام كثيرة مثل احلام الفناجس بيت صغير ومروحة من القصب بيد حبيبة

تحرك العشق في وجهي... واطفال يمرحون بدفء مداعباتهم...

اصبح الحلم يابساً... ((يستذكر اباه))

كان ابي يقول لي لا تدخل دهاليز الحلم ودع قدميك على صخرة حارقة...

يا بني لا تقترب  من الذئب.. حتى لو كان ميتاً... ودع الذئب للذئاب...

دع قدميك على صخرة حارقة...

دع قدميك على صخرة حارقة...

لم ادرك قول ابي حينذاك .. اخذ الحلم ينمو في رأسي مثل زهرة شيئاً فشيئاً...

((ينتبه الى نفسه ثم يتوجه نحو الجدار))

ماذا بكِ اسمع انفاسك تكبر...

هل انتِ مريضة... قلقة ... منزعجة من شيء ما لا تبالي يا سيدتي...

في مثل هذه الحالات.. كانت جدتي تقول لي شم رائحة كف يدك كي تحس بالسعادة ويذهب عنك القلق..

((صمت قصير.. وبشيء من التردد))

هل انتِ متزوجة... ؟

((يستمع الى الجدار))

ماذا أنت عذراء... ((فرحا))

حسناً... حسناً...

وأنا كذلك عذراء... عفواً اقصد غير متزوج لم تأتِ الفرصة لذلك... ((يستذكر))

عندما كنت شاباً في عمر العشرين.. كانت جارتنا تنشر بذور حبات الشمس على سطح دارهم كل يوم كنت ارقبها وهي تُقلبُ اكوام البذور وتردد اغنياتها الجميلة... حتى ذات يوم طلبت مني ان اساعدها ... كنت سعيداً بذلك..

لقد احببتها كثيراً ولم يكن بمقدوري البوح لها بما يدور في صدري نحوها..

حتى صدمت بيوم زفافها من رجل يسكن قرية شمالية بعيدة...

حاولت ان اهديء روحي الهائجة ... قررت الاعتكاف ووضعت عواطفي الرطبة في راحة يدي

((يمد يده نحو الجدار))

راحة يدي... راحة يدي...

((بتردد)) هل تسمحين لي ان امدَ يدي نحوك كي تمطري انفاسك فيها...

((يلتقط قطعة تباشير من الارض ويبدأ برسم صورة فتاة على الجدار كأنه يستحضرها الى زنزانته))

يا ما اجملك يا سيدتي...

ها انت كما تخيلتك .. نعم كما غرستك في ذاكرتي اهلاً ومرحباً بكِ يا سيدتي... اليوم تحتفل الكائنات بمقدومك... سأقيم حفلاً بهيجاً لأجلك.. سترقص الفناجس وتحلق فوق اشجار الزيتون...

لقد انتظرتك طويلاً ... اجلسي يا ملاكي...

يا اميرة الزمان.. أنا رهن اشارتك...

((تسمع صوت ابواق ملكية" "يقلد شخصية قائد عسكري))

يا اميرتي ... ها انا عدت من ساحة المعركة

لقد افنيت من عمري عشر سنوات للدفاع عن عرشك أنا جندك المخلص.. سهرت ليالي عدة دون اكل او شراب وتخبأ حلمي مثل فأر خائف... لم يعد في عيني حينها سوى الهروب من صرعة الموت ، وتمرقت اوراق ذكريات طفولتي...

ولم احسب لذلك اعتباراً ما دمت في نظارتك تتألقين هاك جعبتي الممتلئة بفتات خبز يابس...

لقد كانت معارك حامية وقاهرة... رعب وانتظار حقيقيٌ للموت... قصف المدافع .. انفجارات ... دماء... وها انا امامك مثل عربة قطار مهملة ولكني .. ابقيت يدي مشدودة على ورقة حلم صغير...

اسمحي لي ان امدها لك...

زيدي من انفاسك نحوي... كي اقتل صبري المخنوق في صدري... زيدي ... زيدي

((يدور في المسرح حتى السقوط))

((بعد صمت طويل... تظهر عليه علامات الكبر .. تسمع صوت قطارات تتحرك واصوات دقات لساعات مختلفة))

إنه صوت القطار .. جاء ينفث في المحطة روحاً من جديد.. لا بد من تعديل نظام السير قبل ان تتقابل العربات وجهاً بوجه...

((يبدأ بحركة التعديل))

قطار خلف اخر ، ومحطات منسلخة من تعب الزمن .. محطة بعد اخرى مثل ليل ونهار... عربات مثقلةٌ باللاشيء... وشيء من الهموم تصاحبها اغنية القطار الحزينة... يا سيدتي...

منذ سنين وانا اعمل على فتح نفق واسع في هذا الجدار الاصم كي اصل محطة دلالك اتعلمين يا ملاكي...

إن اجمل ما فيك هو انك لا تكبرين

ولم يستطع هذا الأصم ((يشير الى الجدار)) ان يأخذ رونقك الجميل عبر كل السنين..

أنني ... أنني ...

احبك .. نعم انني احبك

رغم عطل الحواس لدي... يا طائري الاخرس

إن قلبي يعتصر جراء صمتك العنيد

ففي جسدي جرحٌ جعلته نافذة للغة عينيك الجميلتين...

يا ملاكي لا تعيبي لفقر حالتي...

ففي نفسي شيء يكبر ... يكبر دوماً مثل ثروة الاغنياء      لا اعلم إن اخبرتك به ماذا ستفعلين ...

هل تتبعي رجل القرية الشمالية..

ام ستشدي كفينا بسحر صمتك...

خذي يدي... هاك يدي واقرأي طالعها

ستجدين مكاناً لعنوانك...

((يمد يده نحو الرسم))

الله ما اسعد الانسان حين تلفه اوراق الحب لحظة اليأس سأجعل من هذه الزنزانة متحفاً ... مرقصاً... زورق عاشق في غابة فناجس...

سأذكر أمي وأبي ومهدي ورضاعتي .. نعم سأكون طفلاً .. طفلاً...

((يدور فرحاً مقلداً حالة الطفولة .. يدور ويدور حتى يسقط ارضاً.. يسمع صوت المطر مع صوت القطارات))

((يتحرك يمنة وشمالاً"))

انتبهي ايتها العربات المتماسكة ببعضها

المطر قادم كي يغسل طرقك الحديدية ...

رغم ان المطر اصبح مارداً .. يسقي العشب ليحيه ثم يزيد ويزيد ويزيد حتى الموت غرقاً...

ما الطفك ايتها السيدة المضطجعة في عمق الحلم

حلمي .. حلمي ... حلمي ...

((صوت الاب))

* يا بني لا تقترب من الذئب....

حتى لو كان ميتاً ... ودع الذئب للذئاب

دع قدميك على صخرةٍ حارقة...*

لم يجد ذلك نفعاً يا أبي...

   لم يجد نفعاً .. لم يجد نفعاً ((يسقط ارضا))

((صوت الاب))

حاول ... حاول ... حاول ....

((يحاول الوقوف بثبات يمسك بقطعة التباشير ليترك مؤشراته على الجدار كانه يحسب السنوات التي مرت به))

يا ... عربة خلف اخرى .. تزاحمها السنين

عربات اثقلتها انفاس البشر...

عندما كنت في محطة التحويل وحيداً ويأتيني الليل أبدأ بقراءة الصحف والمجلات التي تحوي صوراً ملونة للمشاهير .. هذا ما كنت مولعاً به... كم تمنيت ان اجد ذات يوم صورتي هناك واقفاً بجوار قطار طويل وسريع ((يحاول تقليد حركة سير القطار))

قطار طويل يعشق المحطات كلها... تتسرب ادخنته الى ثغرات رغبة المسافرين... ينقش الاف القصص والحكايات .. نعم قطار نحو محطات قريبة وبعيدة شمالاً وجنوباً...

انه السفر الطويل وأي سفر ذاك الذي تجدين فيه اسرار المدن...

كم انا مشتاق لرحلة سفر طويلة

((ينادي على السجان))

يا سجان ايها السجان ((لا احد يجيب))

فك عني هذه القضبان اللعينة كي افترش اشرعة السفر... ستصل بي عربة الرحلة حيث السواحل الرملية الرطبة وهناك سفينة مشرعة صوب الجزر...

ايها السجان... لماذا انت خائف

دع الخوف يغادرك ودعني اغادر عزلتي.

ايها السجان إن روحي تحتضر وأوردتي تكاد تصبح حبالاً للنشر...

((صوت الاب))

يا بني... لا تقترب من الذئب... حتى لو كان ميتاً ودع الذئب للذئاب...

دع قدميك على صخرة حارقة...

((يصرخ))

لا... لا... لابد من انهاء هذه المهزلة لن ادعك تخنق الحلم...

يا ملاكي ((يحاكي الرسم)) آن الاوان لنفك سرج الخيل...

اريد ان اغادر... اريد ان اغادر

((يظهر مجموعة رجال في عمق المسرح لا تظهر من ملامحهم شيئاً في اجتماع على طاولة مستديرة...))

((يتقدم احدهم ويضع ملف من الاوراق فوق الطاولة))

الاول      :  ماذا يريد ؟

الثاني      :  يريد ان يغادر...

الثالث     :  هل جُن هذا الفنجس الصغير...

الثاني     :  لا أعلم.. ولكنه فقط يريد المغادرة...

الاول     :  يغادر

الثاني     :  يغادر

الثالث     :  يغادر           ((الجميع يضحكون بشكل مثير))

(- قطع -)

لا بد أن اغادر.. اغادر... اغادر

((يدور وهو يهذي بكلمة اغادر حتى يسقط ارضا))

((يزحف بأتجاه الجدار نحو الرسم))

زيدي من انفاسك ... احس بالخناق لم يعد يجدي نفعاً ذلك الصبر العميق لندعهم في امرهم ونحلق بجناحي فنجس طليق ايتها العروسة الفاتنة يا رمق المعمورة.

((يسمع صوت دفوف وأهازيج تعبر عن فرحة العرس... ينزل من اعلى المسرح قطع من قماش التول الابيض))

هذا يوم عرسك... يوم تولد فيه اخر المدن الميتة...

ألم اقل لك سيأتي يوم تصبح انفاسك أغنية حصاد وفير... سأجلب لك كل ما ترغبين من فساتين ملونة وقبعات من حرير

وأساور من فضة وذهب مرصع بالدر

سندور هنا وهناك شمالاً وجنوباً.

((يقلد صوت القطار وحركته ، يلتقط دمية ورضاعة حليب"

"صوت بكاء طفل))

اسكت ...

اسكت ايها القادم على عربة الصمت لا تبكِ يا ولدي...

ها هي الانفاس تصبح طعاماً شهياً انها الفناجس الفرحة تنشد للعرس اغنية السفر الطويل...

انها فرحة... فرحة .. فرحة

((يدور الى ان يسقط))

((يسمع صوت الباب يفتح .. ينزل من اعلى المسرح حذاء عسكري كبير معلق بخيط))

ماذا تريد...؟ أيها الطاغوت المزرق هذا جواز سفري

وهذه تأشيرة السفر ... وهذه الاختام الرسمية كلها

هذه صورتي ... وهذه صورتها

دعني أذن .... ارجوك

لقد كبر الحلم وتجذر في عروقي مثل شجرة التين

لم اعد احتمل سياطك الاسود أيها الغراب الشؤم... لا تطفيء الحلم في حفرة نواياك الشريرة

((صوت السجان))

- لا تقلق...انها ساعة اطلاق سراحك-

السجين    :  يا .. كم من الوقت تدحرج وأنا تحت جفون الحلم اغفو...

              أيها الشيء الذي تلبس قراري مسرعاً دعني اذن الملم شظايا الحلم وأرحل لحظة فيضان الصمت...

              أني احس بالخناق رغم كل شيء

((صوت السجان))

              هيا عجل المغادرة.. فمكانك هذا بيت لا يمتلكه الحالمون...

السجين    :  حسناً يا سيدي أنا جاهز للمغادرة ولكن في جعبتي طلب اخير...

((بتردد)) كيف هي ... ؟

منذ عهد طويل ... تسربت انفاسها نحوي ولم يعد لي سواها في ذاكرتي المتعبة كيف حال جارتي في الزنزانة المجاورة...

((صوت السجان))

أي حلم سعيد وامنية حارة تعتريك ايها الفنجس الصغير... من اخبرك بوجود زنزانة بجوارك تسكنها جرةٌ لك...

السجين     :  هذا ما اخبرني به احد العاملين هنا منذ خمسة وعشرين عاماً... قال لي انها شابة جميلة...

"صوت السجان"

              ((ضحكة قوية))

               يا لك من حالم كبير ايها الفنجس الصغير

               هيا عجل المغادرة.. وأعلم ان من يجاورك مرحاض ليس اكثر...

السجين    :  ((بأندهاش شديد))

              ماذا قلت مرحـــــاض .. ؟

              هل يعقل .. ايها الصلف.. كيف تجرؤ على قول هذا

((صوت السجان))

              ((ضحكة عالية وخبيثة))

              قلت لك مرحاض ايها المرحاض

السجين    :  بل انت مرحاض ووقح .. ياعديم الذوق..

((صوت السجان))

              ما هذا الكلام.. لقد طال لسانك ولابدمن قطعه... حسناً لابد من عقابك بما تستحق...

              ((اظلام... يسمع صوت السجين وهو يتلقى ضرباً شديداً ... ثم يضاء المسرح مع ضحكات السجان المبتعدة شيئاً فشيئاً ليظهر السجين وبه علامات الضرب))

السجين    :  آه يا أولاد العاهرات...

              ايها العقيم... ايها السجان العقيم يا سخرية النساء... ايها الصلف الذي يخشى الحلم من احتضانه ... ((يصرخ))

ايها العقيم .. اتسمعني اني اشتمك... اشتمك أشتمك... ((بشيء من الحزن وهو يسقط على ركبتيه))

آه إن رأسي يؤلمني وذراعي كأنها كسرت

أي محطة هذه التي تمر بها عربتي الآن

((صوت القطار))

جك ... جك... جك...

انه قادم من الشمال والجنوب...

لابد من الاسراع في تنظيم سيرهم قبل ان يتقابلا وجهاً بوجه ((حركة يحاول اعدال السكك))

انتبهوا... تمهلوا... لا تسرعوا...

((يبدأ بحركة التنظيم)) خذ هذا لك... وأذهب وهذا لك انت ... وهذا هكذا ..

اذهب بالاماني كلها ... وأنت ايها القادم من بعيد تمهل ولا تطلق صفيرك عبثاً

فما دام الحلم يقظاً مثل فقس بيضة فنجس

لا تقترب متخبطاً من ساحل الدم...

اوقف اجنحتك ... تمهل ايها القادم

تمهلوا جميعاً....

((يقلد صوت حركة القطارات))

جك... جك... جك ...

وانت ايتها الجارة المدللة لم يعد لبقائك هنا نبضٌ ولا انفاسٌ تحرك اشرعتي

احملي حقائبك كلها... شدي الحلم والرغبة معاً كي نسرع بالرحيل...

رغم ان صوت القطار مرتبكٌ

((يحاول جمع بعض الحاجيات))

صوت القطار ... مرتبكٌ

صوت القطار ... مرتبكٌ

((يسمع صوت القطارات تضرب ببعضها تحدث ربكة في حاجيات المكان... صمت طويل...))

((يتوجه الى الجدار يضرب عليه وهو متعب ومنهار جداً))

يا سيدتي ... يا ملاكي...

أتسمعيني... ارجوك...

حسبت انها كانت الفرصة الاخيرة

هناك عند المحطة كنا

سنجد ازهار الشمس الكبيرة قد تفتحت واصبح المكان عشاً للفناجس

ايتها الملاك يا مولد الحلم...

رغم خسوف الحلم.. فما زالت العربات قادمة تجلب الثلج والقصب معاً...

انظري هناك عند الافق

انها قادمة نحو كبد الدنيا...

سنشدُ وننشدُ اغنيةً ورقصة

ولن ندع ذلك السجان اللعين يبعثر اوراق الحلم...

((يصرخ)) ايها السجان... ايها الطاغوت

         مهما تهشمت عجلات العربات

         فلغيرها تدور المحن

         عربات اخرى اشم قدومها

         انها الواحدة تلو الاخرى

ايها السجان ... ايها المرحاض

        ايها السجان

((صوت الاب من جديد))

    لا تقترب من الذئب حتى ولو كان ميتاً

     ودع الذئب للذئاب

الذئب .. الذئب .. احذر الذئب

((يصرخ))

       لا... لا ...

       لم يعد يطيلني هذا الذئب الاجرب

سأقتلع مخالبه وانيابه القذرة...

سيكبر الحلم .. وتولد الحقيقة ...

      ((يتوجه نحو الرسم على الجدار))

وانت ايتها الحبيبة المستترة ببرقع الحلم

جاء وقت الغناء والرقص...

لم يعد للفناجس ابواب اقفاص مقفلة

((يبدأ بالرقص بشكل غير طبيعي.. حتى يسقط على ركبتيه ساكناً))

      (( تسمع اصوات الفناجس عالياً))



- اظلام -

                       * النهاية *

- هامش -

*  الفناجس جمع فنجس

    وهو طائرصغيرالحجم جداً يمكن احتوائه في علبة سكائر من صفاته...

    يأبى الانتقال من قفص كبير الى قفص صغير

    يعمل المربون له على نقله من قفص صغير الى قفص اكبر حجماً خوفاً عليه من الانتحار...








View bayat's Full Portfolio
saiom's picture

you have such a kind and merry face, i wish
i could read your language.. like your eyes
your poems must reflect your soul