صيصان للبيع

صيصان للبيع

بقلم: مريم العموري

ما أن تناهى إلى سمع الصبية أن العم أبو حسين يعرض صيصان للبيع حتى استنفروا خفافا وسراعا إلى دكانته الصغيرة، قصدوه من كل الحارة الجنوبية المحاذية للشارع الرئيس المكتظ من المخيم.
أكثر من نصفهم حافٍ والنصف الآخر يكتسي غلالة الرمل من رأسه حتى ما تبقى من حذاء في قدميه بعد نهار حافل بلعبة الكرة التي يعشقون، والتي يبدو أنهم جلبوا لها واحدة جديدة بعد أن استحوذت الحاجة أم صبحة على كرتهم السابقة قبل يومين، لمـّا ركلها لاعب منهم برمية التفافية هي الأولى في تاريخ لعبتهم الطويل، لم تبدأ فرحته بها هذا المسكين حتى انتهت في قعر حوش تلك العجوز النكداء.
-
كادت تصيبني في رأسي.. والله لن تشموها يا ملاعين!
 
يحدّث أولاد تلك الناحية أن أم صبحة تستحوذ على عدد كبير من الكرات ذات أشكال وألوان، غنمتها منذ سنوات المخيم الأولى بنفس الطريقة، ويتبارز المحدّثون في عددها وصفاتها كما تحدث الجدات عن حكايات الكنز النفيس المخبوء في بطن الغولة.
لطالما سولت لهم أنفسهم أن يشكلوا وحدة خاصة لإعادة ما خسروه طوال هذه السنوات.. حتى أن بعضهم أعد الخطط المحكمة لمشاغلة العجوز والقفز عن سورها الوطيء، لكن أحداً لم يجرؤ حتى الساعة على مهمة عويصة كهذه، فكل الأولاد يخشى خيزرانتها العتيدة ولسانها الأحد من السيف، حتى أن جيرانها يتحاشون الأخذ والرد معها لما يجلبه ذلك لهم من مشاكل لا آخر لها..بل أظن أنهم يخشون أن تجلدهم بصوتها الذي يجلب التائه من الصين، وبلسانها السليط الذي عهدوه لا يرحم كبيرا ولا صغيراً ولا حتى الهواء الطائر.  
لا يزال الصغار يهرعون إلى حيث دكان العم أبي حسين وفي قبضتهم الصغيرة خمسة قروش ثمن الصوص، أغلبهم حوشها من مصروفه اليومي الزهيد الذي لا يزيد عن القرش حين كان القرش يشتري من كانتين أبي محمود في مدرسة الغوث للاجئين ربع رغيف صغير من الخبز مملّسا بطبقة رقيقة جدا من الحمص، لم تكن لترمّ جوع أحد ولكن، من كان يشبع في المخيم أصلاً!

كان لمرأى المدرسة وقع مزعج على مفيدة التي تقتاد جمع الأولاد إلى الدكان. قيل أن أمها اضطرت لإخراجها من المدرسة بعد أن ملت من كثرة الشكاوى عليها، ولكن الأرجح أنها لاذت بالفرار يوما ولم يعد يراها أحد مذاك.

لم يكن بإمكان مفيدة أن تجلس بهدوء في دُرجها كبقية الطالبات "المؤدبات"، فجسمها المتوقد يلحّ عليها بالتلفّت والتفلّت والمشاكسة في صف يغصّ بخمسين من الطالبات اللواتي وسمْنَها بالمشاغِبة! هي في طباعها مختلفة لا شك وهذا مكان -ككثير من الأمكنة- لا يطيقُ من يحلّق خارجَ السرب!

كان "تأديب" مفيدة أول مهام الست فدوى في عملها الجديد بعد أن تم ترقيتها من معلمة إلى مساعدة مديرة، تخيرتها من بين الصفوف في طابور الصباح وجرّتها من ياقة مريولها وهي تتوعد بزعيق ملأ الساحة والسماء ما أن اختلط بأنفاس الصباح الباردة حتى هوى رعبا ورجفان في الجسوم الغضة التي هالها ما استُفتِحت به في هذا اليوم المشهود!

أمرتها بنبرة علويّة أن تمد ظاهر كفيها وليس باطنهما كما جرت العادة في العقاب إمعانا في الإيلام، وانهالت عليهما ضربا بعصاها الغليظة عشرين مرة، بدت خلالها مفيدة رابطة الجأش مكابرة وكأنها تُضرَبُ بريشة ، سمتان اشتهرت بهما في حين اعتبرتهما الطالبات والمعلمات غلظة وبلادة!

كان انعدام أية تعابير على وجهها كافيا بأن يثير حنق الست فدوى التي أجلستها على كرسي وأمرت طالبتين برفع رجليها عاليا بعد أن أرغمتها على خلع حذائها..  لم تكترث تلك المعلمة لرجاءات مفيدة التي أجهشت في حرقة واستغاثة:

-إلا الفلقة يا معلمتي، كرمى لله، إلا الفلقة!!!

 توالت الضربات يضرمها الغلّ والغيظ والرضا بدموع الصغيرة التي لم تنبس ببنت شفة منذ تلك الحادثة.. كانت الجراح التي قصمت كرامتها أعظم بألف مرة من تلك التي نزَّت من كفيها وقدميها!

تفرّع الشارع وساق الصغار إلى بيت اصطفّ على جنبيه رجال ونساء بدا عليهم التعب والسأم .. بعضهم قاعد والآخر متكئ على الجدار تعلوه غيمة كآبة. كان هذا المشهد اعتياديا لكل من مر بهذه الحارة، فلكل منتظر هناك حاجة لا تلبيها إلا الحاجة عريفة التي نذرت عمرها لمساعدة كل من أتى إليها يفكُّ سحرا أو يعقد حجابا، جاؤوها فرادى وشيعا تداويا وتبركا، فهي من عائلة عريقة ضليعة في علاج المصابين بالجن والحسد، ومما زادها قداسة وقبولا في نفوس مريديها أن يديها المبروكتين العفيفتين لم تلمسا رجلا في حياتها قط، كما أنها آخر من تبقى من سلالتها وحَريّة بأن يتوافد إليها الوافدون من كل مكان قاصدين "وثيتها" قبل أن تقضي وتنقضي معها هذه الملَكة الفريدة..

حدث وأن سرق أحد الأطفال حِجابا من صنعها كان وجده مخبأ في خزانة زوجة أبيه، وعقد مؤتمرا مع كل أولاد وبنات الحارة لمشاهدة ولمس هذا الشيء الفريد الذي يستحوذ على كيان الكبار بعد أن أنفقوا فيه من المال والعقل ما أنفقوا.. كان ملفوفا بإحكام بخيوط ملونة كثيرة ومطويا في شكل ثلاثي وبعناية فائقة، ربما أربعون طية، كلٌّ فاغر فاه ينتظر بلهفة وشيء من القلق أن يتكشّف له سر من أسرار الكون.. لم يخفِ بعضهم خشيته مما يمكن أن يتفلّت من بين هذه الطيات.. حتى أن أحدهم نأى بنفسه عن هذا المصير المروع فانزوى بعيدا..

-"ربما يخرج علينا جن ويتلبسنا فنصاب بالجنون!!"  

كان الترقب ممزوجا بالإثارة والخوف من قدَر قد يغير مجرى حياتهم تماما، لكن ذلك لم يمنعهم من الاستمرار فيما هم فيه، ففضول الطفولة وعبثها لا يعبآن بالوساوس. وبعد وقت من الانتظار وثلاثة أمتار من الورق، كُشف المستور وانفتحت مغاليق الغيب عن خط بقلم رصاص تموّج للأعلى والأسفل ومن أول الورقة حتى آخرها.. استمر الجمعُ في تداولها وتقليبها وتحليلها، ورفعوها للشمس متفحصين ممحصين علها تُظهر كتابةً بحبر سري أو رموزا من لغة غريبة كلغة الجان مثلا لكن دونما جدوى، فتعالت الأصوات في امتعاض وخيبة أمل:

-"ليست إلا خرابيش.. كلها خرابيش!"

مروا عن المكان وهم يرمقون المنتظرين بأسى، فما يعلمونه عن أمر الحاجة عريفة وقواها الخارقة أشعرهم كم هم سذّج هؤلاء الكبار!

تجاوز الأولاد في نهاية تلك الطريق جانبا منه وحرصت مفيدة أن تقف حوله حارسا كيلا يدوسه أحد، فهي البُقعة الحزينة التي مات فيها جلال دهساً بسيارة تبيع جرار الغاز أثناء رجوع سائقها للخلف دون أن يتنبّه أن طفلا صغيرا وراءه منشغل بلعب "القلول". كانت الحادثة مفجعة للجميع وخصوصا لأطفال الحي الذين جعلوا من هذا الركن سبباً لتذكر جلال وأيامه فأحاطوه ببعض الحجارة والريش الملون والورود البلاستيكية. ولأن جلال كان يعشق لعب القلول بل ويعتبر من أمهر لاعبيها، فقد قرر الأولاد أن يجعلوا من كل صيف مناسبة للتبارز فيما بينهم كرمى لذكراه وعلى مستوى المخيم، حيث وضعوا للعبة قوانينها واستراتيجية مدروسة للتصفيات والنهائيات تمتد لأسابيع، يحصل فيها الفائز على حفنة قلول من النوع "القنّاص" النادر، كان جمعها جلال في حياته وقدمتها أمه لصاحبه العزيز الذي نذرها للعبة.. يحتفظ بها الفائز حتى مقدم الصيف الآتي ليقدمها بدوره لفائز آخر. توقفوا قليلا وقرأوا الفاتحة في خشوع ثم أكملوا مسيرهم حتى وصلوا دكان أبي حسين وتدافعوا لشراء الصيصان بكل ما في براءتهم من جلبة وغبطة، كلٌّ منهم  يحلم في أن يلاعبها ويطعمها ويعتني بها لتصبح دجاجة تضع البيض كل يوم، كانت مصبوغة بألوان جذابة منها الأخضر والأزرق والزهري.. كل يختار لونه المفضل ويمضي إلى أن تقدم آخر الزبائن، طفل لم يتجاوز السادسة وضع في جهد قروشه الخمسة على الطاولة العالية، وأشار إلى صوص أزرق بعينه، لكن البائع حاول ثنيه عنه لما رأى الصوص بلا أجنحة، فأصر الصغير عليه تحديدا.

-         يا عمي خذ بدلا منه هذا الصوص، نفس اللون وبجناحين اثنين

-         لا أريده.. أريد هذا

-         يا عمي ستأتي أمك وتتهمني بأني بعتك حثالة البضاعة ولن أنتهي من حديث أنا في غنى عنه!

لكن الصغير بقي على إصراره، فلم يكن من أبي حسين إلا أن انصاع لرغبته وناوله الصوص ودعاه لاسترجاع قروشه، فرمقه الصغير بحدة وصاح:

-          بل احتفظ بنقودك!

ثم وضع الصوص بعناية في صندوق صغير مليء بالثقوب كان قد أعدّه لصديقه الجديد، ودسّه في حقيبة علقها على كتفه. وقبل أن يهم بالخروج، انحنى وتناول عكازا عن الأرض وتأبطها ثم مضى متقافزا برجل واحدة وعيني أبي حسين تتبعانه إلى أن توارى في الزقاق..      

View nasheed's Full Portfolio