دراسة عن رواية .. قبل اكتمال القرن .. للقاصة ذكرى محمد نا

                                                                                          

رواية " قبل اكتمال القرن "
قرن الغيابات القسرية


كُليزار أنور


 الأزهار البرية لا تحتاج لمهندس زراعي لتكون جميلة.. هكذا أصف رواية ذكرى محمد نادر" قبل اكتمال القرن". هي ليست بحاجة لقراءة لتُوصف بأنها جميلة.. رواية طبيعية بواقعها، كزهرةٍ برية وُجدتْ في أرض هذا الكون الفسيح لتقول بكل مرارة: بأن القهر والاضطهاد والجوع والاستبداد كان من نصيب بلدنا ليكون في المحصلة النهائية بلداً عامراً بالغائبين! فهناك مَن غيبتهم السجون، وهناك مَن غيبتهم الحروب، وهناك مَن غيبتهم مطرقة الظلم، وهناك وهناك وهناك.. ككرة الثلج تكبر كلما تدحرجتْ أكثر!
 " قبل اكتمال القرن" عمل سردي يحكي حياة فرد من عائلة، وهذه العائلة هي نواة الرواية.. لتستمر لثلاث أجيال متعاقبة .
 عبد الرحمن الرضواني.. ذاك الارستقراطي من أصول تركية.. حفيد حامل راية لواء الجيش العثماني. تزوج من امرأتين (الزنجية والشمرية). ورث اسم الملا عن جده. لهُ ستة أولاد من الزوجتين (مرتضى، صفوان، خليل، طه ) وابنتين (الوضاءة وفضائل) . كان من نصيب الزنجية ثلاثة أبناء أورثتهم لون بشرتها.. أما طه والبنتين كانوا أبناء الشمرية.. وسُميت الوضاءة لشدة بياضها.. وطه الذي شنق نفسه وتدلى جسمه من النخلة ذات فجر ربيعي.. وصدقت نبوءة تلك العرافة العجوز حين أخبرت والده بأنهُ سيموت بحبل !
 دائماً العراق مثار أطماع الغرباء .. وما أن تطأ أقدامهم هذا البلد حتى يشعروا بالاشمئزاز من بلد لا يشبه الحلم كما توقعوا .. لم يجدوا مغارات علي بابا وجراره الأربعين السحرية ، بل وجدوا أُناس هلكها الجوع وعيون مدهوشة متسائلة عن مصيرها ذات يوم .
 قوة الرواية تبدأ عندما يبدأ الجيل الثالث بإكمال الحكاية . هل هو سطوة الواقع الذي نعيشه ؟ أم لأن أبطال هذا الجيل بالذات لهم صور في شخصيات أيامنا هذه ؟! ( بعد سنوات تقل عن العشرين عاماً ، وحرب طويلة حسبت بأعداد بياناتها إلى حرب انتحارية أخرى ، تمسح عيناه كل زاوية في العاصمة ، مؤملاً أن يراها مرة أخرى متلهفاً الوصول إلى أرض قاحلة ستسرق منه مستقبله ، باحثاً فيها عم مجدٍ سينفيه خلف أيام النسيان وقضبان التعاسة. ) ص 109 .
 هزائم تجرها هزائم .. ماذا تجلب الحرب سوى الهزيمة ؟ فالحرب ليس فيها طرف منتصر أو مهزوم ، ففي كلا الحالتين المهزوم الوحيد هو الإنسان !
 يعلو نشيج الحرب ، فالحرب على الحدود وبين جدران البيوت .. دخلت التفاصيل اليومية وشلّت حركة الحياة ( جهدتا في تخيل شكل الفانوس الغريب دون أن تحسا لثانية واحدة أنه سيكون رفيق أمسيات وليالي البيوت في شتاء حرب الكون الثالثة . ستتذكران الكلمات وتريان الفانوس العجيب يرسم أشباح دخانه على الجدران ملقياً لوناً بائساً على الوجوه البشرية المرتعبة من فيض القنابل ، ليكون شاهداً على التطور الهائل للعقل البشري قبل أن يقفل هذا القرن المبجل شبابيك أوراقه ! ) ص 112 .
 وصف دقيق مفعم بالحيوية .. كل شيء في الرواية حقيقي ، فقد سمعنا أصوات الأبطال .. استغاثاتهم ، أنين تعذيبهم ، همسات قلوبهم الواجفة .. سمعنا أصوات السياط على جلودهم .. رأينا لوعة الغياب في حدقات عيونهم ، فأبطالنا في الحقيقة هم أشباح أسماءنا على أرض الواقع ! ( في الصباحات الناضجة بالصمت تخور عزيمتها ، فيطفو على سطح ذاكرتها زَبد قليل من طفولة غير مشبعة تبدو كحلم يصعب تذكره واسترداد أحداثه ، فتداوى قلبها بأسماء إخوتها الغائبين بين ضجيج طبول الحرب أو تجلس ثمة عند شباك غرفتها تنشد من دموعها أغنية أشواق لأخيها تغلب تنظر من بعيد لغرفة موته دون أن تجرؤ على دخولها حيث تتعلق صور ذاكرته على جدران الغرفة. ) ص 206 .
 اللغة في الرواية تتسم بطابع التألق والثراء والوفرة .. أسلوبها يكاد أن يقطع التنفس ونحن نلهث وراء سلسلة كلماتها بهذا الأسلوب الراقي ، الشفيف لحد الجرح ( كانت حرب التسعينات قد أغلقت بوابة أيامها الأربعين المقترنة بمشاهد ألعاب نارية متنوعة أدخلت الوطن إلى ساحة سيرك كبير قطع فيه الناس تذاكر مجانية فكانوا يتلهون بحساب أعداد الصواريخ وتخمين مواقع سقوطها ، بينما تتوالى الأخبار المفزعة من كل مكان ، تشرئب من كل زاوية . ) ص 206 .
 كان ( الغياب ) لعنة أصابت أفراد العائلة وانتقلت من جيل إلى آخر .. تعددت الأشكال سواء بـ (الموت أو الهجرة أو الأسر أو .... أو .... أو .... ) والغياب واحد ! ففي البستان يقبع قبريّ طه وخليل الهاجعين بليل موتها منذ عمر انكفأ ، وقامة الصفوان المديدة وصمت كبريائه المعلق في حبل غليظ من عمود الكهرباء قرب مقهى الحي ، وعميرة .. كان رحيلها مختلفاً .. تمردت على قانةن العائلة لتتحول إلى أصغر مومس في بغداد وأكثرهن إبداعاً في العمل ، والمهلب تم أسره وحينما عاد من الأسر كان لا يفقه من دنياه سوى ابتسامة بلهاء تنطق من وجه آثر عدم الذكرى . وها هو آخر الأخوة مرتضى يسقط صريعاً فتتبخر آثار رجليّ الأمن في لحظتها ( اهتز قلب فضائل الحقيقة ساطعة وهي ترى الحقائب ( حقائب الوضاءة ) تنزل الدرج تباعاً : أن البيت يخلو .
 فأخذت تعد على أصابعها أسماء الذين كانوا هنا وارتحلوا . ) ص 103 .
 " قبل اكتمال القرن " رواية غنية بأسلوبها الرائع ومادتها المقنعة .. رواية لها بعدها الدراماتيكي الذي يوحي بالفعل المؤثر والحدث الحاسم .. رواية مُحكمة البناء ، متوهجة بكل ما فيها من لغة وعاطفة وأحداث وشخصيات ، فقد كتبتها بلغة بسيطة ، لكنها عميقة .. وتتميز بالعنفوان .. انها مُصرة أن تُركز على الجمال رغم كل أحزان وظروف الغيابات .
 يقول بورخس : " الكّتاب يعثرون أولاً على حقيقتهم ثم يضعونها في كلمات " .
 هل توافقت الرواية مع قول بورخس ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* " قبل اكتمال القرن " رواية لذكرى محمد نادر صدرت عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر عام 2001 .
                    
 
www.postpoems.com/members/gulizaranwar

 

View gulizaranwar's Full Portfolio
tags: