دراسة عن مجموعة .. في البحث عنها .. للكاتب حسن حميد

 
قراءة


اللوحة المشهدية لقصص .. في البحث عنها


كليزار أنور


 "في البحث عنها" آخر مجموعة قصصية للكاتب حسن حميد. قصص تُعري الواقع المؤلم لإنسان هذه الأرض بمجملها..إنسانية الهدف والمضمون.. صياغتها موظفة توظيفاً فنياً راقياً.. مع صياغة لغوية ماهرة.. ووصف دقيق للمشاعر والأحاسيس والأمكنة.. وحتى الفراغ، خلق الشخصية عنده يولد فعلاً درامياً.. يكشف بكل وضوح خيوط الحكاية. خرزات تناثرت على بياض الورق (المساء، المدينة، الرصيف، زخات المطر، امرأة وحيدة ورجل وحيد) هذه المفردات لظمت القصص في خيط واحد.. قصص تحمل هوية الضياع والبحث الغير مجدي عن أوهام لا طائل منها سوى أحلام تستيقظ على وسادة الزمن. أبطال قصصه وحيدون ويعيشون في غربة قاسية لا تبني لهم غير حكايات في الخيال.. حكايات زُرعت في عالمهم الصامت.. أبطاله يتوهمون الحكايات ويصدقونها.. وكأنها حدثت معهم، فالوحدة تغزل الأوهام. قصص رائعة اللفظ والعبارة والصورة.. لا يوجد فيها ثرثرة زائدة ولا ترهل فكري.. انه إبداع قاص متمكن.
 إذاً.. حسن حميد يتقن أدواته القصصية ويتقن بناؤه الهندسي بأسلوبه الخاص من خلال انتقالاته الذكية وكيفية خلق أجواء خاصة لاستمرارية البناء الدرامي والتكنيكي.
 تجوال
 حين تتحول القصة إلى لوحة فنية.. يبحث الفنان –كاتباً أم تشكيلياً- عن مادة يملأ بها فراغ لوحته أو أسطر ورقته.. ورُسمت اللوحة بلون اللقاء والسهر في رحلة تجوال للبحث عن موضوع لكتابة قصة أورسم لوحة.. لا فرق. (ليل ومطر وأمرأة ورجل) اجتمعا في ذهن الفنان.. بعد أن أغلق الجميع محلاتهم والناس تستعجل الخطى للعودة إلى بيوتها.. إلاّ هما.. أرادا أن يعيشا لحظة مشتهاة.. كانا وحيدان على رصيف لامع ضيق.. تناجى الغريبان بهمسٍ دافئ.. وأخذتهما الغيبوبة تحت خدرٍ ناعمٍ أليف، ولم ينكشف الصباح إلاّ على جسدٍ واحد منطفئ لرجلٍ أشيبٍ قصير.. لا بيت له ولا أصحاب.. رسم له الخيال دفئاً لآخر ليلة من عمره.
 الفنان
 خمسة عشر لوحة مشهدية يتناوبها  كلُ من ( الرسام وسلوى والعجوز حفيظة) لرواية حكاية فنان يتوهم –كل ليلة- بأن النقاد قادمون ليروا لوحاته في غرفته التي يسمونها (كوخ الألوان) والتي أستأجرها من الحاجة حفيظة.. هيأ الغرفة ونظفها وعلق اللوحات على جدرانها.. وكانت هذه الغرفة كل بيته، فيها يطبخ ويصنع قهوته ويرسم وينام. لم يعرف من المدينة سوى سلوى التي عوضته عن كائنات عديدة. سلوى مثله وحيدة تنسج الأحلام ليلاً ليمحوها النهار القاسي " فلا يلتقيان إلاّ مسافة ضوء شمعة، لحظتئذٍ، تهب سلوى واقفةً، تتمنى له أحلاماً وردية وتقبله، ويتمنى لها نهاراً بكراً ويقبلها، وحين تُفلت الكفُّ كفَّها.. يسقط القلبان في ضجيج يرجُّ المدينة!!"ص24.
 وانتظر ليلتها كثيراً.. ولم يأتوا، بل حتى سلوى لم تأتِ. وفي لحظة سرق فيها الكرى عيونه رأى سلوى قد دلفت وبعدها الأصدقاء.. ابتهج لمرآهم وهم يتدافعون أمام لوحاته، فتقدمهم وهو يشرح لهم التفاصيل الفنية.. يفسر أسرارها ليرى نظرات الدهشة والإعجاب بخصوصية فنه. كان هذا طقسه كل ليلة.. وقد اعتادت الحاجة حفيظة على رؤيته ومراقبته وحدها وهو ينتظر قدوم أُناس تأخروا في المجيء.. وعندما تحس بأن المساء سيفتك به.. تطرق بابه المفتوح.. يرتبك وينطوي على نفسه، فقد انكشف أمامها مرة أخرى - يريد أن يعترف لها بأن لا أصدقاء له ولا حبيبة- ينكس رأسه كراية، ليجيبها: تصبحين على خير. وينام.
 في البحث عنها
 وهم البحث يخلق عنده أحلاماً وأخباراً ووجوداً لامرأة على الطريق تبيع أكواز الصبارة الناضجة.. امرأة منهكة بين مصدر رزقها وبين رعاية جسد والدتها المشلول.. جسدها الذي تحول إلى نصفين، واحد يأكل الآخر.. واحد معافى وآخر ميت.
 القاووش
 أجمل وأقوى قصص المجموعة.. فيها من السرد الجميل الذي يسحبك بهدوء لتعرف حكاية رجل دخل السجن بسبب الكلام.. لسانه قاده إليه.. وحُكم عليه بالإعدام.. كان يعرف بأنه سيعدم.. ليلة تؤجله لأخرى.. ومرت عشرون سنة.. بات أقدم سجين في ذاك القاووش الحجري الرطب الذي حفظ أدق تفاصيل حيطانه وظلمته وحشراته ومواعيد مرور الشمس عليه.. ويقوم بكل أعمال القاووش من تنظيف وغسل وكنس.. كم غادر وكم استقبل.. وكم عُذب بدل غيره.. حتى طعامه يقسمه بين رفاقه "- خذوا، فأكلي خسارة، لن أُبقي لهم سوى عظامي.. وأنفاسي فقط."ص66.
 وبعد أن يهده التعب ينزوي في زاوية يراقب زملاءه، ويشعر بلحظة والدموع على خديه، فقد ألفهم.. حتى أصبحوا كأهله بعد أن مات أبواه حزناً عليه. ويتراءى له طيف (هنومة) التي أحبها ذات يوم.. طيفها يشعره بأن الحياة جديرة بأن تعاش ولو من أجلها.
 ويصدر إفراج عام، فيضج القاووش بكل ما فيه.. وهو من ضمنهم غير مصدق.. وكان آخر الخارجين بعدما حاول اقناع مأمور السجن بأن يبقى حارساً أو مستخدماً، فلا أحد ينتظره في الخارج! وفجأة يرغب بالخروج.. ولو من أجل هنومة.. ويمضي في هدأة الليل.. يجر الخطى لا يدري إلى أين، فالمدينة قد تغيرت كثيراً.. ينام في إحدى الحدائق.. وفي الصباح يذهب لحمام السوق وبعد أن أصبح بصورة مقبولة عاود البحث.. درب يقوده إلى درب إلى أن وصل إلى حارته، فاستقبله صاحب إحدى دكاكينها وقدم له شاياً بالنعناع.. وقبل أن يسأله عن بيتهم وعن هنومة أحاط به ستة رجال وأخذوه ثانيةً "وهناك في القاووش عرف أنهم، اكتشفوا الأوراق التي خبأها تحت فراشه، تحت البلاطات الصغيرة، أوراقه التي كتب فيها مشاعره، وأفكاره كلها بوضوح شديد، وبالأسماء الصريحة!! فقد باح بكل شيء، ووصّف كل شيء، ولام أناساً كثيرين، ونعى مصير آخرين.. بعدما ظنّ أنه ميت لا محالة، وقد نسي أن يأخذها معه حين أفرجوا عنه بعدما أعمى قلبه فرح الخروج.. المفاجئ!!"ص76.
 الرجل العجوز
 صورة مشهدية لرجل كبير في السن مات وحيداً في فراشه.. لم يبق في الغرفة أي شيء حي سوى زقزقة طائر أصفر اللون.. يزقزق بصبر عجيب ومتواصل لرجل لم يتحرك منذ ثلاثة أيام.
 رجل وامرأة
 هي تركت حفلة صديقتها لتجري مكالمة معه.. وهو أيضاً ترك عمله كي يتصل بها ليطمئن عليها.. وتكون مفاجأة اللقاء التي جمعتهما عند باب قمرة الهاتف، فمضيا معاً مبتعدين عن القمرة متكاتفين من دون كلام.
 امرأتان
 أربعة رجال وامرأتان جمعتهم ندوة خاصة بالاقتصاد.. أعمارهم مختلفة وقاماتهم متفاوتة.. محور الحكاية المرأتين.. واحدة جميلة جداً، والأخرى بعكسها تماماً.. والرجال الأربع هدفهم جذب انتباه السيدة الجميلة جداً فقط.. وفي لحظة قررت الرحيل.. ورحل كل شيء جميل معها.. وبعد أن غادرت بدأوا ينتبهون للسيدة السمينة في غمرة أحاديثهم وشعروا بأنها جميلة أيضاً رغم بدانتها وشعرها القصير.
 السجاّن
 عامل في المطبعة.. يُأخذ للسجن.. سؤال وجواب وضرب وألم وأنين.. دون أن يعرف ما هي تهمته.. تمتد السنوات به في القاووش الموحش الذي ألفه وتآلف معه ومع ساكنيه.. وذات يوم أمره السجان أن يمضي خلفه.. قاده إلى الغرفة التي داسته قدماه حين جاؤوا به إلى السجن. "أقف، فيطول وقوفي ويمتدُّ.. أحسُّ كأني غادرت قدميَّ وجسدي معاً. فتلفني شهوة الجلوس.. لكنني لا أتجاسر. يراودني شعور بأني أصبحت شجرة.. ستفرع، وتخضرُّ أوراقها عما قريب، أو أنني بتّ عمود نور.. سيألفني الأطفال ويلعبون حولي."ص105.
 الرجلان
 رجلان يلتقيان على درجٍ تحت ظل شجرة لبلاب أحدهما يصعد والآخر يهبط.. الطويل الذي يصعد (ابن دنيا) والقصير الذي يهبط (ابن آخرة).. كل ما يجمعهما ومنذ ثلاثين سنة هذا الدرج الذي يشد غرفتيهما المتشابهتين.. الطويل يتساءل مع نفسه: أي سر يجعل القصير لا يرى في الدنيا شيئاً سعيداً ويتصور الآخرة وكأنها على بعد ذراع. والقصير يتساءل أيضاً: أي سر يجعل الطويل يتعلق بالحياة إلى هذا الحد ولا يرى منها سوى الشراب والسهر والنساء.
 والتقيا في منتصف الدرج.. وراح كل منهما يمنح الآخر فرصة المفاتحة أولاً. وهبت نسمة قوية.. استنفرت شجرة اللبلاب.. اصطفقت أوراقها.. أحدثت ضجيجاً جميلاً أغرقت وقفتهما الحائرة!
 السراب
 مجموعة عمال حالفهم الحظ يوماً بقدوم رجل طويل باتجاههم مطالباً منهم بنقل الحجارة من مكان إلى آخر مقابل أجر.. وانطلقوا وراءه من جنوب المدينة إلى شمالها دون أن ينتبهوا لكل ما في الطريق، فكل أملهم أن يعملوا ويعودوا بأجرتهم إلى بيوتهم. وعندما وصلوا استغربوا.. انه يطلب نقل الحجارة من هنا إلى هناك.. لاحقته الأبصار حيث أشار ودهشوا لأنهم لم يروا الحجارة!! وحاروا فيما بينهم، فلا يدرون ماذا يفعلون وكيف يتصرفون مع هذا الرجل؟ وفي منتصف النهار استأذنهم بالذهاب لوسط المدينة ليجلب لهم طعام الغداء، فأعطاه العمال قائمة بالأسماء يقابلها مبلغ من المال.. وأخذ معه أحدهم. اجتمعوا حول بعضهم يغنون ويقطعون الوقت بالحديث عن أولادهم ومشاكلهم وأعمارهم التي تسربت.. إلى أن حل المغيب والرجلان لم يعودا بالطعام ولا الدخان ولا بأجرتهم.. بقيت أبصارهم مفروشة على الدرب ترقب عودة الرجل الطويل الذي تأخر كثيراً، وجاء الليل ولم يأتِ!!
 نحكي.. عن الرجال!
 جمعها الوقت مع رويدا وحفنةٍ من النساء في هذا المكان الكالح.. وكأنه مستودع حطب.. ولكل منهن حكايتها التي انتهت بها إلى السجن.. رويدا قتلت زوجها بعد أن جردها من كل شيء واستغلها واستغل جمالها كطعم لزيادة أمواله ونفوذه. وهي قتلت حبيبها (عبودة) الذي التقيت به في المشفى.. جاء مع أمه المريضة.. وحصل تقارب بينهما وعرفته وعرفها.. وماتت أمه وبكياها معاً كأم مشتركة.. تعودت عليه وتعود عليها وأحست أن مصيرها ارتبط بمصيره.. وفجأة تجاوز أزمته وعادت إليه صحته وحين استقرت أحواله تماماً فاتحته بموضوع زواجهما.. رفض بشدة، رغم انه يعتبرها حلم حياته، فهو لن يعيد سيرة أمه المطلقة.. وغادرته والتحقت بدير السيدة ونذرت نفسها لخدمة الرب.. ولم تنسه.. وخرجت من الدير -بعد سنتين- في ثياب الرهبنة قاصدة بيت عبودة وطرقت الباب وفتحه هو.. تقدمت نحوه رمت نفسها على صدره.. ولم يضمها.. ولم ينطق بحرفٍ واحد.. لمحت خلفه امرأة تشد إلى صدرها طفلاً رضيعاً. ولم تتركه إلاّ ووجه عبود مصفر بين يديها.  
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*"في البحث عنها" مجموعة قصصية للكاتب حسن حميد صدرت عن دار نارة للنشر والتوزيع/ عمان/ 2006.
 
www.postpoems.com/members/gulizaranwar 
 

View gulizaranwar's Full Portfolio
tags: