أين المقال الأدبي الذاتي؟

"قرأ البعض ما أكتب ، نصحني أحد أن أعيد كتاباتي على هيئة قصة قصيرة ، أعجب المقربين بما أكتب ، نصحني أحد أن أعيد النظر فيما أكتب وتحديد ما أريد توصيله ثم عرضه بشكل أكثر بساطة " ، ولم أجد من ساند كتاباتي سوى الدكتور كاتب هذا المقال عن طريق الصدفة .." نيفين



أين المقال الأدبي الذاتي؟



المصدر: مجلة الهلال ؛ أين المقال الأدبي الذاتي؟/ د. محمد رجب البيومي) عدد يوليو 2000



كثرت الصحف والمجلات كثرة مستفيضة ، وقد حفلت بشتى أنواع القول ، ولكنك لا تكاد تقرأ بها مقالة أدبية كالتي كنا نعهدها من قبل ، وكان يحررها العقاد وطه حسين والمازني والبشري والزيات وزكي نجيب محمود .

ولن أتحدث للقارئ هنا عن معنى المقالة ، بما يتحدث به أساتذة النقد فلست من هؤلاء ولكني أتحدث كقارئ كان يجد في صباه طعاماً شهياً يستمرئه ويستحليه ، ثم مضى الزمن فإذا الطعام ضائع مفقود ، وإذا الشهوة إلى التهامه لا تزال قوية دافعة ، ويزيد في الأسف أن المقالات العلمية أو الأقرب إلى العلمية تنهمر انهمار السيل وليس في أكثرها ما يفيد لأن أصحاب الصحف قد حددوا أسماء وأياماً لكل اسم يوم لابد أن يظهر فيه المقال ممهوراً باسم صاحبه وكثيراً ما يلجئه الموقف إلى الافتعال والاجتزاز إذ المهم أن يكتب لا أن يفيد ، والعمل هين ميسور لأن المقال مجموعة معلومات تتراص وتتزاحم وقد ينكر بعضها بعضاً ولكن ذلك لا يمنع النشر ، فاليوم محدد والاسم معروف .

وكيلا نضل في شعاب ملتوية أحدد ما أعنيه بالمقالة الأدبية وقد نقل الأستاذ عباس محمود العقاد قول فرانسيس باكون "إن المقالة تكتب على نمط المناجاة والأسمار وأن يكون فيها لون من ألوان الثرثرة والإفضاء بالتجارب الخاصة والأذواق الشخصية" ، وقال غير باكون: "إنها تدور حول شيء مما أبصره الكاتب أو سمعه أو شمه أو تصوره ، والعبرة دائماً بأن يحس الكاتب إحساساً قوياً بموضوعه وأن يعبر عنه بعبارة قوية رائعة ."

وخلاصة هذين القولين أن المقالة الأدبية ذاتية تعبر عن عواطف الإنسان في أسلوب جميل مؤثر فالكاتب يستمد عناصر مقاله من إحساسه الذاتي سواء كان هذا الإحساس خاصاً بهواتفه وآماله وآلامه داخلياً أو متنقلاً إلى مشاهد الحياة وانطباعها في نفسه خارجياً فنفسه هي البئر التي تمتاح منها خواطره ، وأنفاسه هي التي تتردد في كل سطر ، والأسلوب المشرق وعاء شفاف لهذه الخواطر الإنسانية! هذا ما أعنيه بالمقال الأدبي المفقود لأننا لا نجد في السيل المتراكب بالصحف والمجلات بعض ما كنا نقرأ من هذا اللون الممتاز ، وقد تحدثت في ندوة أدبية عن ضياع هذا الفن وأسفت لفقده ففاجأني أستاذ كبير بلقبه ومنصبه فقط يقول في تأفف: إنك تريد أن ترجع إلى عهد المنفلوطي في زمن الاحتلال والإقطاع! والدنيا قد تغيرت ، وأشد ما آلمني أن يذكر المنفلوطي رحمه الله مقروناً بعهد الإقطاع إذ لم يبك أحد ضحايا الإقطاع كما بكي المنفلوطي حتى قال شوقي في رثائه:



من شوه الدنيا إليك فلم تجد في الملك غير معذبين جياع



واختلاط المسائل السياسية بالقضايا الأدبية مما يهرع إليه أدعياء النقد حين لا يجدون ما يقولون ، وقد رأيناهم في مجال النقد القصصي يتحدثون عن كاتب ما بأنه ربيب عهد النكسة ، وعن الثاني بأنه ربيب عهد الانفتاح ، وعن الثالث بأنه من طلائع عهد العولمة ، أما فن الكاتب ومدى توفيقه وموضع تعثره فلا شيء ، ومن ذكرياتي الحبيبة مع أخي الأديب الفنان الأستاذ كمال النجمي رحمه الله أني أرسلت له مقالاً عن "الحب الصامت" فحدثني تليفونياً أنه سيجازف بنشر هذا اللون وقد تفضل فنشر المقال مشكوراً في عدد الهلال أكتوبر 1983 تحت عنوان: من أوراق الورد – الحب الصامت ، ولكني امتنعت أن أسترسل في هذا المنحى كيلا تكون هناك مجازفة أخرى ، وأكبر الظن أنه خاف علي إذ أتحدث عن الحب وأنا عالم أزهري ولكنه يدري أيضاً أن كبار علماء الإسلام من أمثال ابن داود الظاهري وابن حزم وابن الجوزي وابن القيم قد وضعوا كتباً مستقلة في ا لحب ، وضعوا كتباً مستقلة لا مقالات طائرة ، وهم خاضعون لإلحاح عنيف عبر عنه الشاعر أحمد محرم حين قال:



ما يصنع القلب الطروب إذا الهوى بلغ القرار وجال في الأعماق؟



وقد يقال – وقيل فعلاً- أن ازدهار الرواية وانتشارها بين العامة والخاصة قد صرف الناس عن المقال الأدبي فهي تتسع لما يتضمنه المقال الأدبي من تشريح للعواطف وتفسير للخوالج وترصد لأخفى الخوافي من همسات النفس ، وقيل هذا أيضاً عن الشعر ، وهو قول واهم لأن جنساً أدبياً مهما ازدهر وانتشر لا يغني عن جنس آخر ، وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور من أكبر روائيي هذا العصر وقد كتبا المقالة الأدبية جوار فنهما الذائع إذ أحسا ضرورة ملزمة تلجئهما للحديث في صورة المقال ، وقد جمعت مقالاتهما في كتب خاصة فصادفت ما صادفته القصة من رواج ، ثم إن التحليل القصصي الذي قيل عنه أنه أصبح بديلاً عن المقال قد يكون من أسباب إخفاق الرواية إذا زاد عن حده فهو يصيب الحركة المسرحية بالشلل وهو يحول بعض القصص إلى خطب!! وأسرار النفوس أعظم وأكبر من أن تندرج تحت لواء واحد ، وإذا كانت هذه الأسرار ترى في البسمة واللفتة والإيماءة كما تتضح في الفن التشكيلي في مختلف فروعه فكيف يقال أن المقال قد ضاق بها وضاقت به ، إن استرسال كاتب المقال الأصيل في نفض خوالجه والتفاته إلى الفتات المبعثر من زاد الحياة ليجمعه في طبق شهي مما يقدم للقارئ متعة ترتفع به كثيراً عن واقعه المعيشي فينسى هموم الحياة إلى مدى ، وهي حالة يعرفها القراء حين يطالعون نفثات مي والعقاد وجبران والريحاني ونعيمة والمازني والبشري والزيات مع انفراد كل منهم بطابع خاص ، أما الرافعي بسبحاته الطائرة في كتاب وحي القلم فلن يلحق به لاحق وقد ظل مكانه خالياً .



الشعر ترجمة العواطف

وقد قيل أن كاتب المقال الأدبي يعطي القارئ المثقف المستنير ما في نفسه وقلما يزيد فهو يشرح معاني يحسها هذا المثقف المستنير في أعماقه ، وأنا أقول وهل الشعر إلا ترجمة عن العواطف وكشف للخوالج وبهذا الإفصاح وجد قارئ الشعر صورة نفسه فيما يقرأ فاستجاد واستعاد ، يشعر القارئ براحة نفسية حين يجد ما أكنه في أعماقه قد كشفه سواه بل قد يستشعر خجلاً لبعض ما يعتاده من النوازع النفسية ويظن نفسه غريباً شاذاً فيما يحس ويعاني فإذا وجد من يشاطره شجونه على نحو كاشف محلل ، شعر بما يشعر به المحرور اللاغب حين يهب عليه نسيم عاطر فينعشه شذاه ، وفرق أديب تارة ويقوم به عالم نفسي تارة أخرى ، فالأول طليق يرصد تيارات نفسه كما تجيء فيجلوها سافرة زاهية في مرأى نضير ، والثاني يجمع قواعد علمه ليدرج الجزئيات في كليات ثم يصدر الحكم وقد لا يصيب ، فالمتعة التي يجدها قارئ المقال الأدبي الذاتي حقيقة واقعة ، وغياب هذا الفن الرفيع مصدر ألم كبير.

ولو بقي لنا المقال الأدبي كعهده السابق منذ برع فيه المنفلوطي فكان فجراً وضيئاً لضحى مشرق ، لو بقي لنا هذا اللون الأدبي الممتاز لما سمعنا اليوم بحديث "قصيدة النثر" وهو حديث يضحك ويبكي ، لأن قائليه والداعين إليه معاً لا يحسنون شيئاً من أمره ، فالقائل ضعيف ساذج لا يدري شيئاً عن تراث أدبه في القديم والحديث ، والداعي المصفق يريد أن يجد له مكاناً في دنيا النقد وليس له زاد الناقد ولا موهبته فآثر التصفيق والهتاف ، والتقى الصاحبان على ضعف مخجل وضحالة هشة فتبادلا الثناء وعقدت لهما الندوات! وكم ذا بمصر من المضحكات!



أصدق المقالات

تنوعت المقالة الأدبية فمنها الزاجرة الناهية ومنها العلمية المربية ومنها الواصفة المحللة وليس هناك فاصل حاسم يمنع تداخل هذه الأنواع وتلاحمها عضوياً لدى الكاتب الكبير ، ولكن أصدق هذه الأنواع هي المقالة الساخرة الرحيمة معاً ، وأعني بالساخرة التي تنقد مظاهر شذوذ فيما حولنا نقداً خفيفاً يبتعد عن الضجيج الصاخب وأعني بالرحيمة تلك التي تتسع فيها نفس الكاتب حتى تشمل بالصفح بعض الذنوب ، وتعد النقص في الكائن البشري أمراً لا حيلة له فيه ، وقصارى أمر الكاتب أن يشذ به من نواحيه وأن يعين على تلافي أسبابه وأن يمتد بالقارئ إلى مدى أوسع مما ألف وعهد ، هنا يكون الكاتب صديق القارئ لا أستاذه لأن استعلاء الأستاذ مصدر نفور القارئ يمل ربما جعله ناقداً للكاتب يهجنه ويستعلي عليه ، مع أن المقصود الأول أن يكون معجباً بما قال عاملاً على الاستضاءة بهديه ، إن صاحب المقال الأدبي يحب قبل كل شيء أن يكون صديق القارئ وسميره ، وأن يفكر في الأسلوب الذي يدخل به إلى قلبه من أقرب طريق ، وكتاب المقالات اليوم في مجموعهم لا في جميعهم (ففيهم قلة نابهة مرموقة) لا يفرقون بين كتابة مقال في صحيفة وكتابة فصل في كتاب ، فأنت تقرأ المقال الصحفي الطويل فلا تشعر إطلاقاً أنك تقرأ مقالاً في جريدة ولكن تشعر أنك تقرأ في كتاب متعدد الفصول ، وقد تفاجأ بمصطلحات أجنبية وبحروف لاتينية تتكاثر وفي ظن الكاتب أنه يمتع قارئه بتعالمه وما درى أنه يصرفه عنه إلى غير عودة ، وقد يترك القارئ بعض السطور إلى ما بعدها فلا يحس أنه فقد شيئاً ، أو أن هناك سياقاً قد انبتر لأن منهج الكاتب أن يحشد ويجمع لا أن يحلل ويستنبط ، وبعض الناس يفهمون المقال الثقافي في أضيق حدوده فهم يحصرونه في المقال العلمي الخاص بشئون السياسة والتربية الاجتماع ، وكل ما يتصل إلى العلم بسبب ، وقد نسوا أن المقال الأدبي الخاص بالعواطف الذاتية مقال ثقافي ، لأن الكاتب حين يتحدث عن تجربة شخصية مرت به أو عن إحساس خاص نحو شأن من شئون مجتمعه إنما يعطي للقارئ نموذجاً حياً من نماذج الحياة تقتدي به إذا كان مصدر خير ويتحاشاه إذا كان مثار ضرر ، كما أنه في وصفه مظاهر الكون في شتى مجالي الطبيعة إنما يفسح من آفاق قارئه ، ويقفه على ما لا يعرف من مناحي الجمال والخير ، فإذا تحدث عن نوازع البغض والحب وعوامل الشقاق والخلاف وهواتف الأحلام والآمال ومخاوف الآلام والنزوات ، فذلك في صميمه نوع من التوجيه الجاد ، لم يهتف به واعظ في منبر إنما غرد به قلم كاتب فنان .



وبالمقارنة بين ازدهار المقال الأدبي بالأمس وانحساره اليوم أقدم من "مختارات الهلال" التي صدرت في سنة 1947 مجموعة مصطفاه مما نشرته مجلات دار الهلال لكبار الكتاب في مصر والعالم العربي ، فهذه المجموعة تجمع المقال الأدبي محاذياً للمقال العلمي ، وإن شئت فقل تجمع المقال الذاتي محاذياً للمقال الموضوعي فينتقل القارئ بين الاتجاهين كما ينتقل الطائر من فنن إلى فنن فإذا أمتع عقله ما يجده من ثمار الفكر فقد أشبع وجدانه بما ينعشه من أريج الوجدان ، ولا صلة لي بما ضمته المختارات من المقالات الموضوعية ، إنما أشير إلى جانب من المقالات الذاتية التي نفتقدها الآن .

وأول ما نشير إليه ما جاء عن عالم النفس حيث اتسعت المختارات لمقالات جيدة منها مقالة جبران خليل جبران التي تحدثت عن الوحدة الماثلة في حياة الإنسان: "مهما اتصل بالناس فهو يقضي بينهم بعض الوقت لينصرف إلى انفراد شامل يطول الحديث فيه بينه وبين نفسه لأن الحياة في رأيه جزيرة منفصلة عن جميع الجزر والأقاليم ، ومهما سارت الزوارق إليها على فترات ، ومهما بلغتها الأساطيل المزدحمة فإنها بعد رحيل الزوارق والأساطيل تظل منفردة ، فالإنسان هو الجزيرة المنفردة بآلامها المستوحدة بأفراحها المجهولة بأسرارها وخفاياها ."

وللكاتب في هذا التصوير هدف يرمي إليه وهو أن يستغل الإنسان وحدته فلا يأسى عليها قدر ما يحاول الانتفاع بها وقد أجاد التصوير المشخص حين قال: "حياتك يا أخي منزل منفرد عن جميع المنازل والأحياء ، حياتك المعنوية نزل بعيد عن سبيل الظواهر والمظاهر التي يدعوها الناس باسمك ، فإن كان هذا المنزل مظلماً فأنت لا تقدر أن تنيره بسراج قريبك ، وإن كان خالياً فأنت لا تستطيع أن تملأ من خيرات جارك ، وإن كان في صحراء فأنت لا تقدر أن تنقله إلى حديقة غرسها سواك ، وإن كان متنصباً على قمة جبل ، فأنت لا تستطيع أن تهبط به إلى واد وطئته أقدام غيرك ."



عالم الشباب والمرأة

بعد هذا التصوير الخيالي المؤثر ننتقل إلى التحليل الواقعي الملموس في مقال للأستاذ عباس محمود العقاد كتبه عن الخمسين في عمر الإنسان وهي شباب الشيخوخة في رأيه لأن ذا الخمسين شاب بين الذين نيفوا على السبعين أو الثمانين ، يشعر بهذا كما يشعرون به وإن لم يتعمدوه ، فإذا اجتمع مجلس من المجالس التي يختار لها الأعضاء ممن جاوزوا الأربعين ، رأيتهم يتصرفون في التقديم والتأخير تصرف الآباء مع الأبناء في الأدب والمعاملة ورأيت أبناء الخمسين ربما بدت منهم شيطنة التلاميذ في معاملة الأساتذة الذين يوقرونهم ويحيونهم ولا يخلونهم من فلتات الشيطنة إذ ذاك .

وتخلص العقاد من مقاله التحليلي الطريف إلى قوله: "ومهما يختلف المختلفون في جمال الشباب وجمال كل عمر من الأعمار فالحقيقة التي لا خلاف عليها أن تقدير الجمال لا ينتهي بانتهاء عهد الشباب وأن القدرة على التعبير لا تنقص بنقصان الشباب بل لعلها تزيد ."



وللمازني وأحمد أمين وأمير بقطر مقالات نفيسة رائعة اكتفي بالإشارة إليها هذا عن عالم النفس ، أما عالم المرأة فقد حفل بمقالات رائعة ما بين شرقية وغربية ، فالكاتب الفرنسي ماكس رينال يقول عن المرأة: "يكفي أن تسمع فقط رنين ضحك المرأة التي اجتذبتك لتحدث فيك جلجلة الضحك أو رخامة الصوت ، ذلك التأثير الشعري الذي يولد عاطفة الحب في نفسك وحيث أن العاطفة لا تعيش بدون تفكير فعقلنا هو الذي يخلق الحب ، وخيالنا هو الذي يتعهده وتصورنا هو الذي يغذيه لأن المحب يطلب ما يحب أن يكون لا ما هو كائن ، ويوازن الكاتب بين المرأة والرجل في الحب موازنة نفيسة يضيق المقام عن تلخيصها ، وهي جديرة بالتأمل لعمق النظرة وبراعة التحليل .



أما مصطفى صادق الرافعي فيتحدث عن صورة المرأة الحبيبة في رسالة كتبها إليها فيقول: "أراني كالمصور غير أني أنقل عن عالمي الداخلي ورسمك يملأ عيني فيضيف إلى عالمي المضطرب عالماً من الجمال الصافي هو كالسماء فوق الأرض تحييها بالشمس والقمر ، وهو كالآخرة وراء الدنيا تطمعها بالجنة والخلد ، وهل في الحسن أحسن من هذا الوجه الذي يرف على القلب بأندائه  ويتلألأ بنضرته حتى لكأنه خلق من نور الفجر وكأن علامة الفجر فيه إنما هي هذا الروح الذي يحيط القلب بمعان من وجهك كنسمات الصبح عليلة شديدة الرقة ذابلة بين فرط الجمال مملوءة من روح الندى مما يجعلها حول النفس كأنها جو من الفرح لا من نسمات الجو" والمقال بديع ناضر كقطعة من زهور الروض .

والآنسة مي تكتب عن العيون في ألوانها المختلفة ثم تتحدث عن لغة العيون فتنقل عن التي تقول في شموخ "أنت عبدي" والتي تصرخ في ألم فتقول: "أعبدك" ، والتي تتجاهل فتقول: "ألا تعرفني؟" والتي تجد فيها انجذاب الصلاة وروعة المصلي ، والمتكبرة التي تقول: "أنا مستبدة ، أريد أن أقتل ، أين ضحيتي" ، والتي تقول: "=من أنت؟" ثم لا تزيد ، ومقالات المرأة كثيرة فكيف أحصرها؟



أما ما أسميه بحديث الأسرة فقد احتل حيزاً ممتازاً حيث خاض فيه أعلام كبار من أمثال طه حسين وعبد العزيز البشري ومنصور فهمي وإبراهيم المازني ومحمد حسين هيكل ، فكيف أختار من هؤلاء جميعاً؟ أجتزئ اجتزاء مخلاً فأنقل عن البشرى قوله: "إذا ألمت بالولد وعكة استحالت في قلب الوالد علة ، وإذا ضربته العلة مات أبوه كل يوم عشرين موتة ضارعاً إلى الله في صدق وإخلاص أن يحول ما بولده إليه إن لم يكن من الفدية مناص ، ولقد أرى الصحيح معافي ما به أثر من جهد أو وعك ، ولكن نفسي لا تستريح إلا إذا أكثرت من جسمه وعد نبضات عروقه ولقد يخرج إلى الطريق لبعض شأنه فأحس قلبي يتمشى في صدري ويمثل لي الشيطان أن مكروهاً أصابه .. أحب أولادي لأني أحب نفسي وأتمنى لو يكتب لها الخلود في الدنيا ، وإذا كان الموت حقيقة لا مناص منه أبداً فأولادي هم واصلو حياتي ومطيلو أجلي واسمي من يوم أموت ، لا يرد علي خاطر أحدهم إلا بادر فسأل الله لي الرحمة وسكني الجنان ."



والمازني يطيل الحديث في مقال صادق مؤثر عن والدته وكيف قامت برعاية الأسرة بعد وفاة أبيه وكيف قابلت الشدائد بحزم: "كانت تكتفي بالنظرة الأولى إذا أمكن أن تستغنى عن الكلمة فكنا نتفاهم بالعيون والذين حولنا غافلون لا يفطنون إلى شيء ، وكانت تتوخى أن تعفيني من المنغصات وتتجنب أن تحملني الهموم فتستقل بها دوني ، وكانت ذاكرتها قوية فإذا جلست للسمر تتدفق بأحاديث الأيام السوالف وكأنها تحياها من جديد فلا يغيب عنها حرف ولا يفوتها لون فهي لقوة ذاكرتها سجل عام للأهل والصواحب ."



وحديث طه حسين عن الأسرة ممتاز ، وفي كتاب الأيام صورة خالبة منه ، وهو ذائع مشتهر ، ولو جمع ما كتب عن الأسرة بأبنائها ورجالها وأمهاتها في مختارات الهلال وحدها تقدم سجلاً بارعاً للحياة الاجتماعية في الجيل الماضي ، سجل لم يكتب بالأرقام والإحصائيات ولكنه كتب بنبض العروق وخفق القلوب!

ولابد أن أشير إلى الذكريات البارعة التي كتبها سعد زغلول ، وعلي إبراهيم ، ومحمد حسين هيكل ، وأحمد نجيب الهلالي ومحمد كامل البنداري وأم كلثوم وعبد الوهاب وشريف صبري وحسن نشأت فكلها نمط حي من المقال الأدبي الذي أعنيه .



ولعلي بما قدمت من النماذج الراقية مستشهداً بالقليل منها لينبئ عن الكثير ، لعلي بذلك أدعو أصحاب العواطف الجياشة من حملة القلم ألا يهملوا هذا الجنس من البيان إذ أدى رسالته فيما قبل لا غرابة في أن يؤديها الآن وفيها بعد ..



منى إن تكن حقاً تكن أعذب المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً

View wnature's Full Portfolio
tags: