دراسة خيري القروي عن رواية الصندوق الأسود

 

قراءة  .............................................  خيري القروي

الصدق الفني ولغة المشاعر ...

في رواية ( الصندوق الأسود ) للكاتبة  كليزار أنور...

 

منذ الصفحة الاولى.. تغرينا الكاتبة العراقية .. كليزار انور.. في روايتها (الصندوق الاسود) بمتابعة انثيالاتها المصاغة باسلوب عذب وشفاف وكأن ينبوع الشعر في داخلها تفجر الى كلمات لبناء عالم من السرد القصصي والروائي يحاول ترجمة هموم المرأة وعكس احلامها والتوغل في دواخلها العجيبة.. اذ لا نملك الاّ متابعة القراءة بلهفة بالرغم من ضعف الحبكة وغياب عنصر المفاجأة والتشويق في الرواية فأحداث الرواية الشبيهة بالسيرة الذاتية او دفتر المذكرات, تسير بهدوء جدول يجري عبر ارض منبسطة, لكن صفاء ماء النهر, يغرينا  بمتابعة انسياب المشهد الجميل..

واجمل ما في الرواية هو حزمة المشاعر الانسانية لامرأة حرمت من ان تكون اما حالها كحال اية امرأة متزوجة من رجل, حتى اصبحت امرأة حالمة تتمنى ان تغمض عينيها لتفتحهما وترى بطنها المكورة التي لا بد ان تتمخض في يوم ما عن مخلوق بمنتهى الروعة والكمال, ولم تتردد في خوض تجربة علمية طبية مكلفة ومؤلمة وهي تجربة تلقيح البيضة خارج الرحم  طفل الأنابيب).

لكن حلمها البريء هذا ظل مجرد حلم يرفرف بأجنحته الشفافة في سماوات الخيال.. ظل مجرد حلم لم يتحول الى واقع ملموس ..

ونتابع  تفاصيل دخولها الى المستشفى منذ بدء التجربة العلمية وحتى نهايتها بما فيها من مشاعر الخوف والامل, والالم الممزوج بلذة توقع قطف ثمرة النجاح.. نتابع ذلك وحتى آخر سطر من الرواية حينما تتلقى مكالمة من زوجها يخبرها  فيها بان التجربة فاشلة...

الى هذا الحد ينتهي زمن الرواية...

تنتهي الرواية بوصول المكالمة وسماعها للخبر غير السعيد, اذ تتوقف الكاتبة عن البوح بحقيقة مشاعرها لحظة سماعها للخبر المحزن وكأن قلمها سقط من يدها, او  فقدت القدرة على التعبير لشدة المفاجأة التي ربما لم تكن تتوقعها او تهيئ نفسها لسماعها, او انها قررت الصمت لتبقي الباب مواربا  امام  القارئ  ليتخيل ما يشاء,  او لان الصمت في مثل هذه المواقف الصعبة ابلغ من كل حديث...

واي حديث لامراة كانت طوال الوقت مستسلمة لصورة  حلم جميل..  ثم  لتجد من يوقظها ويفتح عينيها على واقع جديد.. امراة تريد ان تكون شجرة مثمرة وليس مجرد شجرة صفصاف.

ولكن هذه المرأة صاحبة الحلم المستحيل قلبت الموازين وجعلت من شجرة الصفصاف العقيمة هذه..  شجرة مزهرة و مثمرة...

استطاعت هذه المرأة المعذبة والمبتلات بخيبة الامل من تحويل حلمها المستحيل بإنجاب مولود يولد بيوم معين ويموت بيوم محدد, الى انجاب عمل أدبي له يوم ولادة ولكن ليس له يوم ممات.. عمل ادبي له صفة الخلود...

لا يدل عنوان الرواية (الصندوق الاسود) على الموضوع الرئيس (هموم امراة تسعى وراء حلم) فعنوان الرواية يشير الى قصة أخرى تاخذ حيزا في ذاكرة البطلة.. مجرد ذكرى لا ترقى الى مستوى الهم الذي استولى على تفكيرها في الوقت الحاض, ذكرى كادت تغيب عن حياتها لولا الإلحاح المحموم لصاحب هذه الذكرى, واصراره على ان تتذكره وتشغل بالها به ولا تنساه, يصلها طرد بريدي من بريطانيا على عنوانها الجديد في سوريا. الصندوق الاسود هو اسم الطرد الذي وصلها من الشخص الذي كادت ان تنساه, وحين تفتحه لا تجد فيه سوى قرص مدمج يتضمن اعترافا (بالصورة والصوت), يعترف  لها  فيه بان الفخ الذي نصبه لها والذي راهن أصدقاءه بانه سوف يوقعها فيه, هو الذي وقع فيه.. اذ اصبح الصياد هو الضحية والضحية هي الصياد, يعترف لها بانه وقع في  حبها, ولا فكاك له من اسر ذلك الحب.. لم تهتم لاعترافاته المتأخرة, بقدر ما عزز هذا الاعتراف, ثقتها بنفسها بانها كانت على حق, وإنها كانت على  صواب..

بعيدا عن الغموض والسير بالقاريء في دهاليز مظلمة, تخلق الكاتبة عالمها الروائي ببساطة ووضوح وتلقائية, مع صفاء روحي ابعدها عن الاسفاف والابتذال, فلم تسمح لنفسها السقوط في وحل وصف المشاهد التي تثير الغرائز وتؤجج نار الشهوات, فهي لا تلتفت الى تلك الوسائل الرخيصة للوصول إلى القارئ, انما وسيلتها للامساك بالقارئ هي موهبتها, وشفافيتها, ووهج روحها المحترقة بنار الشعر...

حتى في وصفها للحالات الاكثرحميمية ما بين الرجل والمرأة, كوصف حالة المحبة والمودة والانسجام بين الزوج وزوجته في مخدع الزوجية, فهي تلمح ولا تصرح كما في المشهد التالي :

_  لا اريد أي عطر, تكفيني رائحة انوثتك...

كنت اتابع احد المسلسلات المصرية.. مرر يده على شعري وقال:

_ لحظتنا هذه لن تتكرر والمسلسل ممكن ان يعاد مرة اخرى !!

أقنعني.. فالتفت إليه.. أخذت (الريموت كنترول) ولمست زر الإطفاء.. اعجبه تصرفي وشعر باني فهمته.. توهجت الشموع بالضوء مثل نجوم ليلة صافية.. نفخها بأنفاسه.. تراقص اللهب.. ثم انطفأ....

فالكاتبة لديها فلسفتها الخاصة في الغاية من الأدب اذ تقول في هذا الصدد:

(ان الرواية ما عادت تكتب وتقرأ  لمجرد المتعة الحسية وقضاء الوقت والتسلية, بل انطلق النص الروائي الى آفاق واسعة فتحت المجال للحوار الثقافي والفلسفي والإنساني داخل المجتمع واوجد هذا علاقة جيدة بين (الكاتب) الراوي و(المتلقي) القارئ..)

وخلاصة  القول...

 ان الكاتبة المبدعة (كليزار أنور) شبيهة بخزانة شعر مفتوحة على فضاء المستقبل.. بالمزيد من الجهد والمثابرة تستطيع نظم خزينها الشعري على شكل قصص وروايات قد تأخذ شكل الأصداف واللآليء في قلادة السرد الإبداعي الجميل...

 نُشرت في مجلة (الشبكة العراقية) عام 2012

 

 

 

 

View gulizaranwar's Full Portfolio