تنمية من أجل الرخاء أم فقر من أجل التنمية؟

المصدر: كتاب بعنوان: "تنمية أم تبعية اقتصادية" لد.جلال أمين



ليس من المستغرب أن نجد الاقتصاديين المهتمين بقضية التنمية لا يحاولون إلا نادراً إثارة السؤال التالي: لماذا نريد التنمية؟ فالعادة ألا يحاول إثارة هذا السؤال والإجابة عليه إلا أصحاب النفوس التي تتمتع ببعض الحساسية وهم نادرون في هذا العصر بصفة عامة ، وبين الاقتصاديين بوجه خاص ، فإذا أثاره بعضهم فهم عادة من هؤلاء الاقتصاديين الذين لا يعتبرون من قبيل إضاعة الوقت قراءة مقال في الفلسفة أو كتاب في التاريخ قبل النوم .

على كل حال فإن واحداً من هؤلاء الاقتصاديين النادرين هو الأستاذ آرثر لويس والذي كتب ما أعتبره بعضاً من أفضل ما كتب عن البلاد الفقيرة على الإطلاق ، وهو ينتمي إلى إحدى هذه البلاد وإن كان يحمل الجنسية البريطانية كما إنه واحد ممن يمكن أن تقرأ أي شيء يحمل اسمه وأنت مطمئن إلى أنه سيقول لك شيئاً جديداً ، فالفصل الأخير من كتابه "نظرية النمو الاقتصادي" الذي نشر منذ ثلاثين عاماً يحمل هذا العنوان بالضبط: "لماذا نريد التنمية؟" ولا يزال هذا الفصل بسبب جودته فضلاً عن قلة عدد المشتركين في الجدل يعتبره الاقتصاديون إجابة كافية على من قد تسول له نفسه التساؤل عما إذا كان من المجدي حقاً السعي إلى التنمية أصلاً .



يقول الأستاذ لويس في هذا الفصل: أن من العبث الادعاء بأن مبرر التنمية أنها تجعل الناس أكثر سعادة ، فالسعادة كما يعرف الجميع تتوقف على أكثر من مجرد زيادة الدخل ، فهنالك مثلاً الشعور بالاطمئنان على المستقبل ، وهنالك الحرية ، وهنالك نوع العلاقات الاجتماعية السائدة ، بل وحتى مجرد الرضا بالنصيب ، وكلها قد لا تتغير بزيادة الدخل بل وقد تؤثر فيها زيادة الدخل تأثيراً سلبياً ، وإنما تستمد التنمية الاقتصادية (أو زيادة الدخل) تبريرها في رأيه من أنها تزيد من حرية الاختيار فهي من حيث أنها تؤدي إلى إنتاج سلع جديدة لم تكن تنتج من قبل وأصناف جديدة من السلع القديمة تتيح للفرد حرية أكبر للاختيار بين عدد أكبر من السلع ، كما أنها بما تؤدي إليه من إشباع الحاجات الأساسية وما ترتبط به من إحلال الآلة محل العمل الإنساني تسمح للفرد باختيار أوسع بين العمل والفراغ ، إذ لا يغدو الفرد مضطراً إلى العمل أو على الأقل إلى العمل نفس العدد الكبير من الساعات ، بل إن الفراغ نفسه يحمل في طياته معنى إتاحة مزيد من الحرية في اختيار ما يرغب المرء حقيقة في صنعه ، وينطبق هذا على الأخص على المرأة التي يحررها مزيد من ميكنة الأعمال المنزلية من الاضطرار إلى البقاء داخل المنزل فتكون لها حرية الاختيار بين البقاء فيه أو العمل خارجه .

ويحق لنا أن نتساءل هل أصبحنا أكثر حرية مع ارتفاع معدل النمو وزيادة السلع والخدمات وتعدد أصنافها؟

فإنتاج هذا العدد اللامتناهي من السلع الجديدة لا ينطوي دائماً على إضافة إلى السلع القديمة بل هو في كثير من الأحيان مجرد إحلال لسلع محل أخرى ، فبعض السلع لم تعد تنتج على الإطلاق أو أصبح إنتاجها من الضآلة وأثمانها من الارتفاع بحيث أصبحت في عداد الأثريات وخرجت عن متناول أيدي الغالبية ، فليس لمعظم الناس اليوم حرية الاختيار مثلاً بين تأثيث مساكنهم وفقاً للطراز الأوروبي أو الأمريكي الحديث أو الطراز العربي القديم ، أو بين بناء مساكنهم طبقاً لهذا الطراز أو ذلك وليس أمامهم مع الارتفاع الفاحش في أسعار الأراضي في المدن حرية الاختيار بين أن يكون لمنازلهم حديقة واسعة أو عدداً أكبر من الحجرات ، أو بين مسكن مستقل وشقة في عمارة ضخمة .

ومع التغير السريع في الموضات ليس فقط في الملابس بل وفي سلع الاستهلاك المعمرة كالسيارات والثلاجات .. الخ كثيراً ما يكون من المستحيل أن يتمسك الفرد باستهلاك الطراز القديم مهما كانت مزاياه الذاتية ليس فقط بسبب ضغط الرأي العام الخاضع لمصالح المنتجين والذي يعتبر التمسك بالقديم دليلاً إما على الرجعية أو عدم العصرية أو فساد الذوق أو قلة الدخل بل أيضاً بسبب صعوبة العثور على هذا القديم أصلاً أو قطع الغيار اللازمة له أو على من يقبل إصلاحه .

لقد أعطتنا التنمية السيارة ولكن السيارة أعطتنا المدن الكبيرة كما حتمت المدن الكبيرة اقتناءها فلم يعد لساكن المدينة الكبيرة حرية الاختيار بين أن يقطع عشرات الأميال بالسيارة أو بالسير على الأقدام .



وهناك من السلع الجديدة ما أحدث انقلاباً خطيراً في عادات الناس الاجتماعية بحيث أصبح الامتناع عن استهلاكها بعد ضرباً من الشذوذ يحتاج إلى إرادة حديدية أو إلى انفصال شبه تام عن المجتمع ، ففي نفس الوقت الذي اقتحم فيه التليفزيون مساكننا تغيرت طريقة الناس في قضاء أوقات الفراغ بحيث أصبح حديث الزوج إلى زوجته أو إلى أولاده من الأحداث النادرة ، إذ من أين للأب نفس الإغراء الذي يجده أطفاله في الرسوم المتحركة الملونة؟ قد يقال أن هذا التحوّل من العلاقات الإنسانية المباشرة إلى الاتصال بالعالم كل على انفراد عن طريق شاشة التليفزيون قد تم عن طريق اختيار حر اتخذه الناس بأنفسهم وإلا فما كان عليهم إلا أن يستمروا في ممارسة عاداتهم القديمة فيتحادثون إذا شاءوا أو يذهبون إلى المسرح أو يطالعون الكتب ، ولكن الواقع أن هذا الاختيار لم يكن حراً فالتليفزيون وكثير من غيره من السلع الاستهلاكية الجديدة تتميز بأن استهلاكها سرعان ما يولد ما يشبه الإدمان بحيث يصبح من أصعب الأمور التخلي عنها حتى مع التيقن من ضررها ، فكما أن البدء في مشاهدة فيلم من الأفلام البوليسية قد يجرك دون أن تشعر إلى مشاهدته حتى النهاية شاعراً مع ذلك بالأسف على ضياع الوقت فيما لا نفع فيه ، فإن الجلوس أمام التليفزيون أو ركوب السيارة أو حتى مطالعة الجريدة اليومية سرعان ما يتحول كفنجان القهوة في الصباح .. إلى عادة يصعب التخلص منها .



وقد أصبح المنتجون وحلفاؤهم في صناعة الإعلان يتفننون في ابتداع الوسائل التي من شأنها أن تحول حرية المستهلك في الاختيار بين سلع متعددة إلى علاقة إرغام من ناحية وخضوع من ناحية أخرى ، ليس من السهل الفكاك منها ، فالرجل لا تكتمل رجولته إلا إذا ارتدى ثياباً من نوع معين ، والعطش لا يرويه إلا الكوكاكولا ، والسيجارة لا يمكن إشعالها إلا بولاعة ، والنوم لا يمكن الحصول عليه إلا بالحبوب المهدئة .

لقد مر بنا عصر كنا نفهم العملية الاقتصادية فيه على أنها عملية استخدام موارد محدودة في إشباع حاجات غير محدودة ، وأن الهدف النهائي من العملية الإنتاجية هو الإشباع أو خلق الشعور بالرضا ، ولا يزال أساتذة الاقتصاد يعرفون علم الاقتصاد على هذا النحو ، ولكن الأمر يبدو الآن وكأنه انقلب رأساً على عقب وإذا بالمشكلة التي تواجه المنتجين أصبحت تتمثل في أن الحاجات تبدو وكأنها للأسف محدودة والموارد وكأنها هي التي لا تنفذ ، وإذا بالعملية الإنتاجية تتحول إلى محاولة خلق شعور مستمر بعدم الإشباع وعدم الرضا ، إنهم يقولون لنا أن التنمية الاقتصادية أو زيادة الإنتاج تستهدف إشباع الحاجات ولكن العكس فيما يبدو هو الآن الأقرب إلى الحقيقة ، فالذي يحدث اليوم ليس إلا محاولة تعميق شعور الناس بالاحتياج في سبيل التنمية الاقتصادية .



وهناك سبب آخر لفقدان الحرية الحقيقية في الاختيار على الرغم من زيادة عدد السلع والخدمات المعروضة علينا ، يرجع إلى الطبيعة الخاصة للحضارة الصناعية الحديثة فهذه الحضارة تقوم على الآلة والإنتاج الكبير والوحدات الإنتاجية الضخمة ، وقد أدى هذا إلى ازدياد درجة التماثل بين وحدات السلع المعروضة وانتشار نمط واحد من أنماط الاستهلاك ، ليس في الدولة الواحدة فحسب بل وبين الدول ، فالمنتج الكبير قد التهم الصغير وقضى عليه وطريقة الإنتاج الأقل نفقة قضت على كل طرق الإنتاج الأخرى فإذا بالأصناف المتعددة من السلعة الواحدة تخفي وراءها في الحقيقة صنفاً واحداً لا يختلف عن غيره إلا في الاسم أو في لون الورقة المغلف بها ، وإذا بالفوارق تزول بين مدينة وأخرى مهما تعددت القارات ، فإذا كانت التنمية قد أتاحت لنا حق التنقل بين عاصمة وأخرى بسهولة وسرعة أكبر ووسعت دائرة الاختيار أمامنا بين المدن التي يمكن أن نقضي فيها عطلاتنا فإنها قد قضت في نفس الوقت على مظاهر التفرد والاختلاف بين المدن ، ففي الوقت الذي أعطتنا فيه حرية الاختيار أفقدت هذه الحرية معظم قيمتها ، صحيح أن لون السماء لا يزال مختلفاً في بلد عنه في أخرى ولكن الفنادق المتماثلة والمساكن الضخمة قد حجبت عنا رؤية السماء أصلاً .



قد يقال أن العيب ليس في التنمية ولا في نمط الحضارة الحديثة بل في الانفجار الرهيب في السكان ، إذ كيف يمكن أن تلبي حاجات هذه الأعداد الغفيرة من الناس إلا عن طريق الإمعان في التصنيع وفي الميكنة ، وإذا كان للتصنيع وللميكنة ثمنها الذي يتمثل في تفكك الروابط العائلية ومزيد من الفردية ومزيد من التماثل ومزيد من الملل ، فهو ثمن يتعين علينا دفعه راضين من أجل أن نضمن وصول السلع الضرورية إلى عدد أكبر من السكان ، ولكن الرد على هذا يسير فمن المستحيل أن يقبل المرء أن إشباع الحاجات الحقيقية للناس يتطلب إنتاج هذا العدد الهائل من السلع عديمة القيمة ، وأن إنتاج الكميات اللازمة من السلع الضرورية يتطلب حقاً هذه الدرجة من التماثل والتشابه بين السلع ، كما أن من المستحيل أن يقبل المرء أن الطريقة الوحيدة لإتاحة رؤية بلاد جديدة لعدد أكبر من الناس هو أن يحشروا في طائرات تقدم نفس الطعام ويردد فيها قائد الطائرة نفس عبارات الترحيب المحفوظة وترتسم فيها على وجوه المضيفات نفس الابتسامات المصطنعة التي لا يكمن وراءها إلا شعور دفين بتفاهة ما يقمن به .



فلست بحاجة إلى تذكير القارئ بأن الإنسان كائن غاية في التعقيد قد يدفعه إلى اتخاذ مسلك اقتصادي معين كزيادة الادخار مثلاً أو شراء سلعة دون أخرى دوافع لا يمكن وصفها بأنها دوافع اقتصادية ، ولا أنا بحاجة إلى تذكير القارئ أيضاً بأن الإنسان كثيراً ما يقوم بتصرفات اقتصادية هي أبعد ما تكون عن العقلانية فيشتري من السلع ما ليس بحاجة إليه ، ويتأثر بسلوك جيرانه وأقرانه حين لا تسمح ظروفه الخاصة بمثل سلوكهم ، ويقبل المخاطرة حين يكون النجاح فيها قليل الاحتمال .. الخ .

يترتب على ذلك أن المجتمع قد ينجح في تحقيق أهداف اقتصادية لأسباب ليست اقتصادية على الإطلاق بل ولا هي بالضرورة عقلانية ، وقد يفشل في تحقيقها على الرغم من كل ما يوفره من أسباب اقتصادية لأسباب لا علاقة لها بالاقتصاد ، بل إني سوف أذهب إلى أبعد من ذلك بالقول بأن نجاح التنمية أو رفع مستوى الدخل لا يتوقف أساساً على ظروف اقتصادية ولهذا تفسيره فالتنمية التي تستهدفها البلاد الفقيرة لا تتعلق بفرد أو فئة أو قطاع بل بالمجتمع بأسره وفيها كما يقول لنا علماء الاجتماع والمؤرخون ينقلب المجتمع رأساً على عقب ، وفي غمار هذا الانقلاب يرتفع حقاً معدل الادخار والاستثمار وتتطور فنون الإنتاج وتنمو طبقة جديدة من المديرين والمنظمين ، ولكن هذه التغيرات الاقتصادية لا تنمو بمعزل عن تطور عقلية الناس بل من خلالها تتأثر بها وتؤثر فيها ، إن انقلاباً من هذا النوع من الصعب أن يتصور أن يكون حدوثه نتيجة تغيرات ميكانيكية صغيرة منعزلة كتلك التي يمكن أن تحدثها سياسات اقتصادية بل يحتاج إلى قوة دافقة قادرة على أن تمتد إلى كافة جوانب الحياة الاجتماعية ، هذه القوة الدافقة لابد في اعتقادنا أن يكون مصدرها غير مادي بل والأرجح أن يكون محركها الأول لا يمت للاقتصاد ولا للعلم بصلة ، إن المهم أن يشتعل حماس الناس لقضية يعتقدون بعدالتها أو سموها أو إلحاحها أو كل هذا معاً فتهون التضحية ولا يفكر الفرد في نفسه بل فيمن حوله ، وتتعلق الأبصار كلها بالمستقبل وتعود للناس ثقتهم بإمكانية التجديد والإبداع .

إن مثل هذا الانقلاب لا يمكن أن يحدث نتيجة لفرض ضريبة جديدة أو رسم جمركي ، كما أن مثل هذا الحماس لا يمكن أن يولده مجرد التطلع إلى هدف هو من التدني كهدف رفع مستوى الدخل أو الوصول إلى ربع أو عشر متوسط الدخل في الولايات المتحدة الأمريكية بل لابد لتوليده من التطلع إلى هدف غير اقتصادي .

View wnature's Full Portfolio