هُنَّ والذاكرة

هُنٍّ والذاكرة

كُليزار أنور

للصداقة الحقيقية مكان قريب من القلب ينبض بالحياة حتى بعد الفراق. مازالت أسماءهن تلمع بذاكرتي كنجمات بعيدة تضيئ الوجدان وتحيّ الذاكرة بالوفاء.

الذكريات بدأت تدندن كأغنية جميلة على مسامعي من ماضٍ ليس بالبعيد جداً.. تعود بي الأيام نحو مدينة (الموصل) حيث مرابع الطفولة البريئة وأول صداقة غزلت خيوطها الذهبية في نسيج العمر. الأنوار تنبعث من ذلك المكان البعيد والعميق في ذاكرتي وتترك انعكاسات ضوئية على نهر الذاكرة فيسيل المداد على الورق ليدوّن ذكريات بَصَمَتْ حروفها بطابع الوفاء، فقد تباعدنا الأيام وتنسانا الدروب، لكن هناك دائماً شيء ما يبقى يدور في مدارات أفكارنا يذكرنا بما أخذته المسافات منا.

بشرى

أول صداقة طرقت باب حياتي –بنت الجيران- صديقتي قبل الابتدائية ومعها، رغم إن كا منا في مدرسة، إلاّ أنها وفي أغلب الأيام توصلني لمدرستي ومن ثم تذهب لمدرستها حرصاً منها على تمضية أكبر وقتٍ معي، ندرس ونلعب ونضحك معاً في بيتنا أو بيتهم.. لا يهم.. المهم أن نكون مع بعضنا. كانت تتقمص دور المعلمة، تلبس حذاء والدتها العالي وتضع قطعاً من الاسفنج تحت ثوبها. أضحك، فتقول: هل رأيتِ معلمة بلا صدر؟!

كبرنا بسرعة.. كنت أشطر منها. تركت دراستها قبل أن تُنهي المتوسطة وتزوجت أول خاطب طرق بابها، فرقنا المكان والزمان، لكنها ما زالت تسكن قلبي وذاكرتي. رأيتها في سوق (النبي يونس) في آخر زيارة لي للموصل.. خفقَ القلب سعادةً.. حضنا بعضينا وبكينا فرحاً بلقاءِ الصدفة الذي جمعنا.

قدرية

بنت لطيفة، ظريفة، يلمع الفرح في عينيها البندقيتين. تكتب الخواطر والأغاني –وخاصةً أغاني فيروز وعبد الحليم حافظ- والحِكَم في دفاتر مزخرفة بالخطوط والألوان والورود. كنا نترقب منبت الشجر ونعيش ملء الحياة، نجلس في (الفرصة) على مصطبة في حديقة (متوسطة المعرفة للبنات) تحت ظل ياسمينةٍ تنكثُ علينا زهورها البيضاء العطرة. دلتني على سماع إذاعة (مونت كارلو) وبدأت من يومها أُتابعها وخصوصاً برنامج الاعلامي الشهير حينها (أميكو حكمت وهبي). تزوجَت أيضاً بعد المتوسطة وافترقنا.. رأيتها بعد سنين طويلة من الفراق في سوق (السرجخانة) بالموصل.. شَبَكتني وسط الزحمة وكأنها حضنت الدنيا بين ذراعيها.

سناء

صديقتي الصدوقة في مرحلة الاعدادية. كم كنت أحبها وتحبني، أشتاقها وتشتاقني. نجلس على نفس الرَحلة، حتى أثناء الدرس تكتب لي على قصاصات من الورق وتضعها أمامي.. أقرأها وأرد عليها بنفس الطريقة. افترقنا بعد الاعدادية. وتَزَوجت بعد أن تَخَرجت من كلية التربية/ قسن الجغرافية. وعملت مدرسة في مدينة (زاخو). لم نلتقِ بعدها، لكني ما زلت أذكرها بكل حب وخير و يَرفُ قلبي حنيناً كلما سمعت اسم.. سناء!

شيلان

فتاة جميلة من السليمانية. كانت زميلتي في المعهد الفني في الموصل.جمعتنا صداقة راقية من نوعٍ خاص مليئة بالألفة الحنونة. كلتانا (كردية) لهجتها (سورانية) ولهجتي (بهدينية) أغلب مفردات لهجتينا مختلفة.. نتكلم الكردية وعندما نصل إلى طريقٍ مسدود من التفاهم نتواصل بالعربية. كانت اللغة العربية جسراً سهلاً للتواصل والتفاهم! لم أرها بعد المعهد، ولم أسمع أي خبر عنها.. هل يا ترى ما زالت تذكرني كما أذكرها وأحبها؟! حتى إني أسميت إحدى بطلات قصصي باسمها وفاءً لها ولصداقتها.

شيرين

أول صديقة بعد الوظيفة.. تفهمني وأفهمها.. تستوعبني وأستوعبها. أنفض لها ذاتي وتنفض لي ذاتها.. يبدو بأن وقت الدوام كله لم يكن يكفينا، كنا نلتقي حتى بعد الدوام تأتي إلى بيتنا برفقة والدتها بسيارتها (البرازيلي البيضاء) ندخل غرفتي أو نخرج معاً ونترك أُمينا لتتجاذبا أطراف الأحاديث البيتية. انتقلت شيرين وظيفياً إلى (دهوك) ومن يومها لم أرها، لكني ما زلت أذكر طيبتها وعشرتها وهديتها (ألبوم طوابع) في ذكرى ميلادي العشرين. يسرى إنسانة طيبة لها عينان عسليتان، مضيئتان. زمالتنا في شعبة (الحسابات) نفسها تدرجت مع الأيام إلى صداقة مخلصة، فالزمالة لا تتحول إلى صداقة إلاّ بالصدق والمواقف النبيلة.

يسرى

(زوجة مفقود) فُقِدَ زوجها في (حرب الخليج الأولى) وهي عروس، وما زالت إلى الآن في انتظاره أملاً برجوعه ذات يوم! أصيلة ووفية وسريعة في العمل، وصادقة جداً مع نفسها والآخرين.

جنان

(الحاجّة) جنان.. طيبة إلى درجةٍ لا توصف.. قلبها أبيض كثلج ربيعي. تحبني وتحرص عليّ كأم. ولأني (وحيدة أهلي) رافقتني عدة مرات لحضور المؤتمرات الأدبية في بغداد، كانوا يتصورونها والدتي رغم إنها تكبرني بثمان سنوات فقط!!

رافعة

فتاة تركمانية، هادئة، بيضاء البشرة. أحد مواقفها جعلني أحترمها لآخر رمق من العمر. ويقال: "من أجل عين تكرم مدينة". ولأني أُحبها أحببت كل التركمان.

دنيا

شابة طويلة، شقراء ذهبية الشعر تبدو كـ(مانيكان) تدمع عيناها اللوزيتين لأبسط المواقف الدافئة، لم يفرقنا الدين.. زميلتي وصديقتي الأقرب إلى قلبي.

كانت دنيا آخر الصديقات في الموصل.

***

هذه الذكريات كالشمس أدفأتني.. ياه... ما زالت ذكراهن تلمع في ذهني كقطعٍ ذهبية تلمع تحت المطر. أنبل ما في صدري ينحني لهن وداً واحتراماً.

تزوجت وسافرتُ إلى مدينة بعقوبة لأعيش فيها مع زوجي. لي زميلات هنا، ولي جارات طيبات، لكن –مع الأسف- لم تدنُ واحدةٌ منهن لعتبة صداقتي!!!  

14/ 12/ 2008

* نُشرت في جريدة (الزمان) العدد (3277) الصادر 25/ 4/ 2009.

View gulizaranwar's Full Portfolio