قراءة في رواية.. صحراء نيسابور

 

التائه في صحراء نيسابور

كُليزار أنور

الأديب يعيش حياته ويكتبها بمحصلة قوتين (الحلم والواقع) معاً! إذا الواقع لم يؤطر بالخيال في الكتابة، فلن يسمى أدباً وقت ذلك. "صحراء نيسابور" رواية القاص حميد المختار جمعت الضدّين، فلا ندري أين يبدأ الواقع فيها وأين ينتهي الحلم. العنوان بحد ذاته لوحة (رمزية) نقلت لنا بأمانة محور هذه الرواية، رغم انه لم تذكر كلمة (نيسابور) في النص كله.. رواية تعددت فيها الأشكال واللغات.. وجدنا فيها الشعر والسرد والتراث والأسطورة والفنتازيا والغائبية والهذيان. يقول ادوار الخراط: (الصوفية من الحالات الإنسانية الفذة التي لها سحرها ومصداقيتها الأساسية، لأن الصوفية تعطي ما أتكلم عنه، أي ما يمكن أن نسميه حلول العالم في الذات، وحلول الذات في العالم، العالم طبعاً بكل ما تحوي هذه الكلمة من مقومات).. و "صحراء نيسابور" لها رؤية صوفية متميزة خاصة بها.. امتد زمن النص فيها ليروي لنا تفاصيل دقيقة أخرى، فينفتح على عالم آخر أوسع. الحدث الرئيسي بسيط وصغير، لكنه إبداع الكاتب كي يجعل للحدث امكانياته المفتوحة لتشكيل فني أطول. الرواية تبدأ بضمير المتكلم.. الراوي هو البطل.. صحفي منسي في إحدى زوايا صحيفة كبيرة.. هزمته الحياة وتركته وحيداً بعد أن غادرته الزوجة والأصحاب. استدعاه رئيس التحرير وخيره بين أمرين.. أما ترك الصحيفة، فلا فائدة ترجى منه. أو إعطاؤه فرصة للبدء من جديد وبداية حقيقية.. واثقاً بأنها ستثمر، فهو يعرف قدراته الكتابية الفذة، فقد قرأ له كثيراً. وتساءل: ما جدوى هذه العزلة التي وضع نفسه فيها. أراد منه أن يكون فاتحاً، فالفتح لا يقتصر على المدن والمؤسسات، والفرصة الجديدة كتابة عن المراقد والمقابر للأولياء والعلماء، وخصص له مصوراً ليرافقه في جولاته ويكون تحت تصرفه وهو يفتح هذه المراقد المنسية لتنبض بالحياة ثانيةً بقلمه النابض بالإبداع. طلبْ رئيس التحرير بعث في نفسه الأمل من جديد.. دقق في قائمة أسماء الأولياء.. واختار آخر اسم في القائمة (محمد بن علي الجبلي) فقد تذكره.. كان يرافق والده إليه ليالي الخميس في طفولته. رجع إلى متون الكتب وحواشيها ليبحث عن الشيخ الجبلي.. وتستمر رحلة البحث.. دروب متواضعة تقوده لدروب ضيقة.. وأشخاص يقودونه لأشخاص حتى وصل أخيراً.. وساعده صبي صغير للدخول إلى مرقد الشيخ بعد أخذه المفاتيح من الحاجة حارسة الضريح التي رفضت أن يدخل اليه. أخذ زميله يصور المرقد الذي غطته أكوام من التراب. أية روح سحبته وأضاءت مكامن نفسه.. استطاعت هذه الروح أن تنير متاهاته اللامتناهية.. أنسته الأصحاب وعُقد حياته وإحساسه بالعجز بعدما تركته المرأة التي يحب. كان الصبي يجلب له المفاتيح وقت نوم الحاجة. وذات مرة قرر قراراً جنونياً.. أن يختبئ في مكان من البناء المتداعي ليراقب ما ستفعله الحاجة. ودخلت.. أوقدت الشموع وضمخت المرقد بعجين الحناء.. أزاحت الحجاب عن رأسها، خلعت ملابسها قطعة قطعة " تحولت المرأة إلى كائن أبكم تجسّم عبر مرآة شفافة أزيحت عنها ستائر النسيان فبرز فيها جسدها معكوساً ومحتجباً بها، كانت المرآة ظهوراً للجسد المتماهي في أعماقها الخفية وشكلاً مجسداً للمرأة المهتاجة حتى تداخلتا معاً فصارت المرأة مرآةً والمرأةُ جسداً افعوانياً شهوانياً يفحُّ زاحفاً باتجاه المرقد وبابه المفتوح من جهة الرأس، كنت أراها أفعى بيضاء تلمع تحت وهج الرغبة وذبالة الشموع." ص 19. عوالم صوفية أختارها الكاتب حميد المختار ليدور في مداراتها الواسعة.. شيوخ وتكايا ودراويش.. عالم غريب معبأ بأنفاس الملكوت.. طريق طويل ونادراً ما تجد عليه الخطى. إذاً.. لقد اختار الكاتب مساراً وعرا وصعباً يغري بالمتابعة. لقد أعطاه أحد الشيوخ مخطوطاً، وعندما عاد اليه.. لم يجده! وما أن انتهى من قراءة الصحيفة الملكوتية حتى أُغمي عليه.. نسي الجريدة وكلام رئيس التحرير والمهمة التي وكلت اليه. وجد نفسه متلاشياً كنسمة هواء.. خرج من الواقع ليدخل وجوداً برزخياً، سابحاً في أُفقه المفتوح.. وتفاجأ، لم يكن وحده، بل رأى أعداداً لا تعد ولا تحصى تتسابق نحو منبع النور. بين الواقع والخيال هوة كبيرة لا يعود منها المرء سالماً إلى واقعه.. لقد سقط من فردوسه إلى قعر الجحيم مباشرةً.. اتهمه الناس بالجنون واقتيد إلى مصحة نفسية "في الصباح وجدتني نائماً على سرير بشراشف بيض ناصعة وتحت وسادتي علبة سجائر وقداحة، تلفت في أنحاء الردهة فوجدت مجموعة من المرضى الذين يرتدون دشاديش قصيرة مقلمة، حين التفتوا إليّ حيوني بتحيات من حركات رؤوسهم وأيديهم." ص 48. يقترب منه الذي وضع علبة السجائر والقداحة تحت وسادته.. صبحي، عاش الحرب بطولها وعرضها.. بعد أن أخذت منه شقيقه وأصابع قدمه اليسرى. الحرب قادته إلى الجنون، فلقد بقي وحيداً في ملجئه وحيداً بعد أن مات الجميع.. يهرب من ملجأ إلى آخر وفي النهاية يجد حشد من جنود آخرين، لكنهم ليسوا كزملائه.. وأيقن حينها انه مع الأعداء في ملجأ في أرض العدو.. كانوا هم أيضاً مذعورين من الموت. "في تلك الحفرة الحارقة الضيقة وهناك استحممنا في ظلامٍ واحد وتطهرنا من كل براثن العداء والحقد، لقد اكتشفنا جميعاً في تلك اللحظات أننا ننتمي إلى جنسٍ واحد.. آه حقاً فنحن بشر، نتدثر بمعطف واحد كبير هو معطف الإنسانية الذي لا تمزقه الحروب والشظايا ولا تحرقه النيران." ص 55. حكى له حكايته هذه وخرج مسرعاً كما دخل ليختفي. بقي وحيداً.. عاد إلى نفسه تقوقع فيها ليفكر بلعنة الإبعاد والإقصاء التي أصابته، فها هو بين مجاميع المجانين الذين أسسوا عوالمهم الخاصة وأقفلوها عليهم وباتوا منقطعين عن الدنيا وما فيها.. لا يصدق أحد بأنه ليس بمجنون، فالأطباء يغدقون عليه بالرجات الكهربائية والأقراص المهدئة. ومع الأيام أصبح الصمت شعاره والنوم دثاره في محجرهِ الجديد ليتحول إلى ما يشبه الضريح لرجلٍ مجهولٍ لا يسأل عنه أحد. حال يقوده إلى حال.. الخيال يفتح له أبواب مدنٍ قصية وغريبة يدخلها ناشداً المعرفة –وسائلاً عن الشيخ الجبلي- ليخرج منها وهو أشد حيرةً وغموضاً. "صحراء نيسابور" روايةٌ تدين الحرب والموت المجاني الذي لاحق الإنسان العراقي، فقد تلاحقته الحروب لدرجةٍ أنهكت كل قواه.. هل هو قدر.. أم غضب من الله؟؟! هل تسأل الإنسان عن سر رخصهِ إلى هذه الدرجة؟! الرواية تتكون من سبع فصول: (أسفار الشيخ الجبلي، المخطوطة الملكية، السفر إلى برزخ الخلق، مشهد الوجود، خان الصعاليك، مشكاة النار، حانة الأبدية). حينما يصل بطل الرواية –بخياله- لنهاية الرحلة يأخذ التعب منه مأخذاً، ولم يحصل على مبتغاه.. كل شيء ذهب في طي النسيان.. لم يبق أمامه سوى باب واحد مفتوح.. هو النهاية وهو البداية، فيدخله.. ويغيب في ملكوت الوجود!

*"صحراء نيسابور" رواية الكاتب حميد المختار الصادرة عن منشورات بابل/ المركز الثقافي العربي السويسري/ 2007.

www.postpoems.com/members/gulizaranwar

View gulizaranwar's Full Portfolio