مفهوم الحياة

المصدر: كتاب بعنوان: مطالعات في الكتب والحياة/ عباس محمود العقاد ، 1987



إن الحياة عبارة عن عمل فني تحكمه الأصول التي تحكم بيت الشعر ولحن الموسيقى وصورة المصور ، وتخرج الحياة في جملتها وتفصيلها من يد الفن الإلهي كما تخرج الدمية من يد الصانع القدير ، إن الفرق بين نظرك إلى الكون نظرة فنية وبين اعتقادك الفكرة الفنية في مظاهره هو أنك قد تنظر بعين الفن إلى شيء لا أثر للفن فيه ولكنك إذا اعتقدت الفكرة الفنية في ذلك الشيء نظرت إليه بتلك العين وزدت على ذلك أن تجعل الفن نفسه منطوياً فيه .



إن الكون كله والحياة (وهي أعم من الكون في نظري) والفن ومناظر الأرض والسماء كل أولئك مظهر للتآلف أو للتنازع بين الحرية والضرورة أو الجمال والمنفعة أو بين الروح والمادة .. قوى مطلقة وقوانين تحكم هذه القوى المطلقة ، وكلما ائتلفت القوى والقوانين اقتربت من السمة الفنية والنظام الجميل الذي يبين بالمادة صفاء الروح ويسبر بالقيود أغوار الحرية ، وهذا الائتلاف هو دستور الفن الإلهي المحيط بكل شيء وهو فلسفة الفلسفات في هذا الوجود .

وهكذا فلتكن الحياة على هذا المعنى فلنفهم ضروراتها وقوانينها فما الضرورات والقوانين إلا القالب الذي تحصر فيه الحياة عند صبها وصياغتها ليكون لها حيز محدود في هذا الوجود ، ولتسلم من العدم المطلق الذي يحولها إلى فوضى ، وإلا فتصور عالماً لا موانع فيه ولا أثقال .. لا يكون إلا فضاء بغير فاصل أو هيولي بغير تكوين .

فقوام الأمرين في نظري أن نجعل من القانون حرية ومن القيود حلية ومن الواجب شوقاً وفرحاً ، فهذا هو المثل الأعلى في الحياة وهذا هو لب لباب فنها الإلهي ، وتلك هي سنة الله في خلق هذا الكون الذي جعلت قوانينه مهراً لحريته وسبباً للشعور به فقام على هذا النظام وسطاً بين العدمين عدم الفوضى وعدم الجور الأعمى .

وكأن الجمال هو غاية الحياة القصوى التي هي أسمى من جميع ما تناله المنافع والأغراض ، ونحن لا نجد الجمال ولا نوجده إلا إذا ألفنا بين القيود والحرية وأصلحنا ما بينهما من التنازع والتنافر ، وإنك لتستطيع أن تتخذ من "التأليف بين القيود والحرية" ميزاناً صحيحاً لوزن الأمم والأفراد والحضارات والآراء والفنون ، فكلما اقتربت من الأمة أو الفرد أو الحضارة أو الرأي أو الفن إلى حسن التأليف كانت أقرب إلى السمو النبالة والصدق لأنها أقرب إلى القصد الإلهي .



ويقابل النظرة الفنية النظرة العلمية والنظرة الفلسفية وكلاهما ناقص ومنحرف بعض الانحراف عن الفطرة لأنهما يفترضان الخروج من الكون واعتزاله لرؤيته ورصد حقائقه ، ولن ترى الكون حق رؤيته وأنت تحاول الخروج منه والانفصال عنه ، إنما تدرك حقيقة الكون وأنت بعضه أي وأنت متأثر به مؤثر فيه متصل بكل ما فيه من سر وجهر وسرور وألم .



الدنيا جمال نصل إليه من طريق الضرورة ، والدنيا روح نلمسها بيد من المادة فالروح هي الحقيقة والمادة هي وسيلة الإحساس بها ، وأنني أعجب لفهم حقائق الأشياء على الوجه الذي يجعل العالم المادي مناقضاً للعالم الروحي كأنهما عالمان منفصلان في فضاءين منعزلين ، فالصواب عندي أن العالم كله قوى من طبيعة الروح التي نتصورها وما الفرق بين الظاهر والباطن منها إلا في طريقة الإدراك واستعداد الحواس .


Author's Notes/Comments: 

حاول أن تقرأ هذا المقال وتستوعب ما فيه ولا تتردد في الاتصال بي لأي تساؤل

View wnature's Full Portfolio