دراسة سمير عبد الرحيم أغا عن رواية الصندوق الأسود

كُليزار أنور في رواية.. الصندوق الأسود
العنوان والاهداء والاستهلال عتبات الفضاء الروائي
سمير عبد الرحيم أغا

كليزار أنور :كاتبة روائية : ولدت في العمادية ونشأت في الموصل وترعرعت فيها ، كتبت القصة والرواية ، بدأت النشر عام 1995 وهي الفترة التي شح فيها الحبر والورق ، فترة الحصار البغيض ،ثم جاءت فترة الاحتلال عام 2003 لتزيد من مأساة البلد ومن فيه ،نشرت قصصها وتنشر في المجلات العراقية والعربية ومواقع النت .
صدر لها ( بئر البنفسج 1999) مجموعة قصص و ( عجلة النار )2003 رواية و(عنقود الكهرمان ) 2006 مجموعة قصص.
في كل كتاباتها أحتضنت الوطن وكتبت عن بيئته ، لغتها موجزة ، ترسم الشخصية بدقة عالية ، ذات هم إنساني ، تريد من هويتها أن تكون واضحة كروايتها ، تتنفس مثلها ,
في روايتها الأخيرة ( الصندوق الأسود ) الصادرة بطبعتها الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 2010 . وهي الرواية الثانية لها أستخدمت تقنيات معمارية حديثة ساعدتها في تطوير أدواتها الفنية الروائية ، وكذلك ساعدت الناقد والقارىء في الوصول الى النص والكاتب معا ومنها ربط الكاتبة بين عتبات النص وبين المضمون الكلي للرواية ، حيث إن ذلك قد جعلني أقرأ النص أكثر من مرة ، حتى أستطيع الربط بين المضمون الكلي للرواية وعتبات النص المختلفة وقد ظهر أن الكاتبة استطاعت أن تربط بعلاقات بين لوحة الغلاف ، العنوان ، الغلاف ، الإهداء ، البداية ، وبين مضمون العمل الروائي حتى تضمن جذب القارىء لها ، و يقصد " بالعتبات " مجموعة العلامات التي تعد بمثابة مداخل تسبق المتن النصي ، ولا يكون له دلالة مكتملة إلا بها ، ومن هذه العلامات بالإضافة إلى غلاف الرواية ، العنوان الرئيس ، الإهداء ، والعناوين الداخلية للفصول ، والمقدمة ، وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب : كالصورة المصاحبة للغلاف ، وكلمة الناشر على ظهر الغلاف ، وكلها عناصر توجه قراءة النصوص الأدبية ، وتسهم بدور كبير في إثراء تإويل المتلقي لها ، وسيقف البحث عند أربعة منها هي : الغلاف الامامي والخلفي ، العنوان ، الإهداء ، البداية .

الغلاف
يعد غلاف الرواية عتبة أساسية للدخول الى النص ، ويشكل موجها مهما لا يمكن للقارى أن يتجاهله ، لما له من دلالة تساهم في توجيه توقع القارىء ورسم أفق أنتظاره ، و لا ينبغي القراءة في النص مباشرة قبل الولوج الى النصوص المصاحبة للنص الأدبي أو النظر فيها ، إذ تعد هذه النصوص الموازية أهم مفاتيح العمل ، بل تشكل رؤية مؤيدة لما يرتضيه الروائي ، فلا ينبغي تجاهل أو تناسي كل ما جيء بالعمل بداية من لوحة الغلاف واللوحة الخلفية ، والعنوان ، والإهداء ، والبداية ، والهوامش ـ والعناوين الجانبية ...
لقد أعتبر النقاد هذه الأشياء إنما جاءت لتفسير العمل أو تعضيد رؤية الكاتب ، ولا ينبغي التفسير الاعتباطي لمجمل هذه النصوص المصاحبة .
فبالقدر الذي ستحاول هذه الدراسة تفسيرها وأخذها في عين الاعتبار ، وبالقدر نفسه لا تعد أكثر من وجهه نظر قد لاتصيب أو تخطئ ، فلوحة الغلاف قد تصدر أحيانا دون علم المؤلف ، فهي عادة ما تستند الى أحد الفنانين التشكيليين (كما في النص موضوع الدراسة) ويعبر عنها حسبما تراءى له النص ، أي أنها وجهة نظر – هي الاخرى – قد تبتعد وقد تقترب من النص ، وقد تختلف من طبعة إلى أخرى هذا فضلا عن كون لوحة الغلاف قد تأتي على شكل رسومات هلامية أقرب إلى طبيعة الطلسم التي تحتاج إلى تفسيرها نصا مغايرا ، أو افتراضات وأطروحات. وقد لا يطلع مؤلف النص على لوحة الغلاف أثناء أعداد العمل للنشر ووافق على إشاراتها الدالة على تفسير النص ، والدارس امام لوحة الغلاف هو توقف لا يبعد كثيرا عن الفنان التشكيلي سابق الذكر ، فلوحة الغلاف عادة ما يرتبط وضعها بتقديم الرواية وتقريب عالمها الحكائى من القارى ، وقد تكون لوحة الغلاف ليست إلا بنية تساؤلية مركبة تبرز عنوان الرواية .
تمثل لوحة الغلاف لنص " كليزار أنور" الصندوق الأسود مدخلا رئيسيا لتقبل وقراءة العمل ،فنجد لوحة الغلاف للفنانة الإماراتية ( أمل سعود ) تشير الى أمرأة واقفة رسمت أنطباعيا بعيون ناعسة وملامح دقيقة وبملابس شعبية عربية ، وقد عقدت بيدها مبخرة تطاير دخانها أي المبخرة ، وخلفية اللوحة سوداء تماما . وفي داخلها اوراق مكتوبة وهي ذاتها الاوراق التي شرعت بكتابة الرواية عليها ،
لوحة غلاف الرواية مباشر كنص الرواية حيث لا تخفى أية معالم سيمائية أو أشكال ورسومات هلامية لا تدل على أشياء محددة ، حيث تشير لوحة الغلاف الى صورة فتاة واقفة في مقتبل العمر مشرقة، بنور الحياة وتمسك بيدها مبخرة يفوح عطرها وهو عطر الحياة الذي تريد أن تقرأه علينا ، رائحة طيبة ... رائحة الحبر الذي ينزل على الورق حتى صرنا نعرفها بأنه عطرها الأخاذ ، هكذا يبث بيننا التواصل ، كأننا نشم فيه رائحة البطلة " تيجان" ، وإذا قلنا أن هذه المرأة هي نفسها "تيجان" بطلة الرواية التي جعلت من حلمها بالامومة محور النص و لا نكون قد بعدنا كثيرا عن قصد الكاتبة ، فالرواية على نحو ما سنرى ، ترصد لحال البطلة وهي ذاتها الكاتبة خاصة إبان فترة الحرب الطائفية والموت الذي كان يلحق ببيوتنا ومدننا كل يوم وكل ساعة ، خرجت وسط الموت تبحث عن حلم الامومة تقول في ص 18 ( بقي حلم الأمومة يراودني ويعاود ذهني باستمرار ) جسدتها المؤلفة في صورة هذه الفتاة الجميلة ذات العينين المتسعتين ، وشعرها الاسود ، الذي كلما حاول المشاهد لها غض طرفه عنها جذبته ثانية ، وهي حقا المرأة الام بسحرها وملابسها العربية الاصيلة وهذا ما يؤيد أن الكاتبة ذاتها أحد عشاق هذه المرأة ، الامر الذي نلاحظه في كل فصول الرواية ،
وإذا ما انتقلنا الى كلمة الغلاف الخلفية فهي عادة ما يرتبط وضعها بتقديم الرواية وتقريب عالمها من القارىء المحتمل وطبيعة سياستها التداولي يجعل منها نواة / نصا يبرز خاصية التكثيف في عرض الاخبار ، وقد تكون كلمة الغلاف الخلفية ليست إلا بنية تساؤلية مركبة تبرز مركبات عنوان الرواية وقد تأتي جمل الغلاف على لسان أحدى الشخصيات الرئيسة / الراوي وكأنه شخصية يخاطب المتلقي الفعلي للنص : (1)
والخلفية في رواية ( الصندوق الاسود ) وردت في متن النص الروائي وجاءت بطريقة مقصودة من قبل المبدعة لتكون مفتاحا تأويليا لمضمون الرواية ، ويبدوا أن الناشر قد قرأ الرواية قراءة جيدة أو أصغى الى كاتبتها الذي أوعز إليه بأن يختار كلمته التي يريد وضعها على الغلاف الخلفي للرواية من هذا المقطع من الرواية . بوصفه بؤرة الرواية ومحورها المركزي . ومعها صورة فوتوغرافية للكاتبة .
تقول الكاتبة :
( الكتابة والحلم .. مرادفتان متداخلتان من معنى واحد عندي، تمنحاني افتراضا بأن الكتابة حياة "أكتب حلمي الذي حرمت منه ومن أعيشه افتراضيا . كتابة الحلم تعني الكثير... تعني سبيلا لتثبيته في الوجود الحقيقي. كيف تسير تلك الكلمات وتتحد في المعنى لتمتلىء به أحشائي.. تمتلىء الأخاديد العميقة التي في صدري حليبا أسقي به طفلا يعطيني أحساسا بأنه يكبر من خلاياي، طفلا يحمل من جزءا يزيدني بها حياة تعويضا عن حرمان وحسرة شاءها القدر علي, حلمي أن تكون لي كينونة أرعاها وأحرص عليها، أنشغل بها، فلسفة غيبية أن لا يفكر المرء منا بفقدانها.. وأنا قد أمسكت الكلمة والحلم ")
من يقرأ هذه الفقرات المجتزأة من متن النص يدرك أنها لم تكن غير ملمة لأبعاد العمل الفني، لذلك لم نعول كثيرا على خلفية الغلاف بل العكس فقد حملت فكرة او الحدث الرئيسي للنص ورصدت أهم ملامح شخصية (تيجان ) وقامت بسردها على لسانها ذاته، إذ بمعاودة النص ومطالعته نجد الكلمات هذه ترد في السياق الروائي على لسان البطلة حيث تسيطر دلالات ووظائف الامومة التي تفوح من كل فصول الرواية ، وقد أدت دورا مؤثرا في الكشف عن توتر الذات وحيرتها وقلقها وصراعها وجلت أبعاد العلاقة بين السارد البطل وحلمه .

العنوان
يرى " إيكو" أن مفتاح التأويل يلتصق بالعنوان الروائي وقد يأتي العنوان مجازيا أستعاريا بحكم الشاعرية، وهو أمر يتطلب الإتيان على قراءة العمل كاملا بغية الاهتداء لكنه محتواه مثل (خاتم الرمل ) لفؤاد التكرلي و( عجلة النار ) لكاتبة الرواية كليزار أنو .
والعنوان هو ثريا النص كما يقول محمود عبد الوهاب (2) منه يستطيع الناقد أن يقف على أفكار الكاتب من خلال تبيان علاقة العنوان بالمضمون فالعنوان ليس ( عبارة لغوية منقطعة او إشارة مكتفية بذاتها بل هو مفتاح تأويلي اساس لفك مغاليق القصة ) (3 ) ولا شك أن هناك صلة أو رابط بين العنوان وأفكار الكاتب و انتماءاته
ونجد " امبرتو إيكو" يشير إلى أن العنوان يمثل هاجسا من نوع ما ، فمنذ اللحظة الأولى للقراءة يطالعنا العنوان المنتقى من جانب المؤلف ، ليثير فضول المتلقي فيأخذ في التعبير عن المحتوى بعيدا عن القراءة (4)
وقد يرتبط العنوان بالنص ولكنه ارتباط شكلي ، وعند قراءته نعجب بتركيبه ، وحسن صياغته. إلا أن المجىء على النص يدفعنا للتساؤل عن الصلة المقامة بين المضمون وشكلية العنوان، أنها الصلة غير المباشرة والمفترضة لذكاء المتلقي،
ويعد العنوان " إشارة دالة ومستقلة في إنتاجيتها الدلا لية، وقد يكون العنوان قصيرا أو طويلا، فيتكون من جملة أسمية أو فعلية، اعتمادا على أدوات الربط، وقد يزيد فيصبح عبارة طويلة أو ينقص فيكون كلمة واحدة: تتضمن رمزا يحيل على النص وهذا المستوى التركيبي للعنوان يختلف من كاتب إلى آخر "(5)
فالعنوان يتضمن العمل الادبي بأكمله مثلما يستتبع هذا الأخير ويتضمن العنوان أيضا، والعنوان يتركب من عدة عناصر حين يتقدم كجملة مكثفة تساهم كل مركبات الخطاب في صنعها، كما أن العنوان يطرح خصائص نصه فهو لا ينتج دلالاته، ولا تتضح قيمته إلا بالرجوع إلى نصه الملازم له،
فالعنوان عتبة مهمة لقراءة العمل الأدبي، وذلك على الرغم من كونه لا يتجاوز الكلمة الواحدة او الكلمتين _ في الأغلب الأعم – وقد يشكل اسما لشخص ما من شخصيات العمل أو اسما للمكان الروائي أو لزمن الاحداث ...... الخ ،
ويعد اهم عتبات العمل على ما نحو أشير اليه في هذا التاسيس النظري. فأذا كان النص هو الأصل والعنوان هو الفرع، فأن الترابط العضوي بينهما هو الذي يولد دلالة كليهما، صحيح أن العنوان هو العتبة الدلالية التي تنقلنا من حيز الواقع لحيز التخييل وبالتالي اتصافه بالراية التي توجه فعل القراءة، لكن يبقى النص هو مصدر الضوء والعنوان عاكس له .مع أحتفاظ العنوان بعدة وظائف منها: الإغراء، الإيحاء’ الوصف والتعيين، وإذا أخذنا الوظيفة الإيحائية لعنوان "الصندوق الأسود " ترى من هو صاحب الصندوق؟ وهل الصندوق يحيل على معنى رمزي (سر أو ماضي ) أم يحيل على شيء مادي نفعي؟ ولماذا هو أسود وليس بلون آخر؟ فهل اللون إحالة على اليأس والحزن أم هي سواد مجرد من الدلالة؟ إن هذه البلبلة من الأفكار تجعل حيرة التلقي تتعمق وتحيل القارىء رأسا على النص الحامل للعنوان عله يستقر على معنى محدد، فسياق النص وحده الكفيل برفع هذه الحيرة واللبس، وعلى الرغم من هذه التساؤلات فأن الرواية تعمل جاهدة في البوح بما لم يستطع الآخر البوح به، لما تمتلكه من فضاء يعطيك الدلالات وعالما من البحث والأكتشاف، وبما أن الرواية تسعى إلى البحث والأكتشاف فهي دائمة النمو الأفقي والعمودي، وتسير وفق مراحل تطور إلاداة والتقنية والمكون.
ننتقل الى اسم الرواية (الصندوق الاسود) نجده يتكون من كلمتين وكذلك عنوان روايتها السابقة (عجلة النار) 2003 ، وهو جملة أسمية من مبتدأ وخبر، هنا يمثل العنوان مثيرا أصليا يستدعي العديد من الأسئلة والأطروحات التي تلقى جملة في ذهن المتلقي ، تقول الكاتبة في نهاية الرواية (عنوانها رمزي، يوحي لنا بأن ما حصل في العراق انفجار هائل، فالصندوق الأسود هو الذي يكشف أسباب انفجار الطائرة ، رغم أنه لا وجود لمفردة الطائرة في الرواية كلها) هنا كشفت الكاتبة عن سر العنوان وهي حالة قد تكون غير موجودة لدى أغلب كتاب الرواية ، وليس هذا فقط فقد كشفت الكاتبة أيضا الى كيفية كتابة روايتها وهل يكون ما كتبته يوما ما مهما أو يلفت الانتباه، ومن هي تيجان شوقي ، هل هي الكاتبة ذاتها أم الخيال وحده كتبها؟ نعود الى أصل (الصندوق الأسود) ماهو ولماذا هو أسود: هو صندوق لونه أحمر في مؤخرة الطائرة وظيفته تسجيل كل حالات الطوارىء التي تحصل في الطائرة ومنها الحوادث مثل أنفجارها أو سقوطها ولكونه يسجل هذه الحالات فقط أي الكوارث ، سمي بالصندوق الأسود لأرتباطه بحالات القدر كالموت مثلا ،
بقراءة النص الاصلي التي أعتمد على تقتية الرسائل، في سيرة ذاتية أنثوية، نجد أن تيجان البطلة الرئيسية وجدت رسالة غريبة في بريدها من ايميل غريب عنوانها ( الصندوق الأسود ) وهذه الرسالة تعود لشخص كان يحبها أو أوهم نفسه أنه يحبها وأسمه ماهر ومن فترة بعيدة تمتد سنوات تكلم فيها عن أوهام حبه لها، هي تقول عنه " أعترف كان صيادا ماهرا... صنارته نجحت باصطيادي كطائر غريب حط على شجرة حياتي" وبقي يطاردها برسائله، وفي النهاية غادر الوطن مهزوما وتركها وفي حقيبته نظرة ألم وغصة في القلب ودمعة في العين، هكذا نلاحظ العنوان عند كليزار تحت أية تسميات ممكنة لا يزال مشيرا او يحيل الى مجهول لا يتضح إلا بقراءة النص السردي ذاته .
فالصندوق الأسود، عنوان دال، وعنوان رمزي، يطرح العديد من الاسئلة قد تكون بلا إجابات قاطعة، أنها المسافات الواقعة بين الحلم والواقع، ولنفرض أن عنوان الرسالة (الصندوق الأسود) فهل هو يراها هكذا أم هي لا تريده أن يظهر في حياتها بعد أن تزوجت من آخر، (التجربة علمتني: ولن يسقطني ماهر في آبار اليأس،) ص 58. ثم تقول في ص 108.
" الحب الذي غدر بي- في يوم ما – هو نفسه الذي مسح دمعتي.. ووضعني أما منعطفين علي أن أمضي في أحداهما، الأول معبد والثاني بعكسه، وكان يستوجب أن أختار الأول لو نظرت إليه بمنظار الواقع، لكني لا أومن بالجمال وحده والطرق السهلة، هل تحديت نفسي عندما اخترت الثاني، ومن حسن حظي اخترته هو"
قد يكون هناك من يسجل له (الصندوق الأسود) قدره في النص، القدر في فقدان طفلها، القدر في فقدان الوطن، القدر في ضياع الحلم، هنا يتبين لنا أن اللون الأسود ودلالاته هو اللون الغالب في الرواية ويتردد اللون بدلالاته المباشرة وغير المباشرة، والأسود يرمز للشر، الظلام، الآلام، التشرد، وقد إرتبط بمعاناة الذات المستردة وهمومها وعكس إحساسها بالغربة في وطنها, واللهاث الدائم عن حلم الأمومة, وذكريات تضيء الحياة والظلام الحالك. إذا تغدو ذكريات الكاتبة صورة مصغرة لما حل بوطنها وشعبها، " في عينيك شيء من الحزن المكابر، شيء من المرارة المؤلمة – في كثير من الأحيان – هو عنوان العراقيين فقط " ص 110
إن توظيف الكاتبة للون يؤدي دورا تعبيريا فاعلا في السياق، ويسهم في تشكيل صوره الفنية ويجسد تجربته، فضلا عما يثيره توظيف هذه الألوان من رموز وإيحاءات وتراسل وينتقل بها من المحسوس الى ما وراء الظاهر.

الإهداء
الإهداء عتبة نصية ثانية بعد العنوان، يشكل موجها رئيسا للنص الروائي، يعبر فيها الكاتب عما بداخله إزاء المقربين إليه سواء كان بشر، أم غير بشر وإزاء النص نفسه إذ تظهر أهمية النص من عدمه فيمن يهدى إليه ومن ثم فالإهداء واحد من هذه العناصر التي تشير الى مرور رسالة قصيرة مقصودة من الكاتب الى الآخرين بصورة عامة، وإلى المهدى اليهم بصورة خاصة. (6)
يعد الإهداء تقليدا ثقافيا عريقا، ولأهمية وظائفه وتعليقاته النصية، فقد حظي بدراسة وتحليل مهمين من قبل الكثير من النقاد، ويتخصص الإهداء إذن بعبارة نصية لا تخلو من قصدية سواء في أختيار المهدى إليه / إليهم ، أم في اختيار عبارات الإهداء، وهنا يمكن التمييز بين نوعين من المهدى إليهم الفئة الخاصة والعام ، ويقصد بالمهدي إليه الخاص شخصية إما معروفة أو غير معروفة لدى العموم والتي يهدى إليها العمل باسم علاقة ودية، أو قرابة أو غيرهما (7)
على أن الإهداء يمكن أن يخصص للقارىء أو المتلقي الحقيقي للعمل من غير أن ننسى إهداء المؤلف للمؤلف نفسه أي الإهداء الذاتي كما هو الأمر عند "جويس" الذي حدد في الصيغة التالية (إلى روحي الخالصة أهدي العمل الأول في حياتي) على أن الإهداء يمكن أن يخصص أيضا لشخصية متخيلة هكذا ينفتح الإهداء ليكشف عن تبادل ضمني بين الكاتب والقارىء وكأنه دعوة من المبدع الى جمهوره لمساندته وموافقته أو على الأقل مناقشته فيما يذهب إليه،
هناك تمييز بين إهداء العمل وإهداء النسخة مرتبطا بضرورة تمييز آخر بين العمل والنسخة، فأن النوع الثاني على خلاف الأول، حيث إنه يحمل دوما توقيع المؤلف، إن إهداء النسخة ليس فقط فعلا رمزيا لكنه فعل حقيقي صادق، وذلك فضلا عن أن وظيفة إهداء النسخة تختلف عن وظيفة أهداء العمل ولعل السبب الرئيسي لهذا الا ختلاف يكمن في الطابع الخاص لإهداء النسخة وليس فقط في العلاقة أو في محفل التواصل الذي هو في الأساس حميمي وخصوصي .(8)
الإهداء في رواية الصندوق الأسود بعد العنوان جاء بهذه الصيغة
الإهداء
( إلى ابني الذي لم يأت ! )
كأن الروائية هنا في انتظار حدث عظيم تريده أن يأتي وهو أبنها، أن الإهداء في هذه الرواية (لصورة مصغرة ومباشرة من أحداث الرواية) ولادة، مرارة، حلم. فالكاتب إثر تجربة نفسية.. هي حرمان الامومة تنبأت بأن ثمة فرحا قادما سيأتي، وأن ثمة روح وصراع وحزن فجعل الامل يكفيه فقط الإهداء؟
ولعل قصدية الكاتبة من هذا الإهداء يتجلى في الرسم الكتابي الذي جاءنا به الإهداء.. إذ بأمكانه أن تكتب الكلمات دون كلمة "الإهداء ". وفي سطر خاص بها وكأنها تكتب كلمات شعرية حيث وضعت الجملة في سطر خاص بها ووضع علامة التعجب حيث تحمل الرواية دلالية المحنة التي لا تخلو من حزن، فأذا كانت مجمل الأحداث المشار إليها قد انتهت بالفعل بنجاج العملية، على الرغم من ذلك مازلنا نعيش أجواء الحرب وكأن الحرب هي سبب موت الحلم، بل يوقع على ذلك الكلام الذي هو بمنزلة الشهادة على العصر من مكوث وبقاء الاحتلال
الكاتبة لم تكتب اسمها تحت الاهداء ولكن هذا الاحساس برز لنا بصورة واضحة من خلال وضوح كلماته وسهولة فك رموزه، فالمهدى اليه هو المولود المنتظر وهو أحد شخصيات الرواية ومحور حديثها من البداية الى النهاية، حاملا البطولة في زمن ماتت البطولة ،
إن عتبة الإهداء لم تأت منفصلة عن عنوان الرواية من ناحية وعن المتن الاصلي للرواية من ناحية أخرى بل جاءت عباراته متشظية في كل مكان من متن النص الروائي, وبذلك يكون الإهداء قد قام بعملية استباقية لتقديم الشخصية أو الحدث المحوري في الرواية, وحقق دهشة القارىء وإيحاءاته، وفتح فضاءات رحبة للإيحاء والبث, والواقع أن دوال الإهداء جاءت متميزة تعبر عن مدلولات وحالات نفسية. ترمز لتجربة إنسانية وهذه الدوال هي: الحلم. الإمومة، المستقبل،

الاستهلال
الاستهلال أو البدء لا يقل أهمية عن العنوان فهو المدخل الذي تبدأ به الرواية وللبداءات وظائف تخدم النص القصصي منها : وظيفة التشويق ، تحديد نوع القصة ، تحديد الايقاع النثري، ويعد الاستهلال عتبة أساسية من عتبات النص، ومكون بنائي يقيم مع عناصر السرد علاقة جدلية، إذ يؤثر فيها ويتأثر بها ، فهو نقطة ساكنة تقع بين طرفين, الواقع والنص ينطلق منها الكاتب الى تفصيل رؤيت، ولذا فهو يجسد حالة من السكون والاستقرار على مستوى السرد الروائي.
هذا يعني أن الاستهلال له علاقة بالواقع قبل كتابة النص, منها تكون علاقته بعناصر بنيته المتعددة وذلك لأن ما يأتي به الروائي ليس وليد فراغ، ان البداية/ الاستهلال ليس عنصرا منفصلا عن بنية العمل الفني كله (9)، فالبداية الجيدة المحكمة تجذب المتلقي، وتقذف به الى عالم النص وتعطيه قدارا من المعرفة قبل الدخول إليه، وفي الوقت نفسه يجب أن تتسم بالسهولة في اللفظ والتركيب، وبالأسلوب المرن الجذاب والمعنى الصحيح (10)
والبداية لا يمكن عزلها عن السرد إذ هي إحدى مكوناته قد تطول أو تقصر، أي تشكل جملة واعدة أو عدة جمل وأحيانا تصل الى الفصل وقد تأتينا مع نهاية الرواية أي تلعب دور التلخيص بدقة وشمولية، عادة ما يبدأ المؤلف بتخطيط أولي لعمله من أزمنة، وأمكنة، شخوص، وجملة أحداث الرواية وأخيرا النهاية، وجمل البداية تبدو صعبة كصعوبة اختيار العنوان، إذ تمثل عملية جذب وتواصل المتلقي ولذا تكون دوما في حاجة الى معاودة كتابتها خشية أن تكون منفرة للقارىء
بيد أن الرواية بالنسبة للقارىء تبدأ دائما بعباراتها الافتتاحية ثم العبارة التالية فالعبارة التي تليها وهكذا فنحن لا نعرف بعد نبرة صوت المؤلف ولا المدى الذي يصل إليه محصوله النثري ولا عاداته في تكوين الجمل ونحن في البداية حينما نقرأ أي كتاب ببطء وتردد، فإننا نجد معلومات كثيرة يجب أن نستوعبها ونتذكرها مثل أسماء الشخصيات وعلاقات بعضهم ببعض وتفاصيل الزمان والمكان في السياق، إذ لا يمكن تتبع القصة دون استيعاب كل هذه الأشياء, هل سيستحق الكتاب كل هذه العناء؟ ومعظم القراء سوف يعطون المؤلف مهلة عدة صفحات على الأقل قبل أن يقرروا الخروج من عتبة الكتاب: (11)
ويشير ياسين النصير في كتابه " الاستهلال فن البدايات " الى أن لكل فن روائي بداياته الخاصة , فعلى سبيل المثال تبدأ روايات الواقعية السحرية في أدب امريكا اللاتينية بالعمق المثليولوجي للشعب والحكاية الأسطورية ، بينما تبدأ الرواية الواقعية بأعتمادها على الفعل الإنساني المباشر مستثمرة الإرث الروحي والمادي لحياة الشعب العامل، ويرى أن الرواية الحديثة بشكل عام تعتمد على الميزة الأسلوبية التي قد لا نجدها في أية أستهلالات أخرى ، أي وجود الجمل المكثفة، ورسم الصورة الكلية .
ثم ينهي مؤلف الكتاب حديثه عن الاستهلال الروائي القصير بالميل الى الكثافة تبعا لطبيعتها المركزة ، ويتحدد حجم استهلالها بالفقرة الأولى أو تحديدا – الأسطر الأولى منه، حيث تكثف الرواية بفكرة محورية واحدة. (12)
هكذا نجد فن الاستهلال يحتاج الى دراسة خاصة كأحد عتبات النص المهمة قبل ولوج النص الروائي ذاته، حين نطالع بداية رواية ( الصندوق الأسود ) لكليزار أنور نجدها لا تنفصل عن هذا الشعور الجمعي وتلك الدلالات الإيحائية داخل العمل كله، بل أيضا تشير إلى اللغة المستخدمة في ثناياه، حيث تقوم الرواية كلها على رحلة ( رحلة البحث عن الطفل )، ورواية الرحلة تبدأ مع بداية الرحلة وتنتهي مع نهايتها، وكلما انتقلت من مكان سجلت أهم المشاهد التي تراها ويلتقطها تماما كحامل الكاميرا مع الصور التي يلتقطها واحدة هنا وأخرى هناك.
وتستغرق البداية اثنان وعشرين صفحة من جملة صفحات الرواية التي تصل إلى مائة وسبع وخمسون صفحة .
تقول البداية في ص 7
(ست عشرة امرأة متفاوتات الأعمار... سوريات.. وعراقيات .. مخطوفات النظرة والخوف من أن تفشل العملية... جاءوا بقلوب ملؤها الرجاء في أن تتكور بطونهن حالمات بشي يكبر في أحشائهن ويبقى الأمل... قارة نتمنى أن تطأها أقدامنا.
ست عشرة امرأة توزعن بين غرف المشفى الأنيق.. في صالتنا ثمانية أسرة، على كل سرير تقطن حكاية امرأة كل حلمها أن تكون أما ذات يوم، فيهن من تزوجن قبل خمسة عشر عاما أو أكثر أو أقل، وما لجأن لآخر مرحلة إلا بعد أن نفذت كل سبل العلاج الطبيعي.
صباحا أمطرت.. بدأ رذاذا متقطعا، ثم انهمر وابلا وبوشوشة ملات زوايا المكان والقلوب. فالمطر خير.. نقر قطرات وقع نغما جميلا على زجاج النوافذ .. بين برهة وأخرى تفتح إحداهن الحاجز الزجاجي وتتنفس بعمق ملء نفسها الهواء العذب وكأنهن يملأن صدرهن به. فالأرض عطر خاص ينبثق لحظة استحمامها بالمطر.
الانتظار ممل قضينا عليه بالأحاديث الجانبية وربما التافهة وبعضهن سردن حكايتهن منذ ليلة الزفاف الى ما وصلت إليه اليوم في هذه الصالة).
هكذا في الاستهلال جل التجربة الروائية، فمع العبارة الأولى بل الجملة الأولى نتعرف على مكان وقوع أحداث الرواية، مع وصف دقيق للمكان، ست عشرة أمرأة، وجوه مخطوفة، خائفة، منقبضة، جاءت بقلب ملؤه الرجاء في أن تتكور بطونهن، حالمات بذلك ، في صالة المشفى، وعرفنا لماذا هن في المشفى وكيف جاءن وما هي حكايتهن؟ ونعرف أن بطلة الرواية هي السابعة بينهن، وتسرد تفاصيل العملية. (أطفال الأنابيب ).
هكذا تتعدد الأسئلة دون أجابة, وهناك أسئلة مجابة، بل أن السائل ليس في حاجة إلى إجابات كل شيء واضح. كتب بأسلوب سردي مشوق، كما نلحظ أن البداية ترصد كل آليات التغيير في السنوات، أن جملة أحداث الرواية تأتينا من شخص واحد الراوي أو الراوية التي جاءت لتشهد الولادة نحو ما أشير اليه. كما تخبرنا البداية بأخبار أقرب إلى القص الذاتي عن "الراوية" التي تنفرد بسطور كثيرة فيها. و لكون البناء الفني للرواية أقرب ما يكون الى رواية السيرة الذاتية، التي تنهض على تقديم سردي حديث تتقاطع فيه الرواية مع السيرة الذاتية، والتي تعيد الكاتبة فيها تأليف ماضيها، فهو ماض له خصوصيته ولونه وطعمه. وهي من هذا المنحى تعد إضافة جديدة إلى ما سبق أن أبدعته الكاتبة في السنوات التي مضت.
هنا لم نجد بداية متعددة أو بدايات بل أستهلال واحد لخص أحداث الرواية, التي أرتبطت أحداثها بحالة تيجان البطلة بشكل خاص، بحيث تستغرق مساحتها النصية مائة وسبع وخمسون صفحة، من القطع المتوسط تتوزعها عشرة لوحات سردية تتفاوت حجومها النصية، وقد حملت ملامح سرد الرواية كلها من أزمنة، أمكنة، لغة... الخ و على الرغم من قصر المشهد نسبيا إلا اننا استطعنا من خلاله حصر أغلب الشخوص التي تأتي في العمل. ولهذا فقد حمل الاستهلال في الصندوق الأسود .. المثير الأصلي للكتابة ،
من هذا الضوء نجد أن عتبات النص الروائي في رواية (الصندوق الأسود) لكليزار أنور ذات دالة ابتدا من الغلاف الى العنوان فالاهداء فالبداية، وقد أستطاعت الكاتبة توظيف عناصر العمل الروائ ، جميعا للوصول الى الغاية، بدأ من العنوان وانتهاء بالخاتمة, وأن أي مقترب موضعي ومنتج لرواية (الصندوق الأسود) يلزمه أستحضار هذه الاعتبارات.
لذا فمهما تقدم الزمن، واختلفت العصور، فسيبقى العمل الفني معتمدا –اعتمادا كبيرا على الشكل والمضمون، وهو اعتماد غير منتصر أحدهما عن الآخر فهما في درجة واحدة، ويعملان على إبراز العمل الفني في صورة قيمة وذلك حتى يصل الى الغاية التي من أجلها وجد, ومن هنا فيجب على الأديب أن يجعل الشكل والمضمون معا أولى اهتمامه في إبراز ما يريد أن يوضحه من خلال عمله الفني للقارىء عامة.
.....................................................................................................
الهوامش
1- حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص9 المركز الثقافي العربي، 1990
2- عبد الفتاح الحجمري، عتبات النص _ البنية والدلالة ، 1996 ص 22
3- محمود عبد الوهاب، ثريا النص _ مدخل لدراسة العنوان ، 1995 ص
4- المصدر السابق ص 31
5- صدوق نور الدين، البداية في النص الادبي 1994 ص 71
6- محمد فكري الجزار، العنوان وسميوطيقا الاتصال، 1998 ص 35
7- مصطفى الضبع ، المغيب والمجسد ، ص 30 الكويت
8- المصدر السابق ص 130
9- ياسين النصير ، الا ستهلال فن البدايات في النص الادبي ، 1998 ، ص2
10- عبد المنعم أبو زيد، النص والنص المغاير ،
11- ديفيد لود، الفن الروائي ، ص 63
12- ياسين النصير، المصدر السابق ص9

نشرت الدراسة في جريدة (الزمان) العدد (3883) في 27/ 4/ 2011

View gulizaranwar's Full Portfolio