نبيل وادي



الليلة الثانية بعد الأربعين

قراءة: محمد الأحمد

جاءت القصص القصيرة، واحدة تلو الأخرى، بلغة شفيفة مشكلةً انسياباً عفوياً، لموضوع واحد تنطوي عليه كل مجموعة القصص التي كتبها القاص (نبيل وادي) الموسومة (الليلة الثانية بعد الأربعين) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة 2004م، والتي احتوت على ثلاث عشر قصة قصيرة اخرى، حيثُ تواصلت بلغة واضحة الدلالات والاشارات، لتأخذ القارئ إلى عزلة القاص، كفنان اعتزل فنه فنبذه القاصي والداني قائلين له :- (بأنك أيها الإنسان قد متَّ منذ زمن بعيد. وزمنك الرخو يعدو بأقصى سرعة) مع إيقاع رنة الهاتف، حيث زحام العالم (في الدائرة والمربع والمستطيل- ص7).. ورنة الهاتف تعني تكنولوجيا العالم الجديد انهكت الانسان الذي لم يكن على سطح متابعته، فبقي غريبا تاركا (عشاء بارد)، من بعد انشغال بهموم حادة الوقع، (البقية في حياتك.. كنت انسانا طيباً وموتك المفاجئ بهذه الطريقة يحزّ في نفوسنا، ولكن اخبرنا كيف امكن لخيط عنكبوت ان يبقي جثتك معلقة في الهواء طوال تلك السنوات)،وقد ذكر رنة الهاتف في اربع من قصص المجموعة، و تتراوح اغلبية النصوص ما بين (الواقعية واللا معقول). بمثلما اغتربت قصة (نزهة) عن بقية قصص المجموعة، كونها امتازت بفرض التتابع الهادر، وعمودها حكاية متواترة تصور ما يجري عبر حوار بين اب وابنته (الطفلة ذات الاربعةاعوام- ص 45)، قصة تستوقف كل قارئ لها، لانها تحوى اسئلة حاضر ساخن، من اسئلة المغايرة، وقد دونت القصة الكثير من التساؤلات، رغم سلاستها، منتمية إلى مجموعة الفلاسفة الذين عرفوا باسم فلاسفة الاختلاف، ودشنوا فكر الاختلاف والغيرية، ومارسوا استراتيجية المختلف والمغاير، أمثال (ميشيل فوكو) و(جيل دولوز) و(جورج باتاي) و(فيلكس غتاري) و(موريس بلانشو) وسواهم. وكان هؤلاء الفلاسفة مختلفين في فلسفاتهم عن كل المذهبيات الفلسفية الميتافيزيقية السابقة لهم، سواء المادية منها أم المثالية، حيث طالبوا بالكشف عن المسكوت عنه، وبالإصغاء لمن لم يسمع صوته بعد، وبإعادة الاعتبار للمهمّش والمقصي والمنسي.. فما بين الأسئلة الطفولية البريئة، (الاب وابنته) زحمة من الهموم تشغل بال الاب، و قد حملت القصة كفها عاليا ملوحة بما للبراءة من اتساع بديع، وفهم عملي، حيث كلمة (جهنم) حوت استياء الاب من زحام العالم ومشاغله، واختناقه الى حديقة غناء تلعب بها الطفولة، وفرحتها. (بابا جهنم حلوة.. خذنا كل يوم الى جهنم!)، ودون شك، هذه القصة، قدمت مثلما قدمت القصة العراقية الجديدة من جملة اجتراحات متنوعة البناء، تصيرت كعلامة ضمن المنجز القصص العربي، المغتني كماً، وكيفاً، معلنة عن هويتها المتميزة. كون فن القصة القصيرة جنساً شاملاً يحوي التجنيسات الكتابية كلها، ويلفها بمعطفه، بكل ما فيها من معرفة، ومهارة… كالسمفونية التي تلم العلوم، والاختلاف. حيث تمتد خيوط النسيج الفني من الفطنة، و الحذاقة.. مؤلفة من القصص المتعاقبة فصولا تاريخية استراتيجية، مدونة الحق الفاصل، و كاشفة عن مدى الألم البالغ الذي يتسع لمخيلة القاص العراقي، ليجرب قوله عما انهكه من الجوع، والقمع، والتمسيخ، واقصاه الى البعيد عن عالم اليوم الغني باجهزة الاتصال التكنولوجية. فثمة ثيمة عبقرية عراقية اكبر من أن يدعى بها.. حاول الكاتب من خلالها أن يضع بصمته البديعة عبرها على هذا التاريخ الشامل، الذي اتسعت له مداركه، وصارت خطوته الفاعلة في المشهد الانساني، المسفر عن وجوه ألاعيب الهيمنة على الثروات.. في عالم تكنولوجي مزدحم بالمعلومات الفضائحية، عما فعل بالإنسان السابق، وصار اليوم أكثر تقنية في الاستغلال، بعد أن تم إقصاء ابن هذه الأرض الثرية إلى ابعد مدى، و بقي محصوراً يعاني ويلات الجوع، وتهديدات الدمار من داخله، من جراء الاطماع الستراتجية. أدرك كنهها المثقف، الحساس، صار يعرف ما سيحدث غداً من خلال وعيه حيث خبر صانع الخطاب، وطرق تفكيره، قبل أن يصله بخطابه الجديد. كونه المتعامل، مما مضى، و طوال حياته مع مجمل الخطابات البائتة بأنها لن تنطلي عليه كلعبة المصنّـع لثوب يلبسه العربي (القديم) الذي لم يتعامل طوال حياته إلا مع البعير، و الصحراء. من خلال نظم واضحة حكمت الاديب في سرده الذكي، إذ تبلورت الصور الواضحة برغم التعتيم المبرمج، ليس ليعطي الوثيقة الحقيقية عن ذلك الاستلاب اليومي، فحسب؛ بل ما بعد الدفن وتتفسخ ما بعد (الليلة الثانية بعد الأربعين). وفي قصة النملة العاقلة، تمكن من ايصال موضوع الحرمان، والفاقة التي اكلت ملابس الاطفال للعيد الذي يترقبوه... (حين وجد حسين الحرامي ربة البيت نائمة مدَّ يده الى الكيس المركون في الزاوية وقبض بأصبعه على شيء ما، وما ان ذاقه حتى عرف انه ملح، حينذاك خجل الحرامي واستغفر ربه، وترك البيت دون ان يسرق شيئاً- ص90). القصة القصيرة فن الإيجاز والكثافة، والصورة التي تتواصل بذهن القارئ، وخاصة تلك القصص التي يحكم كتابها على القارئ، عبر اجادته فن الاقناع، فالقارئ، على الدوام يبحث عمن يقنعه، لانه القصص التي لا تقنع القارئ وتشبع تساؤلاته، تبقى قصصا غير متصلة، وربما مهملة من اغلبية قرائها، والقاص المقتدرهو من يجبر القارئ على أن يمرّ ضمن ما أراد. من أن يمرّ من خلاله. القصة القصيرة إطلالة من فسحة ضيقة إلى عالم يزخر بالمتبدلات والنضوج، وكل جديد يزيح ما عتق. حيث جاءت القصص لتجرب جنحيها في الريح والمطر، وتؤكد النصوص في هذه المجموعة الشفافة بان القاص (نبيل وادي) قد جرب، وتستحق تجربته الثناء.

‏13‏ فبراير‏، 2005

Author's Notes/Comments: 

mu29@hotmail.com محمد الأحمد  


View alahmed's Full Portfolio
tags: