ثمة أمـر ما

Folder: 
قصص قصيره





























تدفقت في شراييني موجات من الهلع حين أبصرت عينيه المسكونتين بالرعب ووجهه المغمور بنافورة من دم وجسمه المغطى بمساحة واسعة من الشحوب كان يتلمس طريقه بين أشجار البرتقال وقد أنهكه الإعياء يقتلع قدميه من لجة الرمال بصعوبة بالغة ففاجأته بالوقوف أمامه وبادرته بالسؤال :

- ترى هل مازالوا هناك؟

حاول أن يستعيد رباطة جأشه  فاستند إلى شجرة قريبة منه لم تكن نظراته تستقر على مكان معين ، بدا وكأنه مستفز.

- نعم وهم يتكاثرون ..

تمتم بصوت متهدج تخالطه نبرة انكسار واضحة

- لا أظن أن ما حدث بهذه السرعة الغريبة كان  متوقعا  ..أردفت قائلا :

أجابني بنظرة تحاول أن ترسم الثقة على كلامه :

- لكننا خسرنا الكثير رغم تبريراتك الفارغة

قلت  : - نعم خسرنا أنفسنا

- أنت تعلم انه لم يتبق هناك غير أطلال أشبه ما تكون بلوحة تشكيلية رسمها فنان عبثي واصل كلامه :

- إنهم مزاجيون وانقلابيون باللحظة فما كادوا أن يسمعوا أن المدينة سقطت حتى ظهرت آلاف الأيادي تستلب .. وتحرق  .. وتدمر كل ما تجده في طريقها أراد أن يجلس فحاول أن يتمسك بأحد الأغصان القريبة من الأرض ليستعيد هدوءا فقده منذ أن وصل هذا المكان  قلت بانكسار :

- إنها كارثة حقيقية    أجابني  :

- انك تعلم تماما أن هناك ثمة أمور لا تستطيع التفكير بها انك منعزل حتى عن نفسك واصل كلامه   انظر إلى هذه السحابة من الدخان أتدري أنها منبعثة  من المكتبة المركزية لقد دمروها بعد أن سرقوا اغلب محتوياتها  ..!!

تساءلت مندهشا :

-  هل هم من أهل المدينة ؟؟

- أكثرهم غرباء عنها   أجابني

انعكست على جبهته بعض خلايا الضوء وهي تخترق أغصان الشجرة قبالته .

- لماذا يحرقون كل شي   تساءلت والغصة تكاد تخنقني :

فحشرج  : - إنهم يحاولون طمس هوية هذه المدينة فالكثير منهم قادمون من وراء الحدود وتندفع جموعهم بوحشية غريبة  .. واصل كلامه : قد أعذرهم حين يسرقون المصارف ولكن لماذا كلما ولجوا مكانا تشب خلفهم الحرائق .. !! هذا ما فعلوه  بدائرة الجنسية  !!



كان الصداع يتصاعد في رأسي تدريجيا أحسست أنني أكاد أختنق بدأت أشعر بالدوار حاولت أن أرسم لنفسي صورة لما يحدث أو أن أجد تبريرا منطقيا أقنع به نفسي , خيوط الرؤى تتشكل في مخيلتي .. منذ أن سقطت العاصمة قبل يومين أنها صورة امتزجت فيها الألوان كلها أطيافها تنسل في ذاكرتي لتتجمع في بؤرة مشهد يفوق التصور تتداعى الصور ضبا بية أمامي الصداع لا يزال يتصاعد في رأسي ... بينما هو أغمض عينيه مستندا للشجرة ذاتها حين أحس بالخمول يدب في أوصاله  فاجأته مرة أخرى بنبرة صوتي  هي تشبه نصلا حادا  يخترق أذنيه  :

  - منذ ساعة وأنت نائم قم لنر ما لذي نستطيع أن نفعله

فتح عينيه لتصطدم بشبح رجل كاد أن يرعبه قبل قليل   أجاب ونبرة الانكسار ذاتها توشي صوته : - ماذا تريد .. !؟

  -قم لنفعل شيئا    قلت له :

نهض متثاقلا بعد أن أسند يديه على بقايا رمل لم تكتسحه المساحة الخضراء بدأنا نسلك الطريق المحاذي للأشجار وهو الطريق الوحيد الذي يقودنا إلى الشارع العام بدأت القشعريرة تغطي مسامات جسدي وأنا أنظر إلى المدينة .

عندما وصلنا على مشارفها  أنها تبدو كروما حين أحرقها نيرون  

-  ويلي لماذا لم نمنع هذا الذي حدث  ؟؟  تساءلت  مع نفسي

مرت سيارة مسرعة يبدو على سائقها أنه أحد الذين رسموا على وجه المدينة هذه المأساة

فزعت وأنا انظر إليها محملة بشكل غريب جدا  فقد جمع فيها إطارات  ..أكياس من الرز والسكر.. والطحين  ، إن حمولتها اتخذت شكلا هرميا حيث تبدو للوهلة الأولى حين تراها إنها أنموذج  مصغر لأحد  اهرامات  مصر

ابتسم السائق لنا وهو يردد :

-  اذهبوا إلى مخازن المواد الغذائية فهناك الكثير .. الكثير ، انه يكفي الجميع

أسرعوا ..   أسرعوا  .......

بدأت أتخيل  كم مرة  ذهب هذا السائق ورجع بحمولة كهذه

بادرني بالقول بعد أن رنت كلمات السائق في أذنيه :

أين نذهب  ؟   إني أكاد  اختنق الدخان يتصاعد من بؤر متفرقة يتشكل ليحبب الشمس أحيانا متجها صوب حدود لا يفصلها إلا خطوط واهمة من التوجس والترقب والاضطراب يحمل هموم المتعبين أحيانا 0ونشوة العابثين أخرى وقد تناثرت في طرقات المدينة أشلاء  جسدها الذي أنهكته الأيام الماضية وعبدت طرقاتها أوجه أناس ممسوخين يحملون أسلابهم  فارين من أنفسهم باتجاهات متعاكسة وسط دهشة البعض لاحتمالات القادم أحسست حينها أنني وسط نفق مظلم ابتدأ منذ نعومة أظفاري وأحسني ألان

في منتصفة في رؤية ضبابية كنا في منتصف المدينة وكنت أنظر إلى الأفق في مساحة شاسعة من الأشياء المتناثرة ...

بدا أشباح العشرات من الرجال يتوافدون إلى الجامع الذي بدأت مأذنته تكبر كلما تقدمنا في نفس الاتجاه .

أجبته : - فلنذهب إلى الجامع لنر ما الذي يحدث هناك .

ما إن وصلنا حتى بدأ المكان يضج بالنحيب دخلنا والدمع يتقاطر من عيوننا والألم يكاد يعصرنا وقد بدونا كبرتقالة فقدت نظارتها .بدأ الوجوم يفترش الوجوه التي أنهكتها مشاهد الصباح والقلق .. والحيرة والتوجس، شكلت دعامات المكان وأحاطت بنا الضبابية من جميع جوانبنا تتلمس طريقها في اندهاشنا المثقل بالتأوهات.. انتفخت أوداجنا بالبكاء والنحيب .. كانت اللحظات تخترقنا .. تتخللنا حينا، وحينا كجبل يجثم فوق صدورنا . نحس أننا في اللاوعي المتشكل خارج الزمان والمكان .

وقف الخطيب على المنبر مرتبكا محاولا أن يستعيد رباطة جأشه .. ثم انهار من جديد وسط التكبير ..  بدا كطفل يحاول أن يلفظ كلمته الأولى :

سقطت  .. سقطت

أجهش بالبكاء فارتفع الضجيج ضرب مقدمة المسند الخشبي بكلتا يديه

-  إنها المرة الثانية  ... تداعت أمامه الكلمات  صمت لبضع دقائق  .. استطاع

أن يواصل  كلامه أخيرا .. وأنا انظر خلف نافذة المسجد المطلة على الشارع مشاهد تتداعي أمامي وتتواتر مشتت بين نفسي وما حولي ... هزتني التكبيرات من جديد لتنتهي بخروجنا مرة أخرى ، بادرني بالقول  :

متى نبدأ ما دعينا له  ؟؟    كانت كلماته لغزا حاولت فك طلاسمه  بقولي :

- ماذا ؟؟؟

أردف  : -  الم تسمع الخطبة ، أما قال لنا الإمام  أن على الجميع الخروج إلى الشوارع لمنع هذه المهزلة !؟؟

   - نعم أنها حل سريع أنني أؤيد هذه الفكرة – قلت :

افترقنا عند أول تقاطع , أردت اختصار الطريق قدر الامكان غير ان الوقت بدأ يتشبث بي بشكل عجيب .. قادتني الخطى عبر دروب لم ألفها من قبل كان يعمها سكون مبهم .. تبعثرت خطواتي لاتجه غريزيا الى الباحه المؤديه الى منتصف المدينه حيث تنتصب بشموخ اجوف بقايا المصرف المركزي .. لم تكن لتدهشني رؤية الخراب والفوضى اللذين يعمان المكان , بقدر ماافزعني مشهد ما كان ليستفزني لو رايته في مكان اخر .. فالموت قد يكون منظرا مألوفا خلال الايام الماضيه.. لكن تحدي الموت هو ما أثار حفيظتي .. ملابسه لاتوحي برجوله قدر ماكانت تشي بفقره , بدأ يسحب خلفه بكلتا يديه كيسين من النقود متجها بنصف استداره صوب التقاطع الذي لاتفصله عن المصرف سوى مسافة قصيره .. أستفزه أحدهم بمساومه من طرف  واحد( أعطني إحداهما أو تموت ..) بدأت تدور في مخيلته أنفة فارغه . لم يكن ألتنازل يعني له حياته بقدر ماكان يعني تحديا كبيرا لرجولته .. ماكاد يكمل عبارته( لن ..... أعطيك )  حتى استقرت رصاصة في رأ سه .. لايزال دويها يرن إلى ألان في أذني .



ألشارع ألاسفلتي غطته في مساحات متفرقه ألعملات النقديه ذوات ألفئات ألصغيره ألتي فقدت أقيامها منذ زمن ليس بالقصير .. حينها كان ديوجين وهو يحمل فانوسه لايغادر مخيلتي . والمصرف بدأ يلتهمه ألحريق من الجهه الخلفيه.. فقد ابتكروا طريقه جديده لذلك بصب بعض المواد أللاصقه التي تحتوي المركبات القابله للاحتراق .. إنهم يتدافعون بأتجاه المنفذ ألامامي حتى ليخيل إليك أن ألباب لايسعهم حين يخرجون سوية .. أصمت أذني رشقات متناثره من الرصاص إنطلقت قربي من فوهتين في لحظه واحده .. إرتقب ألكثيرون .. خرجوا مسرعين في حين إستقر الخوف في قلوب بعضهم فمات إختناقا حين وجدوه بعد يومين .

ألرجل ألعجوز إلمنزوي في ألشارع ألمؤدي الى السوق يحدجني بنظرات غريبه .. كان فضوليا مثلي إستوقفني ليسألني :

__ لماذا لم تدخل مع البقيه؟؟؟



أجبته : لست منهم .

كان جوابي بلسما شافيا لحيرته بعدم اكتراثي أسرعت الخطى بالاتجاه المعاكس .. وقد بدأت المسافه تفرض سلطانها .... وأنا أواصل المسير .... أحسست أني كائن غريب حتى عن نفسي .. أتعبتني أفكاري , إنه قدري أن ألمس بنفسي حقيقة طالما تشدق بها غيري مفادها أن الخير والشر وجهان لعملة واحده  في بعض ألاحيان .... قد يكونان نسبيين  إلا أننا نمتلك هذه إلازدواجيه جميعا ... صراع ألانا ألعليا وألانا ألسفلى.. قد يكون عدم ألانحياز حقيقتي حينها  .

وما  إن وصلت إلى غرفتي المنزوية في ظل مدرسة الحي حتى شعرت بجوع غريزي إلى النوم  . ....لم يكن موروثي سوى بضع كلمات ترن في أذني ((سقطت.. سقطت )) اضطربت الصورة أمامي .. بدأ الدبيب يخدر أوصالي..لم تكن المرة الأولى التي ينتابني فيها هذا الإحساس, فقبل يومين لازال المشهد عالقا في ذاكرتي .. كرة من اللهب اتخذت شكلا مخروطيا.. مدادها أناس علقوا في ذاكرة الزمان والمكان تلك اللحظة .. ارتفعت بقاياهم كنافورة لم يتم السيطرة عليها.. فاتخذت شكلا أشبه ما يكون هلاميا  انبثق كخيط.. تنامت نواته لتكون بحجم قلوبهم التي أدهشها الانفجار وكانت قوتا له.. ما كدت أصحو حتى دوت في أذني صيحة جيل بكامله.. في لحظة  كان الزمان يغادرنا والصمت يسكب ظله على مشهد ذلك اليوم وأنا الملم شتات أفكاري محاولا النهوض للانفلات إلى الشارع أحاطتني الظلمة .. مددت يدي إلى المجهول  والغسق بدا يفتح أبوابه باتجاهي ...

وأخيرا تسللت إلى المكان شظايا من الضوء الهارب عبر النافذة صوب الطريق فقادت خطاي إلى خارج المكان ..تلفت يمنة ويسرة ثم غرست قامتي في بحر العتمة.




View omar's Full Portfolio
tags: