قراءة القاص كاظم حسوني













عنقود الكهرمان

لوحات قصصية تفيض بالغنى والتنوع



قراءة - كاظم حسوني

عند قراءة كتب الأدب نسعى احياناً للبحث فيها في الممكن من اجابة عن اسئلة تبدو عصية كونها مرتبطة بحقائق الوجود ومصير الانسان التي قد نعثر عليها في بنية الاسئلة التي تثيرها القصص والروايات ذاتها لأن الكتابة عموماً ماهي بشكل من اشكالها لاسيما الأدبية منها الا مرايا لذواتنا تخفت بصياغات فنية في محاولات دائبة للقبض على جوهر الذات الانسانية. وسير عوالمها الخفية، بواسطة الخيال (الذي يحول الرغبة المكبوتة عبر الفن الى تمثيل رمزي دال على اصله) من هنا يكون عالم الفنون والأدب قرين لعالم الذات بكل مايعتمل فيها من محمولات ومكبوتات واسرار وتطلعات.. وفي قصص (عنقود الكهرمان) الصادرة حديثاًعن دار الشؤون الثقافية التي ضمت بين دفتيها(18) قصة تحاول القاصة كليزار انور ان ترى نفسها عند الآخر في مرايا قصصها التي تمثل دون شك خبراتها الصافية وشهاداتها الحية في العيش التي حملت مضامينها كتاباتها القصصية في هذه المجموعة وغيرها ذلك بدافع احساسها بضرورة التفوق على ممارستها للحياة ذاتها من خلال محاولاتها للافلات والتمرد على بعض مظاهرها  السلبية. فالأديب عادة مايجد حريته في الكتابة،ويعمل على سد ماينقص عالمه الواقعي بالفن سيما وان الكاتب والانسان المثقف غالباً ما يجد نفسه يعيش حياة بديلة لذا يلجأ الى خلق عالمه الذي يحب ويصنع يوتوبياه بحرية على الورق ولعل هذا ما نتلمسه في (عنقود الكهرمان) للقاصة كليزار التي ارتكزت قصصها على ثنائية متناقضة لمعاينتها ومعاناتها من قتامة الواقع وقسوته واصصدامها بمسنناته الصلدة وبين انطلاقها لتشييد عالم حي يتخلق لديها عبر الكلمات وجدت فيه القاصة متسعا للحياة بكل عمقها تتنفس فيه بأفكارها وفنها لعقد الصلة المتبادلة مع المتلقي الذي تشده وتمتعه بعض الاعمال الأدبية المبدعة التي لايرتوي من الاستزادة منها ومثل هذه قصصها ستترك بصمتها وتأثيرها بما توفرت من قدرة بالغة على الاقناع وما انطوت عليه من الصدق الفني واحتشدت به من الحس الانساني .فالملاحظ في مجموعة(عنقودالكهرمان) نزوعها الى نمط الكتابة الذاتية الاعترافية الى حد ما اولعلها ابتداع لتجارب متخيلة لكنها غنية بحسيتها وخبراتها المعرفية فالاحداث المؤسسية التي وعتها الذاكرة والتجارب الروحية وما يتعلق بها من ظلال كلها اكسبتها مهارات المخيلة صياغات قصصية ناجحة، من خلال المعاني العميقة وبوح الاعماق التي تنبض بالعاطفة الملتهبة، وكأن القصص برمتها استلت من عالم الداخل او من مناطق الظل لتجترح لها مساراً مغايراً لما هو عياني وظاهر من الاشياء، مرتكزاً على اعادة خلق الحياة الراسبة الخفية المختلجة تحت جوانح الابطال، حيث راحت القاصة تصنع من مشاعرهم، وما هو كامن خلف تحولاتهم صوراً شديدة الغنى والتنوع موظفة بذلك ما للشعر من طاقة لتوليد الاستلهامات والايماءات بأسلوب مؤثر ينبض بالانفعال الانساني وصدق الاحساس في قصة البيت القديم تقول(للمكان عبق سحري في قلبي ونفسي كم من الاشياء استيقظت في داخلي، الكل غادر البيت لم يبق فيه غير الاشجار، شجرة التوت التي زرعها جدي يوم ولدت، كلانا كبر تشع ببريقها.. اصغي الى اصوات الطيور والعصافير التي عششت فيها، يمتلئ المكان بغنائها، استرق السمع واتلذذ.. شعرت بالفخر فشجرتي غدت وطناً فأسلوبها كما جاء على حد وصف بطل قصصها(نافذة من القلب) تكمن فيه الروح الهادئة والانفاس الدافئة.. وفي لغتها شاعرية سلسلة، هادئة، ناضجة، حرة، افكارها تتسلل الينا بهدوء وصمت) لقد اخفق بعض الادباء ممن لجأوا الى استثمار الشعر في قصصهم وبدا مزجه مقحماً، مفككاً لنصوصهم، وكان تأثيره سلبياً،  مثقلاً بالزخارف والمعميات والزوائد، التي لا دور لها سوى افساد النص، مما يشي دون ريب بقلة خبرة الكاتب، وجهله بأسرار صنعة الكتابة (لان ثمة فوارق كثيرة بين اللغة الشعرية واللغة النثرية القصصية، ومع ان القاص ليست غايته اللغة الا كونها وظيفة قادرة على التوصيل، معبرة عن المعنى المطلوب ولكن اللغة القصصية ليست مجرد لغة نثرية، لكنها لغة نثرية فنية تحاول ان تمزج بين الجوانب الادراكية في اللغة، والجوانب التعبيرية وبين العناصر الشعرية والعناصر الدرامية) فيما جاءت قصص كليزار مفعمة بروح الشعر، بهدف تعميق المعنى وجذب اهتمام القارئ، بعد ان جعلت من الشعر عنصرا جماليا، ووسيلة فنية فائقة التعبير للتحليق في فضاء السرد، كبديل مكافئ عن تفاصيل الحدث الواقعي، ورغم ان قصصها صغيرة الحجم لكنها حملت نفساً درامياً مكثفاً عبر التوظيف الشعري للرؤيا الباطنية لشخوصها، وما صاحب ذلك من احتفاء القاصة بأنعكاسات العالم الخارجي الذي شكل جزءاً مهماً ومعادلاً فنياً في بنية النص.. ولعل المتأمل في قصص كليزار انور يبدو له لاول وهلة ان مواد عالمها القصصي لا يرتكز الا على اشتات الذكريات ونتف من احداث الماضي والحكايات الصغيرة والاوهام، والتأملات التي تبدو كالاشياء المتناثرة، الا ان براعتها تمثلت في صهر كل هذه العوالم المركبة المتنوعة في  وحدات بنائية وتحويلها الى صور مرئية قصصية، اكتنزت بالغنى والكثافة والايحاء، بعد ان تشكلت في قوالب الفن.. انظر قصة(امام حمورابي) (شعور بالفرح سري في صدري حين رأيتها. ولون هذا الفرح ذهبي ارتعشت له ودفئت، هل هو الفرح يبللنا بعطره؟ كنا محط غابات من الانظار زرعت حولنا فاكتفينا بالمصافحة تبرق عيونها السود بذلك الشوق القديم) ولعل ما يلفت في تجربتها القصصية ابداعها في اللغة وباللغة  التي اضفت على اسلوبها  توهج الشعر وتوتره في صياغات مركبة فيها خروج على المعنى الظاهري المحدود بأسلوبهاالذي يعمل على ارهاف حس القارئ وقدرتها المتميزة في التعبير عن نوازع ابطالها وكشف صبواتهم وانفعالاتهم بسلاسة سعت لتحقيق المتعة ومد الجسور مع القارئ بأيقاعها الحميم الذي يفيض بالمعاني الوجدانية التي يظل اثرها يترجع طويلاً في النفس،عبر منحنيات السرد من خلال عملية اتساق عناصر القص في حبكة بنائية محكمة فضلاً عن جماليات اخرى تمثلت بعنصر المفاجأة عند نهايات بعض القصص كما في قصة (النصف بالنصف) وقصة (الاعتراف). وبمافيها من الاداء السردي الرائع في تصوير هذه اللحظات وبما انطوت عليه من العفوية والصدق.  







‏الاربعاء‏، 26‏ تموز‏، 2006      


View gulizaranwar's Full Portfolio
tags: