غبار

Folder: 
قصص

غبار



    لا أعلم لماذا كنت أظن أن رائحتي كريهة ، وأن ربع وزني غبار ، ربما لأن كل الذين يعملون في دائرة المجاري يفتقدون إلى لمعة الأناقة . أنا واحد من الذين يتنقلون بكثرة ، وأذهب باستمرار إلى المشاريع ، الحفريات وجعي الخاص والمزمن . أمي تبحث لي عن فتاة وأنا أبحث عن لمعة مفقودة .

     اعتدت أن أغادر ذلك المبنى العتيق الذي تسبح فيه الأتربة مثل الأشباح إلى مقهى ( الدمنهوري ) أجلس على أريكة تطل على الشارع . أبتلع دخان النرجيلة بانتظار ( بهزاد ) صباغ الأحذية . كنت أضع قدمي على صندوقه الأسود المزدان بالمرايا وعلب الأصباغ المستوردة والفرش الكبيرة التي تشبه الزوارق . بهزاد من الذين يحرصون على التخصص في شيء ما ، يرتدي الملابس البيضاء النظيفة وكأنه يريد أن يبرهن على مهارته . يتعامل مع الحذاء بلمسة رقيقة ، لمسة خفيفة وحاسمة مثل التفاتة بسيطة يطلبها المصور وهو خلف كامرته . يفعل هذا بشكل يومي ، وأحياناً يجلس أمامي دون أن يلقي علي التحية ، بلطخ الجلد بالصبغ وينهمك في اجتهاد معيداً البريق للحذاء .

     عادةً ما يتأخر شريف في خروجه من دائرة الاتصالات ، يمر علي بسيارته ( الفوكس واكن ) ليأخذني معه إلى البيت ، عندها يكون بهزاد قد بذل جهداً استثنائيا لجعل حذائي محافظاً على بريقه حتى اليوم التالي . فاطمة التي في الحسابات تقول ( أناقة الرجل تكمن في حذائه ) .

      نحن عادة ما نصل إلى نتائج عظيمة إنطلاقاً من أمور تافهة ، سنة كاملة وبهزاد يساعدني على تخفيف توتري الصباحي ونفوري من وظيفتي التي لا أستحقها ، أمي تقول ( الوظيفة تساعد على الزواج ) ! .

     كان بهزاد قليل الكلام يمتلك نظرة طليقة وخفة هيدروجينية . اطلب له الشاي ، يرفض النهوض عن علبة الصفيح التي يجلس عليها . نتبدل الحديث عن الحوادث المرورية ويخبرني عن صعوبة حصوله على مكان ثابت على الأرصفة ، هو قليل الكلام وغامض ، لكنه يحرص دائماً على مساعدتي في المحافظة على بهائي .

    لم يظهر بهزاد في يوم السبت ، جاءني شريف في الوقت المحدد ، لم أترك المقهى طلبت منه أن يشرب الشاي معي في انتظار بهزاد ، مضت نصف ساعة دون أن يكون له أي أثر ، شعرت بالقلق، وبعد إلحاح من شريف تركت المقهى وأنا أشعر باضطراب شديد ، الأمر نفسه تكرر في اليوم التالي ، قال شريف بأن صباغي الأحذية يملئون الشوارع وأنه لا يعرف سر تعلقي ببهزاد ؟ ولكنني فضلت أن أشتري علبة صبغ وفرشاة ، وأطبق على حذائي ما كان يفعله صباغي الغائب . في يوم الثلاثاء وقبل أن يأتي جاري لأخذي بسيارته رأيت بهزاد يدخل الشارع وهو يدفع عربة كبيرة يتوسطها قدر ضخم تتصاعد منه الأبخرة . أوقف عربته أمام المقهى ، وجاءني بصحن باقلاء رش فوقها الزعتر . قال لي بأنه ترك مهنة صبغ الأحذية وأنه سيرسل لي في القريب أحد أصدقائه





( 1 )

ليحل محله بشكل يومي ، شعرت بحزن عميق وأنا أشكره وأخبرته بأنني اشتريت علبة صبغ وأنني افعل هذا بنفسي رغم عدم وصولي إلى تلك اللمعة التي يتركها صامدة على حذائي .

    سألتني فاطمة إن كنت أمر بظروف صعبة ، فلقد فشلت تماماً في تقليد لمعة بهزاد . لم أكن أستطيع ترك حذائي لصباغ آخر ، مهارة بهزاد شيء لا يعوض .

    مع بداية شهر حزيران رأيته يدفع عربة لبيع الملابس المستعملة ، جلس بجواري على الأريكة وطلب نركيلة قال لي دون أن يرفع عينه عن حذائي بأنه يكسب الكثير الآن وأنه يفكر في توسيع عمله . شعرت بالضيق دون أن أتمكن من إفشاء سر الكآبة التي تلبسني . أخذت إجازة طويلة من العمل وحاولت بشتى الوسائل أن انتقل إلى قسم الذاتية وشؤون الأفراد إلا أن المدير رفض ذلك وقال لي بأن شهادتي الجامعية لا تسمح بهذا .

   أخبرني شريف بأنه شاهد بهزاد في محل لبيع السكائر بالجملة . دفعني الفضول إلى رؤيته . استقبلني بابتسامة عريضة ، ادعيت بأنني كنت أمر من هناك بالمصادفة وأنني رأيته وجئت للسلام عليه . بدا مشغولا يستعمل الهاتف بكثرة ويراقب عن كثب صعود وهبوط السوق . غادرت المحل إلى المقهى ونصف وزني غبار .

   أخذت مشاكلي تتفاقم ولكن المدير كان يرفض نقلي على الدوام ، ويمنحني الإجازة تلو الأخرى ، شريف فكر في الأمر بطريقة أخرى فقد قال لي ( أترك العمل إذا لم تجد نفسك فيه ) 0

    في ليلة العيد ذهبت مع شريف إلى السوق . قادني إلى محل لبيع الملابس الرجالية . اقترحت أن نقوم بجولة عامة ، ولكنه أصر أن نقصد محل اللؤلؤة . أخذ شريف قميصاً وبنطلوناً أما أنا فقد اكتفيت بحذاء من جلد الروغان الذي لا يحتاج إلى صبغ . وعند الدفع جاءنا من الخلف صوت رفيع يطلب من العامل أن يخصم لنا من السعر . التفت إلى الصوت فوجدت بهزاد يقف خلفي بأناقة براقة . صافحني بمودة وقال بأن المحل تحت أمرنا وأننا سنجد دائماً ما يسرنا .

   تزوجت فاطمة وانقطعت عن العمل . قلت لأمي أن الوظائف تساعد على الزواج ولكن هذا لا ينطبق على الجميع . كان شريف يتحدث باستمرار عن بهزاد وأخبرني أكثر من مرة عن لقائه به في مناسبات مختلفة . لا أعلم لماذا ظن شريف أن الأمر يتصل بجرح ما . علمت من أمي أن جاري باع سيارته . هو لم يخبرني بذلك مما اضطرني إلى الكف عن عادة الجلوس في المقهى . لم أره لفترة طويلة . تركت له في البيت اكثر من خبر للاتصال بي لكنه لم يفعل .

   طرقت باب بيته في صباح الجمعة خرجت زوجته و أخبرتني أنه في الورشة . سألتها :

-         أية ورشة ؟

قالت لي من خلف الباب :

-         ورشة تصليح الهواتف التي استأجرها في عمارة صديقه بهزاد الجديدة .

  شكرتها وأنا اشعر بأن كلي غبار .







( 2 )


View nawzat's Full Portfolio
د.لانا الاغا's picture

قصة غبار من القصص التي تبدو للوهلة الاولى قصة موظف معتاد على ماسح احذية,انما في العماق اراهارمزية جدا واعتقد انه من المهارة غير الاعتيادية للقاص ان يسرد قصة تبدو بهذه البساطة وعند التمعن بهاينطلق عنان خيال القاريء حيثما شاء يفسرها كيفما يشاء.بالنسبة لي يبدو الغبار رمزا للكابة والاحباط والاحساس بالفشل الذي ابتدأ القاص بربعه ومر بنصفه وانتهى بوزنه كله غبار.ان الغبار كرمز للاحباط رمزا رائعا فالغبار يعكر الجو ويشوش الرؤية وعندما يقع على تابلوه يشوههالاحباط يشبه الغبار في تعكيره لصفو النفس والحياة والآمال وكل شيء.بهزاد هذه اشخصية التي ابتدعها الكاتب بمهنية عالية رايته رمزا لفئة في المجتمع غير المتعلمة او مثقفة تتطور ماديا بشكل اسطوري امام الجامعي الذي هو رمزا لفئة المتعلمين غير القادرين حتى على امتلاك سيارة او الزواج. ان الازمة الحقيقية بين بهزاد والراوي ليست ازمة حذاء ولمعة انها ازمةالخلل الذي يحصل في المجتمع عندما تطغى فئة غير متعلمة على الفئة غير امتعلمة حتى انها تجر ورائها الاخرين باستهلاكية طاغية كما حدث مع شريف صديق الراوي. اعجبني التسلسل في شعور الراوي الذي نجح الكاتب في ايصاله لي كقارئة فبعد موقف صحن الباقلاء صرح الراوي بشعوره عندما قال <شعرت بحزن عميق وانا اشكره> وبعد موقف محل السكاكر<غادرت المحل الى المقهى ونصف وزني غبار> وبعد موقف ليلة العيد لم يصرح بشعوره وانما ترك للقاريء ان يحس لوحده شعورا عميقا بالحزن خاصة بعد جملة تزوجت فاطمة. اعتقد ان الكاتب انهى القصة بجملة وانا اشعر بان كلي غبار بعد ان احس ان الكثيرين يمشون في تيار بهزاد وانه يمشي مع قلة في تيار اخر. استمتعت بقراءة القصة واعتقد ان الروائي نوزت شمدين يمتلك الكثير من الاحساس الصادق والموهبة الخلاقةاتمنى له الكثير من التقدم والانجاز