دراسة القاص زيد الشهيد عن مجموعة .. عنقود الكهرمان

















وضوح الرؤية في مضمار السرد



في مجموعة  "عنقود الكهرمان" للقاصة كليزار أنور



                  

                                                                  زيد الشهيد



في نصوصه القصصية اتجّه همنغواي إلى استخدام جمله البسيطة التي تتسم بالجزالة والاختزال، متخلياً عن التراكيب التشبيهية حتى عرف عنه أنه لا يستخدم كاف النشبيه في سرده متخلصاً من الاشنات التي تعلق بجسد النص سيما وأن النص الذي يكتبه سردياً يبغي تقديم مدلولاته على طبق من ارتياح للمتلقي. ولقد نجح همنغواي باسلوبه هذا مختطاً له طريقاً ابداعياً حُسب نقيضاً لأسلوب فوكنر الذي يمتاز بطول العبارة وامتدادها الذي قد يصل لخمسة أسطر دون أن توقفه علامة تنقيط واحدة. ويبدو أن أسلوب همنغواي مثلما أسلوب فوكنر وغيرهما يأتي عبر التحرك الداخلي لمنتج النص ويخضع لحكم مزاجه الذي يجد ذائقته تعوم في بحيرتها الإبداعية. وقد تأتي القراءة وما تخزنه لتلعب الدور المؤثر الصانع للذات الكاتبة، ويغدو الأسلوب سمةً للكاتب وطريقاً سيسير على منواله اشواطاً زمنية طويلة. والقاصة كليزار أنور من الساردات اللواتي أدخلتهن الذائقة طريق الكتابة الجزلة التي تعتمد البساطة في طرح الفكرة. ونوع من هكذا تدوين يخضع لظاهرة الحذر الذي لا بدّ منه كون أن المسرود يدخل قالب السهل الممتنع الذي بقدر ما يُدوَّن فإنه بحاجة لغواية المتلقي الذي يقف عند محطة التقييم حيث تنشطر إلى شطرين أحدهما سهل لا يعني شيئاً يبدو فيه النص  تدويناً عادياً لا يحقق القبول المُفتَرَض في ذات المتلقي فيما الثاني السهل الموحي والمسبوك بقدرة ذكائية متميزة تجعل الداخل إلى النص يسوح في رياض سردي توصيفي جميل يحمل أديمُه خمائلَ لغةٍ مؤثرة .

والدخول إلى نصوص  مجموعة عنقود الكهرمان نكتشف اشارة نص (النصف بالنصف) إلى حيثيات كتابة النصوص وكيف أن بعضها يصبح عبئاً على الناص بعد نشره لما يُكتشف فيه  من إخفاقات في جوانب وركّة  في جوانب أخرى رغم أنّه اقتنع وقت الانتهاء منه وإرسله إلى جهة النشر .. وبموازاة تلك  الثيمة ثمّة صديقة لخالقة النص كانت تقاسمها السرور والسعادة لكنها كانت ترتكب سرقة حاجيات الكاتبة كفعلٍ يشوبه الحسد أو رغبة الإعجاب التي تصل حدّ التعالق الذاتي . وتتجاوز السرقة إلى فحوى النصوص التي كانت الصديقة تترجمها إلى لغة أخرى لإيصال تدوينات الكاتبة إلى قراء أجانب. ففي احد النصوص الذي يتحدث عن قصر يحوي عدد كبير من الغرف والممرات والحدائق تجد الكاتبة أن صديقتها المترجمة قد اختزلت وبالنصف تماماً نصف الغرف والممرات والحدائق شعوراً منها بالغيرة. وفي لحظة عتب يجري عبر الهاتف تقدم الكاتبة عتابها فيأتيها الرد من الصديقة المترجمة: " كيف تمتلكين هذا القصر الواسع وحدك ؟! ".. وهي إشارة لعظم الغيرة التي يتمثل فعل السرقة فيها حتى إن كان الامتلاك من عِداد الأحلام .

وفي نص (شاطىء الضباب)  تدخل االراوية  لعبة التماهي وتخرج إلى ساحة السرد وقد تلبست قلب انسانة أخرى حملت نفس الاسم  ولبست قناع أن تكون الحبيبة التي تتلقى رسالة من حبيب التقاها في مصيف لقاءً يتيماً حصل منها على العنوان وكتب إليها لأول مرة. ولأن الحبيبة واهلها قد برحوا البيت التي سكنه بعدهم الراوية واهلها وهاجروا بعيداً فقد أغرت الراوية التي تحمل الاسم نفسه استهلالات الرسالة وفحواها  فقررت الرد متخذة مشاعر الفتاة الحبيبة. ولم تمر أيام حتى جاءها الرد  وراحت تدخل لعبة الجواب وتلقي الرد ؛ حتى جاءت المفاجأة عندما اخبرها الحبيب انه سيأتي لزيارتهم لخطبتها . وفعلاً طُرِقَت الباب، وكان القادم ! وكانت هي تفتح الباب. وكانت القصة قد أغلقت السرد إلى هذا المشهد المفتوح. وهنا يحصد الراوية انتباه القارىء ويلعب الناص لعبته الجميلة  التي تدفع الذات القارئة إلى التحرك لتتبع بانسيابية لذيذة ورغبة شفيفة على امتداد النص للوصول إلى نتائجه التي هي نهاية السرد أو منتهى النص .

إن الناص الفاعل والمؤثر هو ذلك الذي يجيد جر المتلقي إلى فحوى النص ويوقعه في فخ ملاحقة الشفرات وتتبع مجريات الأحداث بلذاذة ؛ وهو الذي يغوي المتلقي من مبتدأ النص. فالاستهلال في نص " شاطيء الضباب " - والعنوان هنا ملمح رومانسي يرمي طعم الإغراء للدخول إلى عوالم النص – يساهم في تأجيج رغبة القارىء والتنقل في دروب ومسارات السرد والوصف . ولنقرأ استهلال النص: " خمس رسائل وصلت إلى الآن تحمل عنوان بيتنا الجديد معنونة باسم هديل عبد السلام. سألت الجيران عنها .. لا أحد يدري أين مضوا. من المصادفة أن يكون اسمي ايضاً هديل . لكن هديل طارق . " ص37 .إن استهلالاً كهذا يدفع المتلقي إلى رغبة الدخول إلى فحوى هذه اللعبة السردية والوصول إلى نتائجها ؛ ما يعكس حذاقة الناص في كسب ود المتلقي والدخول إلى ذائقته وذاكرته عبر نص سردي مخيالي ساهمت اللغة المتجردة من الزوائد والعوالق في عرضه على أفضل ما يكون العرض.

في نص " الموعد " يتناسل الحنين والوفاء للإنسان الحبيب. والموعد هنا لحظة لقاء بين حبيبين كان اليوم العاصف الممطر محكّاً لوصول الحبيب إلى حبيبته . والحبيب هنا يقطع الطرق وينادى على الدموع أن تتفجّر من عينيه لتتماهى مع ماء المطر  فلا يراها المارة هو الذي لا يريد لهم أن يرونه يبكي فهو رجل حتمت عليه الأقدار أن يكون جلداً صلباً لا يبكي ؛ ولا يريد هو ان يتأخر عليها فهي بالتأكيد تنتظره .  وكان أن سحب باب السياج الذي يقوده إلى حيث سيجدها بانتظاره. وفعلاً أبصرها من بعيد تلوح له وتشكره على زيارته. لكنها زيارة أحادية فقد كان هناك يجلس يتحدث في مناجاة . فالحبيبة تحت الثرى .

إن النص هنا يلتقط مشهداً حياتياً للوفاء الذي يتحلى به  الصادقون ممن يحبّون في حين ينسى قساة القلوب أحبابهم . واللقطة بقدر ما تكون مألوفة  إلا أنها تدخل في تواصلية الوفاء الذي يعمقّها الكتاب كأخلاقية مطلوبة من الناس للتمسك بها والتعامل بأبجديتها .

والدخول إلى فحوى نص (الاعتراف) الذي تختتم فيه القاصة مجموعتها نشهد توظيف القص الذي يعتمد على  خاتمة تشكل ضربة مفاجئة للمتلقي، وهو أسلوب يقتضيه تكنيك القصة القصيرة جداً حيث أن الجملة الأخيرة تلخص فحوى النص. والشاعر الكبير الذي غدا محط اهتمام الحالمين؛ الباحثين عن فرصةٍ للقاء به ما كان ليغدو شاعراً بالحجم الذي يبدو عليه الآن لولا ذلك الحب العميق لتلك الفتاة الزميلة التي صاحبها لأعوام في الجامعة وفتقت لديه كتابة القصائد المدوية خصوصاً بعد أن قتلت في قلبه الحلم المُنتَظر ففاجأته يومها بخاتم خطبتها يتلألأ في بنصرها. تلك المباغته صعقته وأرهقته ودفعت به إلى كتابة الشعر المليء بالأسى واللوعة فجعل الشعر منه شاعراً اندفعت إحدى الفتيات الصحفيات في إحدى لحظاته التي تشكل انعطافاً ومفاجئةً انتهى عندها النص. فقد ألقت عليه عدة اسئلة منها : سؤال عن أي الدروب أوصلته إلى قمة الشعر ؛ وعن أن المرأة هي الوجه الحقيقي لشعره فأين هي من حياته ؛ ثم سؤال هل أنه تزوج الذي أحب. وفي لحظة استعادة ذلك الشريط المليء بالأسى يعترف أن المرأة التي أحب طعنته وغابت. ومن جانبه " ما زالت إلى الآن تقبع في ركن دافيء من قلبي .. وكل شيء في القلب يخفق ! .. كل ما فعلتهُ أني شيدتُ لها ضريحاً في ذاكرتي . " ص87  وبهذا البوح تصل الفتاة الصحفية إلى مرادها فتطلق قنبلة المباغتة بقولها : " هل يسعدك لو علمتَ بأني ابنة مَن تحدثتَ عنها في هذا اللقاء"!!  

في " عنقود الكهرمان " يحتفي ميدان السرد العراقي بقاصة تمتلك قوة البصيرة في تعاملها مع النص اعتماداً على لغة طرية رائقة ومنفتحة على روض سرد يانع، خاطفة من طريق الأفكار مواضيع فيها من الجدّة التي لم يلتقطها سارد غيرها. تساعدها في ذلك رؤية الاختزال التي تجعل من نصّها لوحةً اقرب إلى الانطباعية منها إلى الواقعية أو الرمزية على حدٍّ سواء .


View gulizaranwar's Full Portfolio
tags: