بئر البنفسج .. مجموعة قصصية

 

 

بئر البنفسج


الإهداء
 
 إلى رموز الحب والحنان في حياتي ..
  ( أبي .. أُمي .. اخوتي
)

 

 

الفراشة
 فراشة بيضاء تدخل .. تدور في جو الغرفة .. تتبعتها بنظري .. إنها تتجه نحوي .. تقترب .. تقف على سبابتي اليمنى .. تحتضنها بشوق .. دفعتها بقوة ولم تبتعد .. رججتُ يدي ثانيةً .. لكنها مصرة على التمسك أكثر .. ما لهذهِ الفراشة ؟! .. أنظر إليها .. ليست فراشة .. بل صبي بملابس بيضاء لهُ جناحان أبيضان .. أنظر جيداً .. نعم وفي غاية الجمال _ ضحكتُ في نفسي _ تصورتهُ فراشة ! ماذا يريد مني هذا الصبي الفراشة ؟ حاولت أن أسحبها بيدي الأخرى .. لكني لم أستطع .. فجذبتها بقوة فأتى جناحها بين أصابعي وسقط صريعاً على سريري .. نظرتُ إليه وإلى جناحه الممزق .. داخلني حزن طفيف .. لقد مزقتهُ أشلاء .. يا لقساوتي .. ندمت .. انحنيتُ نحوه .. رفعتهُ .. فحرك عينيه يميناً وشمالاً فتأكدتُ حينها بأنهُ مازال على قيد الحياة .. نبتت ابتسامة في قلبي .. فلا أُريد أن أكون سبباً في موت أحد .. حتى لو كانت فراشة ! 
 الصك بين يدي أُدون فيه اسم المراجع والمبلغ الواجب صرفه .. أرفع نظري إليه طالبةً منه الهوية .. جرس مفاجئ رن في رأسي عندما رأيته ذكرني بحلم ليلة أمس .. عيوني وقفت شاخصة عند عينيه لا تريد أن تنخفض .. ويتأرجح فكري مثل بندول ساعة ما بين الحقيقة والخيال .. أيمكن ؟! فزمن الأحلام قد مضى .. فالذي أمامي هو ( صبي الفراشة ) لا أعرف كيف دونت الصك .. ولكني دونته بطريقةٍ ديناميكيةٍ بحتة .. فالصكوك اختصاصي منذ سبع سنين .. والذي استغربتهُ أكثر بأن وجهه أيضاً اكتسى بالدهشة حينما التقت عيوننا .. ماذا هناك؟ أيكون قد حلم بي هو أيضاً ؟ لكن كيف ؟ كفراشة أم طائر أم قطة .. لا أدري !
 عيون مشعة تنزف أشياء لا تستطيع أي كلمات ترجمتها .. هكذا وجدته أمامي وجهاً لوجه بعد أيام .. سلم عليّ _ وماذا في ذلك _ رددت السلام وقلت بكل براءة وصدق .. هل من خدمة ؟ فرد بخجل : _ لا .. فقط أردت أن أُسلم عليكِ . ومضى . جرس الحلم يرن في مسامعي .. بدأت أسترجع في ذاكرتي خطوات الحلم .. ماذا يريد مني هذا الرجل ( صبي الفراشة) ؟ وتكررت الزيارات .. لم يكن بمقدوري رده .. لأنهُ في غاية الأدب ولم يخرج بتاتاً من حدود اللياقة والأصول .. وجدتهُ ككتاب مكتوب بلغة جديدة وأسلوب بليغ .. وبدأ بيننا حديث ما لبث أن صار ودياً .. شاب متزن يتكلم بدبلوماسية خاصة .. نهر من الثقافة ينساب عبر كلماته .. الوحيد الذي لم يشعرني بالملل عندما يتحدث ، بل كنتُ دائماً أرغب في المزيد .. ملامحه رزينة بريئة تلوح منها تلك النظرة المعبرة الصريحة التي تحمل في عمقها كل الحب . لا أدري ! ..وكأنهُ رشق حياتي بحفنةِ سحر .. وغدا ذلك القلب الذي تصورته صحراء تحول إلى حقلٍ ترفرف على رياضهِ الفراشات .. فكل شيء ينطق بأنهُ في حالةِ حبٍ حقيقي . لا أنكر .. أعجبني اهتمامه .. وربما تماديتُ معه بعض الشيء لأرى كيف سيفسر حلمي ! إذاً .. دخلتُ معه أو مع نفسي حلبة الصراع بين الشك واليقين .. ففي بعض الأحيان قوة الواقعية تضاهي بكثير قوة الخيال !
 وبعفوية صادقة بدأت الصداقة تأخذ أدراجها إلى قمم الحب واستطاع بهذه المدة القصيرة أن يسقيني من بئر الحنان والثقافة ما كنتُ بحاجة له حقاً .. وجعلني أكتشفُ نفسي من خلاله .. وفي آخر مرة رأيتهُ فيها شعرتُ برغبةٍ شديدةٍ بالبكاء وهو يسلمني كتاب " سارتر " قال : _ أقرئيه جيداً وسنتناقش به . ثمة شيء في داخلي كان يؤكد بأننا لن نلتقي بعد اليوم .. ولم نلتقِ !
 اختفى من حياتي كما تختفي الشهب التي تبرق للحظات .. أنهيتُ قراءة الكتاب .. وكنتُ مستعدة أن أمتحن فيه لا أن أتناقش به فقط . كل طرقة باب .. كل هاتف يأتيني .. أتصورهُ هو . وتمر الأيام ولا جديد .. يومي كأمسي ، وربما كغدي أيضاً .. كخرزات مسبحة ! السكون يغطي كل شيء ولم أجد سوى الوحدة طريقاً أمامي .. فكل ما أعرفهُ عنه هو اسمه . وعدتُ أسلسل خطوات حلمي من جديد وإلى أي مدى قد وصلتُ معه .. فصبي الفراشة ترك جناحه عندي ، وهو ترك كتابه عندي .. ولابد أن غيابه يعني أن حادثاً قد وقع له .. ففي الحلم وقع ( صبي الفراشة ) على سريري ما بين الحياة والموت .. فالحلم هكذا يُفسر !
 بقطرات الصبر نستطيع أن نغذي الأمل دوماً .. وبقيتُ أنتظر بقية التفسير ، فلحلمي بقية ! وشعرت بأن الغد سيأتي ومعه جديد .. والغد دائماً يوم جديد ! هكذا كنتُ أُصبر نفسي .. واحة جميلة زرعها في قلبي ومضى .. فالحب زهرة طبيعية ربما تذبل بمرور الوقت .. لكن عبيرها يبقى عالقاً في القلب .. والحب تحول مع الأيام إلى ذكرى .. ولكن ذكرى أقوى من تفاصيل الحب نفسه .. وتحولت ( الفراشة ) في حياتي إلى ( رمز ) ! لا أعلم .. فكل ما أعلمهُ .. ان قلبي لم يعد معي .. بل مع الفراشات ! فعيوني تتبع _ بشكل غير إرادي _ كل فراشة ترقص للربيع .. يخفق قلبي مع جناحيها إلى أن تبتعد .. فاللوحات على جدران غرفتي وقماش ستائرها فراشات .. والإكسسوارات التي أتزين بها .. وحتى عطري يحمل اسم الفراشة !
 شعرت بأن الألوان كلها غابت برحيله وخُيل لي بأني أرى كل الأشياء بالأسود والأبيض .. فيد الأيام لم تستطع أن تمحو بصمة ذلك الحب .. لأنه التصق بالأعماق .. ولم أُفكر بغيره رغم أسراب الطيور حولي .. فقد اخترت فراشة !
 كيف لي أن أسدل الستار وأعلن النهاية ؟ فالحلم فيه بقية للتفسير ! كنتُ أُحاول جاهدة أن أخفي قلقي .. لكن  ملامحي بالتأكيد تفضحني .. بالرغم من انه ..كان حلماً .. إلاّ اني كنتُ أشعر بوخز الضمير في داخلي ، فأنا مَن مزق جناحها . وتحولت الفراشة إلى قنديل طريق .. ففي كل يوم أُعيد ترتيب خطوات الحلم وأُطابقه مع ما تحقق منه .. وبقيتُ أنتظر البقية . السنون تحترق تحت حوافر الزمن والعمر يتلاشى ببطء في بحره  .. ما أغرب ما حدث لي ! لو حكيتهُ .. هل سيصدقهُ أحد ؟ لا أظن ! وما لا يُحكى فمن الممكن أن يتحول إلى قصة .. وحينها ستصدق!
 _ صباح الخير .
 سمعتها بصوتٍ دافئ خجول .. العالم كلهُ أُختزل في هذه العبارة .. التقت عيوننا فأورقت كل الغصون في قلبي .. تتلون اللحظات من جديد على شاشة الوجود .. كل شيء توقف فيّ .. إلاّ .. الذاكرة .. بانوراما من الصور الحية تجسدت أمامي تحرق بسرعة السنين التي مرت .. يخفق قلبي وتتعثر كلماتي .. فعودتهُ كفيلة بأن ترمم بلحظة كل الشروخ العميقة التي أحدثها القدر لنا .. دفق من الدفء انتقل إلى يدي ، إلى قلبي حين صافحني :
 _ دعينا نخرج .
 _ كيف ؟ فالسماء تمطر في الخارج !
 _ وماذا يعني .. انهُ فأل حسن .. سقوط المطر سمفونية رائعة لتجديد الحياة فينا . أليسَ كذلك ؟
 جبل جليدي كان يجثم فوق صدري .. وفي هذه اللحظة شعرتُ بأنهُ يذوب .. يذوب بسرعة ويتحول إلى جداول تتراقص عليها عصافير تزقزق بفرحٍ غامر !


        آذار / 1997

 

 


في آخر يوم
 بركان من الدهشة يتفجر في وجهي وتتوقف نظراتي على الاسم المدون على الكتاب .. أسحبهُ ببطء من على الرف وأقرأ غير مُصدق .. رانيا عزيز .. للمرة الأولى أحسست بأن ضربات قلبي يمكن أن تُسمع عن بُعد .. دفعتُ الثمن لصاحب المكتبة المشغول مع زبون آخر ، ومضيت دون أن آخذ الباقي . أتكون هي بالفعل ؟ أم مجرد تشابه أسماء ! لم أكن مستغرباً .. فأنا أعرف كم هي مثقفة .. ولكنهُ وقع المفاجأة . فقدتُ القدرة على استيعاب ما يحدث لي ومعي .. لا أعرف إلى أين سأمضي .. كنتُ مضطرباً بعض الشيء وقلبي يخفق بشدة .. شعرتُ بتعبٍ شديد .. فقدماي تعجزان عن حملي .. عبرتُ إلى الجهة الأخرى من الشارع وسلكتُ طريق النهر .. لماذا ؟ لا أدري ! جلستُ على مقعدٍ حجري وفتحتُ الكتاب .. ومن أول عبارة عرفت بأنها هي لا غيرها .. بدأت والبدء تحول إلى استمرار .. كنتُ أتتبع كلماتها بأنفاس مبهورة .. تتصاعد لتصل الذروة وتهوي .. ألهث بهدوء وأنا أقرأ .. وأُواصل .. عيوني تسبق الكلمات .. ففي نفسي حاجة للاستمرار لأعرف إلى ماذا ستنهينا حكايتها .. وفرغتُ منها .. لم تكن لها نهاية .. وضعتها مفتوحة .. لم تنهها ! إذاً لماذا أنهتها معي قبل خمس سنوات ؟!
 _ ليمضِ كل منا في سبيله .
 كانت كلماتها الأخيرة هذه باباً تغلقهُ بوجهي .. ولحظتها تفجرت كل الشرايين الموصلة إلى القلب من ذلك الجرح الذي سببته لي .. فماذا ترتجي من امرأة تقول لك وبصريح العبارة " أنت بخير و أنا بسلامة " . ما أسبابها ؟ ما دوافعها ؟ لم أعرفها ! ولم أسألها ! فربما في حياتها إنسان آخر .. وهل يفهم من كلامها غير ذلك . وحاولت أن أنسى .. ولكن هيهات .. فهناك أشخاص ليست لدينا القدرة على نسيانهم ومهما فعلوا بنا !
 من آلاف الأسماء اختارت اسم " مروان " اسمي .. مواصفاته كمواصفاتي وبأدق التفاصيل .. حتى البداية وضعتها كما حدثت بالضبط وكما التقينا أول مرة .. كلانا وقف أمام أمينة المكتبة وطلب نفس العنوان " هكذا تكلم زرادشت "  لنيتشه ، فقالت الأمينة :
 _ مع الأسف لدينا نسخة واحدة .. أحدكم يأخذها ؟
 نظرت نحوي .. تراءى لي في عينيها رجاء حنون :
 _ خذيه أنتِ أولاً وأنا بعدك .
 فشكرتني ووعدتني بأنها لن تؤخره .. أبهرتني ملامحها الفاتنة لِما فيها من براءة صافية وشفافية عذبة .. وأسرتني ببريق تلك العينين الضاحكتين .. فأروع ما في الحياة أن تقابل امرأة عيونها تبتسم .. بالإضافة إلى أنها تقرأ لنيتشه !
 أطوق الكتاب بيدي وأنظر إلى النهر الجاري .. ويجري نهر آخر في ذاكرتي .. وأسبح ضد التيار لأعود إلى المنبع .. وبما انها مثقفة وتحب الكتب فجعلتها سبباً للتقرب منها .. وامتدت بيننا صداقة فكرية .. فالذي يعجبني من المرأة جمالها وثقافتها .. وهذا ما وجدتهُ في رانيا .. فتاة تملك الشباب والجمال والوعي .. كم هو نادر هذا النموذج في حياتنا .. ومعها شعرت بأني التقيتُ بحُلمي .. وأوقد وجودها في قلبي شعلة أظنها لن تنطفئ .. ورغم ميلها نحوي إلاّ اني كنتُ أشك بمحبتها .. لأنها .. كالحلم .. وهل من الممكن أن تصبح الأحلام حقيقةً بين ليلةٍ وضحاها ؟ ومرت على علاقتنا البريئة سنة .. تقول : " كنتُ بارداً معها وهذا البرود هو الذي اضطرها لكي تضع هي نقطة النهاية في سطر الحب .. فمتى كان الحب مجرد لقاءات وكتب وأفكار على الطريق .. فالحب أكبر وأقدس من ذلك " . معها حق .. ولكن ما لم تعرفه بأنها كانت تعني لي كل شيء .. واني كنتُ أعدل عن رأيي كلما هممتُ بمصارحتها خوفاً من أن تصدني وأخسرها إلى الأبد .. وخسرتها !
 النسيم يحمل لي رائحة النهر .. كلما خلوتُ بنفسي .. أسترجع تلك الصور العالقة في ذهني والتي لم تبرحها ولن تبرحها .. تجذبني تلك الأيام التي لم يستطع أن يلفها رداء النسيان .. وبقيت كلماتها الأخيرة تنزف من ذلك الجرح .. مرت سنون وتلك الكلمات تتصارع بين عقلي وقلبي .. كانت رفضاً مؤكداً لي .. وكجراح لا تندمل بقيت نابضة بداخلي ! ولم أجد سوى الدراسات العليا أملاً بالنجاة من بحر ذلك العذاب الذي وضعتني فيه .. وعندما فرغتُ منها لم أجد سوى الغربة باباً جديداً لأهرب به من حبها الذي لم يزل إلى الآن يخنقني !
 تمتد يدي إلى جيبي .. جواز وبطاقة سفر إلى ألمانيا .. تذكرني بموعد المغادرة غداً .. وضعتُ البطاقة والجواز في الكتاب الذي عصر قلبي .. نظرتُ إلى السماء .. لم يبق من الشمس إلاّ حمرة داكنة في طرف الأفق الغربي .. دمعت عيناي وانهمرت في صمتٍ أبدي !
 لا يعلم سوى الله كيف قضيتُ ليلتي الأخيرة في ديار الوطن .. فمطر الأسئلة الذي انهال عليّ لم يدعني أنام لحظة واحدة .. ألف لماذا تتزاحم في مخيلتي ولا جواب ! وفي الصباح أخذتني الدروب نحوها .. تأملتها من بعيد .. كانت تتكلم مع أحدهم .. لم يتغير منها أي شيء .. كما هي جميلة .
 _ مرحباً .
 _ أهلاً .
 تلك " الأهلاً " كانت تحمل كل الحرارة والدفء المتوثب في قلبها .. وتداخلت مع ملامحها إمارات الشوق فنطقت اسمي بموسيقية :
 _ مروان !
 مددتُ لها يدي ، فصافحتني ودعتني للجلوس .. عينان تلتمعان بالسعادة .. ابتسامتها الصادقة احتضنتني بكل ما فيها من وفاء .. لحظات سحرية لا نهاية لرقتها .. فكيف أصفها بكلمات ؟!
 _ عجباً مجيئك ؟!
 _ لأسأل عنكِ .
 _ بعد خمس سنوات ؟
 _ …………………
 _ لا أُصدق .. لا بد أن هناك شيئاً آخر ؟
 _ نعم .. روايتكِ .
 _ روايتي !
 _ بالأمس فقط قرأتها .. كانت حكايتنا ؟
 _ ……………
 _ اني متأسف .. وأعتذر عما سببته لكِ من عذاب .. لكن ..
 _ لا يهم ، فالمهم إنك قد عدت .
 _ عودتي جاءت بعد فوات الأوان يا رانيا .. التقينا من جديد ولكن في مفترق طرق .. سأرحل بعد ساعات .. وهذه بطاقتي وجواز سفري .
 قلتها بصوتٍ ضعيف .. ضعيف جداً .. وكأنها تأتي من أعماق نفسي البعيدة .. اختفت ظلال الشوق وحلت بنفس اللحظات ظلال القلق والحيرة .. الضباب الأصفر زحف إلى تلك البشرة البيضاء والشحوب بدا واضحاً على محياها .. وكلبوةٍ جريحة التمعت عيناها بغشاوةٍ خفيفة من الدموع وهي تنظر إلى ما في يدي .. رفعت إليّ بعينيها .. بكل ذلك العمق والسحر والسعة ولأول مرة أرى هذا الضياء رغم الظلمة التي أحطتُ بها حياتها .. استطاعت أن تسيطر على الموقف .. لم تنطق .. وأشاحت بوجهها صوب النافذة محاولةً بذلك أن تخفي ارتباكاً مفاجئاً طرأ عليها .. وقالت دون أن تلتفت :
 _ لماذا أتيت إذاً ؟
 _ أرسلني القدر .. لأغلق ذلك الباب الذي تركتِه مفتوحاً للقراء .
 _ ………………
 _ تكلمي ؟
 _ ماذا أتكلم .. فقد أوصلتني إلى حدود تفصلنا وإلى الأبد .
 كنتُ خائر القوى .. وأحاول قدر الإمكان أن أخفي ذلك .. رأيتُ الدموع في عينيها .. للمرة الثانية أخسرها ولا أستطيع الحراك .. كم أبدو قاسياً وضعيفاً .. لا أستطيع أن أفعل أي شيء .. ففي المرة الأولى تركتها خوفاً من أن تكون مرتبطة بآخر _ مجرد وهم و شك _ واليوم أتركها لأختار السفر .. طريق الهرب إلى المجهول ! وأغمضتُ عينيّ لكي أمنع دمعة متحيرة تريد أن ………… ونزلت رغماً عني . جرحتها بقسوة .. وتذوقت دمعها ، ومضيت !


آذار / 1997

 

 

الوجه الآخر للقمر
 _ ما بك .. صامت .. هل هو الهدوء ما قبل العاصفة ؟؟
 _ أتشعرين بشيء .. أتتنبئين ؟!
 _ بعد كل صمت _ دائماً _ يكون هناك إفصاح عن سر .
 _ هو بعينه ! .. أما قلت انكِ تتنبئين !
 _ ماذا تقصد ؟
 _ أيمكن لسماء أن تضم قمرين ؟!
 _ ماذا تعني ؟ لا أفهم !
 _ لقد توصلت إلى قرار .. ولن أتراجع عنه .
 _ وما هو ؟!
 _ أما أنا أو أنتِ !
 وأسأله باستغراب صادق : _ هل ستترك الرسم ؟
 قال وهو يحاول أن يخفي ابتسامة : _ بل أنتِ !
 طبول الدهشة تقرع في رأسي وأحاول أن أُلملم شتات الأحرف الهاربة مني وأنطق بصعوبة:
 _ لابد أنك تمزح !
 _ لا .. ربما هذه المرة الأولى التي أنا فيها جاد معكِ .. لأنكِ خطيبتي وستصبحين بعد أيام زوجتي وأُريدكِ _ فعلاً _ أن تتفرغي لي ولبيتي ولأطفالي .
 _ كلانا ناجح .. ولم أُؤثر عليك ، فلماذا لا نستمر ومعاً ؟!
 _ هذا عندما كُنا زملاء مهنة .. رسام ورسامة .. لا زوج و زوجة .
 _ لا أعرف بأي مفهوم تتكلم اليوم ؟!
 _ هناك مثل عامي يقول : " ابن كارك عدوك " . هل تريدين أن نكون أعداء تحت سقفٍ واحد ؟
 قالها باستخفاف أو ربما بسخرية .. ماذا أقول له ؟ .. وبأي الكلمات أرد عليه ! هل يستحق هذا الفنان الذي كان عظيماً بنظري والذي اخترته حبيباً .. أن يكون رفيق العمر ؟! أية أنانية تحتويه ولم يكشفها لي إلاّ اليوم وبهذا الحوار في هذا المكان الرومانسي الجميل .. ذابت الفرحة في قلبي وتلاشت الابتسامة من شفتي .. كلماته تدور حول رقبتي .. تخنقني .. أشحتُ بوجهي نحو السماء .. الأفق يحمر والأضواء تذبل وبدت الأشياء أمامي ضبابية متداخلة .. لم أكن قادرة على تركيز أفكاري .. فطلبتُ منه المغادرة .. وأن ندع المناقشة في هذا الأمر لوقت آخر .
 أوصلني إلى البيت .. لم نتكلم طول الطريق .. وغادرتُ السيارة صافقةً الباب خلفي .. حتى دون أن أقول له " مع السلامة " وباب منزلنا لم يكن مقفلاً فدخلته وصفقته بشدة ورائي .. ولم أسأل نفسي أكان تصرفي صحيحاً أَم لا .. حتماً لم يكن أصولياً !
 دخلتُ الصالة .. واجهتني لوحاتي على جدرانها .. والتي يريد خطيبي العزيز أن يُلغيها .. يلغي حياتي .. حلمي .. مستقبلي .. بسيف أنانيته . كنتُ أحلم أن يكون زوجي فناناً يفهمني ويفهم عملي ويساهم معي بفنه لخلق حياة جديدة ملونة كأحلامنا و أفكارنا .. أن نرسم معاً أُفقنا ونطرزه بتشكيلاتنا .. أن يضع لون وأكمل بآخر لنرسم في النهاية لوحة ميثالية للفن والحياة والجمال .
 الصراع يشتد بين عقلي وقلبي .. مَن أختار ؟ وفي أي الطريقين أمضي ؟! .. فنجاحي أكبر من _ مجرد _ حلم رسمته بقلم الموهبة .. فلم أكبر بظل أحد .. وبجهودي وحدي خلقتُ من نفسي الكائن الذي أُريد . وأحاول أن أستعيد صورة الماضي .. لكن تبدو الصورة مضببة .. أغمض عينيّ لأتمثلها كما كانت .. وتدور في أعماقي دوامة ذلك الكلام :
 _ لوحاتكِ تفتح دفتيها لتأخذنا إلى عوالم تجمع بين واقع الأرض ورؤيا السماء .. توصلنا إلى معانٍ قوية .. أقوى من الحقيقة بفضلِ خيالكِ الواسع الصافي الذي تحاولين أن تدمجيه مع الواقع فتخرج لكِ مواضيع كالأحلام سامية جداً .
 هذا كان رأيه بفني في معرضي الأول الذي أقمته في ذلك الربيع .. وهو الذي شجعني بعدها وجعلني أستمر .. فأبدعتُ أكثر و أكثر . ومضى بنا مركب الحب إلى مرافئ الأحلام وضفاف السعادة التي منحتنا دفئها .. شكلنا ثنائياً فنياً ناجحاً .. وكُنا محط أنظار الجميع .. فأقمنا المعارض سوية .. وكثيراً ما سافرنا معاً .. وفي آخر مرة عدنا فيها من باريس .. قررنا أن نرتبط !
 خطواتي تنتحب بصمت وأنا أذرعها بين لوحاتي .. نهر من الحزن يجري في قلبي دون توقف .. فالصرح الذي بنيته .. تتساقط لبناته كبناءٍ قديم .. وللمرة الأولى بكيت .. ولا أدري أبكيته أم بكيت مستقبلاً لا أعرف كيف سيخط مصيره ! لم أستطع النوم في تلك الليلة .. وبقيت حتى الصباح مفتوحة العينين .. أُحدق في العتمة !
 أخرجَ سيكارة ووضعها بتمهل في فمه وأوقدها .. سحبَ نفساً عميقاً منها .. ونفث دخانها في وجهي _ مُمازحاً _ ملامحه مضطربة .. قلقة .. وكل شيء يتلهف لسماع موافقتي .. بقينا صامتين فترة .. بعدها رفع عينيه الرماديتين نحوي وبصوت متردد قال :
 _ لم أسمع ردكِ ؟!
 سحبتُ الخاتم من إصبعي ووضعته أمامه .. ولم يطاوعني لساني في أن أنطق حرفاً واحداً ! غارت عيناه في وجهه وقد ذوى منهما ذلك الألق الذي كنت أراه من قبل .. تصرفي هذا غير من ملامحه .. وقرأت الخذلان في عينيه ! لم يكن يبدو أمامي سوى هيكلٍ لمحاربٍ قديم .. كيف لم أتبين كل هذه المدة بأنهُ _ مجرد _ قشرة صلبة ؟!


آب / 1997

 

  


الشاهد الوحيد
 بأقدامي أحرقت المسافات الطويلة .. ووصلت .. تقترب الصورة .. تتوضح معالمها أكثر فتندفع أقدامي في جريٍ سريع .. تبدو مدينتي أمامي على البعد كقلعةٍ قديمة منخورة بالقنابل .. شعرتُ بقلبي يغوص في صدري وينعصر بشدة .. فالموت الساكن قد غطى المدينة .. والدمار قد أكل من كل أطرافها وشوارعها ومنازلها .. الجو هنا معبق برائحة الحرب .. الرصاص الفارغ يملأ المكان .. يرسم خرائط غريبة على الأرض .. تبدو مدينة هامدة حزينة مغسولة بالحريق والدمار .. الصمت يغطي أُفقها الواسع .. كوجه طفلٍ سرقوا منه الأمل !
 عندما وطئت قدماي باب منزلي .. داهمني فيض من الألم والحسرة لَما رأيتُ بيتي بهذا الشكل .. أحسستُ بحرقة تكوي دواخلي .. ذرفتُ دموعاً صامتة .. آه .. لشدّ ما تمنيت أن أتحول إلى ذرة من ذرات الهواء حولي .
 الحديقة جافة وقد تشققت أرضيتها والأشجار على وشك الموت .. لم يبقَ منها سوى الرمق الأخير من الحياة .. فتحتُ صنابير المياه كلها باتجاه الحديقة لترتوي بعد ذاك العطش .. وأخذت عيوني تتفحص جدران بيتي .. امتلأني حزن موجع .. فالرصاص قد نخر الجدران بمختلف القذائف .. الأبواب مازالت مفتوحة كما تركناها .. أدخل إلى الصالة .. التفت حولي .. أتفقد المكان شبراً .. شبراً .. لم يبقَ منه شيء .. كل ما فيه قد التهمته الحرب .. وما بقي منه .. قد نُهب .. مَن نهبه ؟ .. لا أدري ! ويشهد لذلك آثار أقدام على الأرض .. ترك علامات حزينة وباهتة .. بيوت العناكب غطت كل الزوايا .. والغبار كوّن طبقة على الأشياء الباقية المبعثرة هنا وهناك .
 أقف أمام النافذة .. أتطلع نحو الحديقة .. ذوائب الأشجار تتحرك ، وأسأل : _ هل سينقذها الماء ؟ لا يهم .. حتى وإن ماتت سأزرع غيرها من جديد ! أرفع نظري إلى السماء .. العصافير تمرح على أسلاك الكهرباء .. تنزرع عيناي هناك .. لحظات وكأنها سنين طويلة .. الصور تتزاحم .. ففي تلك الليلة التي كانت بلا تاريخ أمطرت السماء بغزارة .. لم يكن يمطر فيها سوى القنابل والرصاص والبارود .. ليلتها .. أفقنا على أصوات القذائف التي تهز الأرض .. ضياء الرصاص يلهب سماء المدينة يغطيها بسماء أخرى من الدخان .. دوي الانفجارات وعويل صفارات الإنذار يشرخ صمت الليل .. الوقت يمضي وقصف الطائرات مستمر لا يعطي للروح بعض الأمان .
 انفجار قريب يدوي في الوجود .. إنهُ قريبٌ جداً _ قلت لنفسي _ يا ترى يا نصيب الدمار أي البيوت اختار هذه المرة ؟ ففي الحرب .. يختار الموت ضحاياه بالصدفة !
 ارتسم على الوجوه الهلع .. إنه فزع الحرب .. كل ما استطعنا أن نفعله هو انتزاع الأرواح من براثن الموت .. لم نفكر بأي شيء آخر .. ففي مثل تلك اللحظات يتحول التفكير إلى شظايا .. ومضينا ليلتها نحو مدن أخرى أكثر أماناً .
 القذائف تتهاوى علينا كالمطر .. جموع الناس تفر بأرواحها فقط .. بكاء الأطفال قد اختلط بدعاء المسنين ونفير الإنذار .. وحده الصراخ يتفجر في أرجاء المكان .. ولم يكن لمدينتا ذنب سوى انها كانت في الفوهة .. قدرها أن تكون مدينة على الحدود !
 توقفت الحرب وحطت أوزارها .. فالحرب مهما طالت .. لا بد أن تنتهي في يومٍ ما .. وأول ما فكرتُ فيه بعدها .. بيتي .. نعم بيتي !
 تتلاشى الصور كلها كومضة ضوء .. مازالت العصافير تمرح على أسلاك الكهرباء .. وذوائب الأشجار تتحرك .. أبتعد عن النافذة .. أدخل غرفة مكتبي .. لا شيء هناك .. حتى مكتبتي سرقوها ! وانتبهت فجأةً .. هناك شيء ما " لوحة الموناليزا " لم يأخذوها ! أتعجب في سري .. ألم يُغرِ لغز ابتسامتها أحد ؟! انها ساقطة على وجهها .. أندفع نحوها .. أرفعها بهدوء .. يا إلهي .. لم تتأذَ ! الفرحة تسري في شعاب الروح .. إنها أجمل ما أملك ! رحماكِ سيدتي .. ألم تتحملي هذه المأساة .. فسقطتِ ؟! الموناليزا .. الشاهد الوحيد على ما جرى !
 _ ما زلتِ تبتسمين سيدتي ؟ رأيتِ كل ذلك ومازلتِ تبتسمين ؟ لو علم دافنشي بأنكِ ستشهدي هذا كله .. لَما رسمكِ ! أي غموض يفسر ابتسامتكِ .. وأي لغزٍ يحويها ؟؟ .. ربما كانت ابتسامة سخرية !
 مسحتُ عنها الغبار .. وثبتها في مكانها .. لتبقى الشاهد الوحيد !


كانون الأول / 1995

 

 

 

 

ويبقى الوفاء
 أضع يدي على جبينه لأتحسس حرارته .. إنها عالية جداً .. طفلٌ غارق في بحرٍ من الحمى .. أرفع نظري إلى أبويه لأستفسر عن حالته .. كلانا جفل حين التقت عيوننا .. لم أستطع الإفلات ثانيةً من عينيها .. إنها هي .. تيجان ! الدهشة تعقد لساني وأسقط كأوراق الشجر في دوامة الذهول .
 أية مفاجأة قذفتها لي السماء في هذا الصباح .. زلزلت ركود الزمن حولي .. المشاعر تلتهب في دواخلي ويخفق القلب بإيقاع غير طبيعي .. رأيت نظرة الدهشة بين دمع أحداقها .. كانت شبه منهارة .. علامات الخوف والألم قد ارتسمت بصورة واضحة على ملامحها .. تبكي بحرقة على طفلها .. ورغم ذلك تبدو في غاية الروعة .. حتى وهي محطمة . قالت والدموع تخنق كلماتها :
 _ منذ الأمس حرارته عالية .. لا أدري لماذا !
 _ بسيطة إن شاء الله .. إنهُ عارض بسيط يحدث لكل الأطفال في هذا الموسم .. اطمئني سيدتي .
 وما أن سمعت كلمات الاطمئنان مني حتى اكتست قسمات وجهها ظلال الفرح والرضا .. ومسحت دموعها بأطرافِ أناملها .. ولأكسر جمود التوتر الذي خيمَ فوقنا توجهت بسؤالي لها:
 _ ما اسم الحلو ؟
 كل ألوان الطيف تعاقبت على وجه تيجان .. تراجعت النظرات في عينيها والتفتت إلى زوجها بنظرة مسترقة مخطوفة كأنما تدعوه أن يتكلم هو .. فرد زوجها ليخلق جواً سريعاً من الألفة :
 _ اسمه .. رغيد ، يا دكتور .
 حاولتُ أن أبتسم .. لكن الابتسامة لم تطاوعني .. لا لشيء .. سوى لدهشتي واستغرابي .. وأدركتُ حينها معنى نظرتها لزوجها . ماذا أقول ؟ وكيف أصف لحظاتي هذه ؟ فهناك أشياء تحدث لنا لا تستطيع كل كلمات الكون أن تُعبر عنها .. لم أستطع أن أُخبئ نظرات الامتنان .. كدتُ أن أقول لها .. " أنا أيضاً لم أنسَ " .. لكني لم أقل .. بقيت صامتاً .. ونظراتي تكرر امتناني العميق لوفائها .. لا أدري كيف أُداري وأُقاوم هذا الإحراج الذي وضعنا القدر في دوامته ؟ منعتني الجرأة أن أنظر إليها مرة أخرى .. حسبتُ بأني سأكون كاللص أمام زوجها .. انحنيتُ نحو رغيد وطبعتُ قبلة حارة صادقة على جبينه .. قبلة تعني كل معاني الشكر والعرفان لوالدته ، والتفتُ إلى الممرضة واصفاً لها العلاج الواجب إعطاؤه للطفل .
 طمأنتهم على صحته ، مكرراً لهم بأن حالته بسيطة جداً ولا تستدعي الخوف والقلق .. ومضيتُ عنهم دون إرادةٍ مني . وبد أن أدخل غرفتي دخلتُ غرفة المدير .. انتفضت .. حين وجدتُ المدير خلف مكتبه يقول لي :
 _ أهلاً دكتور رغيد .. تفضل !
 لم أستطع الرد .. امتلأتُ خجلاً .. وعدتُ أدراجي . ركبتُ سيارتي وغادرتُ المستشفى .. أخذت عجلات السيارة تنهب الطرقات .. أجوب الشوارع بلا هدي .. إلى أين ؟ لا أدري ! كمن يسقط على كوكبٍ لا يعرف عنه أي شيء !
 اهتزاز الصليب المتدلي من عنق المرآة أثار انتباهي .. وكأنهُ يذكرني بعمق مأساتي .. تُصلبُ عليه لحظات الواقع كما صُلبت عليه من قبل حكاية عمري .
 _ انهُ هديتي لكِ _ صليب صغير يتدلى من سلسلةٍ ذهبية _ احتفظي بهِ كحرزٍ يحميكِ .
 ما أن رأتهُ حتى انتفضت باندهاشٍ غريب !
 حينها رأيتُ في عينيها نهاية كل شيء .. خيمَ فوقنا الصمت .. لم نتفوه بكلمة .. اجتاحتنا غمامة أسى أمطرت في قلبيّنا حزناً وألماً .. فما اكتشفناه اليوم كان وقعهُ كالضربة القاضية علينا .. لحظات الفراق الإجباري تدنو ولا نستطيع أن نفعل إزاءها أي شيء ! أي شيء!
 فيض من الألم يداهمني .. صرختُ في داخلي دون صوت .. تحطمت كقطعةِ زجاج تسقط على الأرض .. وشعرتُ بما يشبه وخز زجاج محطم يمزق أحشائي .. لحظتها تأكدت بأن العالم الجميل الذي رسمتهُ لنفسي وحلمتُ أن أعيش فيه قد انهار .. انهارَ تماماً .. والنور الذي تصورت بأنهُ سيضيء لي العمر كله قد انطفأ . لماذا يا ربي ؟ الفتاة الوحيدة التي أحبها القلب !
 الصليب وضع نقطة النهاية في سطر الحب . افترقنا بدون موعد ودون أن يكون بيننا وداع .. حبي لها بقي " عُذرياً " لم يتجاوز نظرة العين وخفقة الفؤاد .. احترمتُ موقفها وابتعدت .. لكن القلب لم يبتعد !
 الفراق كان الباب الوحيد الذي رأيناه مفتوحاً أمامنا .. فدخلناه ! ومع الأيام انطفأت أكثر الوجوه التي كنت أعرفها .. ذابت ملامحها وتناسخت مع وجوه أخرى .. إلاّ هي .. بقي طيفها في ذاكرتي يتحدى الفراق والنسيان والزمن .. رحلت عني .. وبقيت معي !
 تصورت بأن حياتي ستتوقف ولا أستطيع أن أُواكب الأيام من بعدها .. لكن عجلة الحياة كانت في دورانها الطبيعي .. وانقضت الأيام مسرعة .. هكذا انقضت .. فالحياة لا تتوقف عند نقطة .
 أعود للحظات الواقع .. فوجئت بأني قد ذهبتُ بعيداً .. تخطيتُ حدود المدينة بكثير .. استدرتُ بسيارتي وسلكتُ طريق منزلي .
 سحبتُ السلسلة من عنق المرآة .. وقلت لنفسي :
 هناك عنق آخر يستحق أن أُطوقه بها ..
     عنق ابنتي تيجان !


     تشرين الثاني / 1995      

 

 

شمس تشرق في الليل
 أضع الاسطوانة .. أحركها .. فتنساب موسيقى مفرطة في الرقة والحساسية .. أطبق جفنيّ على بعضهما ليأخذني شوبان عبر موسيقاه إلى عالم الأحلام .. فتنهال عليّ ذكريات بعيدة .. وتستفيق في صدري عذوبة أيام قد بعدت .. كالسيل العرم .. يشدني الحنين .. فأنساق نحو النداء الخفي .. وأعود إلى مسارات قد انتهت .. غابة جميلة زرعها في قلبي ومضى .. كالحلم .. وترتعش أوراق الغابة كلها في نفسي حين أتذكره .
 المعرض يغص بالناس .. وجدتهُ يتأمل لوحاتي بجدية .. شعرتُ بالفخر وقتها .. اقتربتُ منه وقلت بخجل :
 _ ماذا يرى أستاذنا الموسيقي في لوحاتي ؟
 أزاح عن عينيه نظارته الطبية ثم استرسل بصدق :
 _ في لوحاتكِ عمق إنساني شدني إليه .. ففي أجوائها تكمن شفافية ساحرة وغرابة غامضة تأخذنا إلى عالم ما ورائها .. لقد زرعتِ لنا المستقبل بوعود عطاء .. وتأكدت بأني أقف أمام فنانة استطاعت أن تعزف بالألوان أنغاماً رائعة .
 أدهشتني حقيقة رأيه .. هكذا كانت البداية .. والبدايات دائماً جميلة ! وبعد أيام حضرت أمسيته الموسيقية التي دعاني إليها .. جلستُ في الصفوف الأمامية مصغيةً له بكل جوارحي وهو يحاول أن يستنبط من البيانو ألحاناً سماوية .. بوحاً رقيقاً بالحب والحنين يفيض بها قلبه وخياله .. أعجبتني ثقافته الموسيقية وإدراكه المرهف للغة الأنغام .. نظرة من عينيه اللتين تتحولان إلى ربيع كلما نظر لي .. كانت كافية لتشعرني بأنه يعزف لي وحدي ! وعندما انتهى من العزف اقترب مني وهمس : " شكراً لحضوركِ يا غصون " . قال ذلك بلهجة حنونة استطاعت أن تحرك كل أوتار القلب .. وشعرت بأن عواطفي كلها تتجه إليه اختياراً وطواعيةً .. ويومها أيقنت بأنهُ الطرف المعادل لي .. وبهِ وحده سيكتمل اللون الناقص في لوحة حياتي !
 كلانا كان مشغوفاً بالفن والجمال .. وكلانا بدأ يُغذي شعلة فنه بزيت الحب والميثالية .. كنا نحاول معاً أن نصل إلى ذواتنا من خلال ما نملكه من موهبة .. تسلقنا سلم الشهرة درجة .. درجة .. لم تكن أبداً موسيقاه فقط ما جذبني إليه .. بل ألفاظه المتقاة .. ابتسامته الودود .. ثقافته الواعية المتحضرة التي تجعل كل مَن يقف أمامه يصغي إليه بثقة واعجاب .
 وبدأت شهرته تكبر وتتسع لتملأ جنبات البلاد لِما كان يملك من موهبة عظيمة .. فقد كان له أسلوبه الخاص المتميز عن أقرانه .. كطائر يغرد خارج سربه .. وفي كل مرة نلتقي بها نتحدث بأنفاس مبهورة ومشاعر مشتركة عن الغد السعيد بما فيه لوحاتي وأنغامه .. إلى أن أبلغني بخبر قبوله في إحدى الأكاديميات الكندية . شعاعان من الفرح والحزن التمعا معاً في قلبي !
 لا أدري لِمَ هي اللحظات الأخيرة تبقى راسخة في أذهاننا لا تستطيع أي يد أن تمحو ولو جزءً صغيراً منها .. جلسنا على مقعدٍ حجري نحته الزمان لنجلس عليه ساعة الوداع .. بقينا صامتين لفترة .. فحين يكون الكلام عظيماً لا نقوى عليه فإننا نصمت إزاءه .. حدق في وجهي طويلاً وبأطراف أنامله الرقيقة مسحَ دموعي :
 _ أرجوكِ غصون .. لا تودعيني بالدموع ، فأنا أكرهها .. ابتسمي من أجلي .. أرجوكِ .. فالقلب دائماً يلتقط صوراً لآخر لحظة .
 ابتسمت بقلبٍ ينزف ، فأكمل :
 _ انتظري عودتي .. سأعود بأقرب وقت وحينها سنتزوج ومتى ما رُزقنا بأول طفلة سنسميها " ألوان " .
 فقلت بشيء من الخجل : _ بل " أنغام " .
 _ لا أنا مُصر .. الأولى ألوان والثانية أنغام .. كأحلامنا .
 سافر إلى كندا لمتابعة دراسته وانقطع اتصاله بي بعد أن اندلعت الحرب .. حياتي استمرت طبيعية رغم كل شيء .. رغم الحرب .. الحزن .. الفراق .. عجلة تدور وندور معها .. وبقيت الألوان وحدها شموعي تضيء وتبكي ليلي .. فمَن يحب يحتمل بصبر كل آلامه وأحزانه .. وأنا كنتُ أحبه ملء أعماقي .
 أيام وتلتها أيام .. تل يكبر .. يصبح جبلاً تسحبه السنون .. كان دائماً يستشهد بجملة فاليري " الموسيقى ولا شيء غير الموسيقى " . يبدو بأن الموسيقى أنسته من تركهم في الوطن !
 رنين الهاتف يقطع استرسال الذكريات .. يرن ويمعن في الرنين .. يشرخ هدوء الليل من حولي ويصحيني من ذلك الماضي الجميل .. فأرد بلا مبالاة وبتثاقل :
 _ ألو . ويأتيني الصوت من بعيد :
 _ ألو .. غصون ؟ غصون تسمعيني ؟ ألو ؟
 هل هو الخيال يرتدي ثياب الحقيقة ؟ لا أُصدق ! القلب يخفق ويرفرف بعنف بين أغصان الصدر .. أحرك الشفاه .. أحاول أن أبحث عن كلمات لأرد بها .. لكن لا أستطيع . قمة الفرح تجعلنا نبكي .. حتى أفراحنا تقطر منها الدموع !!


تشرين الأول / 1996

 

 

المفكرة
 لابد أن صاحبتها تبحث عنها في كل مكان .. ألتقطها كمَن يعثر على كنزٍ ثمين .. أُقلب صفحات المفكرة بفضول .. نصفها الأول فارغ إلاّ من بعض التفاصيل العادية .. أما نصفها الثاني .. ما أن لمستهُ حتى شعرت بأن سطورها تكاد تنبض من بين يدي .. حلم مملوء بالألوان .. كتبتهُ بقبسٍ من روحها .. كلماتها تضيء على الورق .. انها اعترافات عاصفة لنفس معذبة بأسمى عذاب في الوجود .. عذاب كلنا نتمنى أن نغرق في بحره .. اسمهُ الحب .
 صفحات ملونة بالعشق والفرح .. أحداث أيام دونت بمداد القلب .. هموم ومواقف وحالات .. إنهُ حديث قلبها .. بوح رقيق شفاف .. نبضات قلب تُرجمت على الورق بكل آهاته وهواجسه .. انها تنزف على الورق .
 اليوم .. اكتشفت عالماً صنعته فتاة !
*          *          *
       28 / حزيران
 شيئاً ما يتحرك في صدري .. طير يغرد بين أغصان القلب .. يخفق بجناحيّ فرح .. كل شيء حدث بومضة أو لنقل  .. بنظرة .. عاطفة مبهمة فيها طيف حنين غريب .. كأنهُ نغم هادئ يتسلل إلى أعماقي .. وجوده اليوم ينبض حياتي بمعاني كثيرة كنتُ أجهلها قبل الآن .. أقرأ في عينيه تاريخي .. وكأنهُ بدأ من هنا .. من هذه النظرة !

 

       6 / تموز
 فيض من الحب يجرفني نحوه .. أنزلق إلى حبه بهدوء وكأن يده في الخفاء تسحبني .. وأنزلق رغماً عني .
 امتدت بيننا جسور التفاهم دون أن نتبادل بكلمة .. فالعيون قد باحت بسر القلب .. كأنهُ حلم في نومي .. وعندما استيقظت وجدتهُ أمامي .. مد بمظلة حبه فوق حياتي .. دقات قلبه أسمع صداها ، تخطها رموش عينيه .. فالمشاعر لا تُكتم .. وفهمت ما أراد أن يقوله دون كلام .. فالرسالة قد وصلت .. وأدركت اليوم .. ان المسافة التي بين عيوننا هي بداية لدرب الحب .

 

       21 / تموز
 ابتسامة عينيه تصافحني كل صباح تقريباً .. تلون لحظات أيامي الرتيبة .. عيناه ترنو إليّ بفرح .. تبث رسائل حب .. تنطق بكل كلمات الود .. بعينيه قال لي : أحبكِ . وبعينيّ رأى الجواب ! بالعيون نسجت حكاية حب قد تكون رائعة إذا استمرت . ويدهشني .. لماذا هو ؟ .. وهو بالذات .. لا أدري .. ربما هذا هو سر الحب !!

 

       30 / تموز
 لم أفكر باسمهِ نهائياً .. أو ما عساه أن يكون .. كل ما كان يهمني .. اني أحببتُ إنساناً .. هو إنسان هتف قلبي له دون سواه .. وهذا بنظري يكفي !
 اليوم .. سمعتُ صديقه يناديه " أنمار " . إذاً هذا هو اسمه الأول .. اسم غريب .. رددتهُ مع نفسي .. لِوقع اسمه نغم جميل في قلبي .. بدا لي اسم " أنمار " أجمل اسم في الوجود .. فأسماء مَن نحب هي أجمل الأسماء .. حتى لو لم تكن أجملها !


 
       2 / آب
 هناك شيء ما ربط بين قلبينا .. بدأت أأنس منه ميلاً وحناناً غريباً .. أية قدرة عجيبة يملك ! .. بدأ يتوغل في قلبي .. يتسلل إلى دواخلي .
 حين ألقاه أحس بدفء الخجل .. تتدفق الدماء في وجهي ، فأحمر خجلاً .. ترتكب خطواتنا كلما تقابلنا مصادفة .. لا أدري .. ما الذي يدعونا أن نتوقف عن المشي تماماً !
 للناس عيد يفرحون به .. وعيدي يوم ألقاه !

 

       9 / آب
 مع حشود الزائرين .. أدخل قاعة عرض للفنون التشكيلية .. تتناثر على جدران القاعة لوحات فنية تؤكد حركة الإبداع في المدينة .. أسير مع اللوحات .. وأتوقف عند الإمضاء " أنمار هادي " . انهُ هو .. دهشت لأني اكتشفت انه رسام .. ودهشت أكثر .. لأنه يملك هذه الموهبة الرائعة !! لوحاته تؤكد انه فنان متمكن من صنعته .. فنان يملك حساً فنياً مرهفاً .. رسوماته تجرد باللون قضية ومبادئ وطن مجروح .
 بدأت لا أرى في المعرض سوى لوحاته .. إيحاءات ومواضيع ترجمها في فنه بكل صدق .. له طاقة خاصة في دمج العلاقة اللونية والروحية منسجمة مع ما يحيط به .. فنان غمس فرشاته في ألوان مبادئه .. حقاً انهُ فنان رائع .


       18 / أيلول
 تلقيت مع بريدي اليوم رسالة .. فضضتها على عجل .. انها بطاقة عيد ميلاد ، مرسومة بأنامل فنان .. ألوانه .. استطاعت أن تقول ما لم يقدر على قوله لي حتى الآن ! .. ومع البطاقة   ( زهرة أقحوان ) لها لون خريفي .. أشم عطرها ملأى أنفاسي .. وكأني أحاول الاحتفاظ بها ما أمكنني في الصدر .. لم تذبل بعد ! يبدو انها اقتطفت هذا الصباح .. كيف عرف بأني أحب زهر الأقحوان ؟ كم هو لطيف ما بدر منه اليوم .. أجمل من أن تكون حقيقة وأصدق من أن تكون خيالاً .. فلو هبطت عليّ من السماء صرّة ملأى باللآلئ لَما كان فرحي بها كفرحتي اليوم برسالته .. وضعتها على صدري لتسمع دقات قلبي .
 شعرتُ بأني لم أكبر هذا العام .. !

 

       2 / تشرين الأول
 كانت حياتي جزيرة هادئة أعيش في أحضان عمرها بهدوء وطمأنينة .. تحكمها مبادئ العقل قبل كل شيء .. ملتزمة مع الناس بالأدب والاحترام .. كنتُ قريبة من الكل ، لكن دون أن أكون حبيبة لأحد .. عواطفي لم أبتذلها لأي كان .. هذا هو الطريق الذي رسمته لنفسي ومضيت في سبيله بعد اقتناعي به .
 كنتُ أُؤمن بالحب .. وبأنهُ سيأتي في يومٍ ما مع شخصٍ ما .. يستحق أن أمنحهُ شرف محبتي .. واليوم أجده أمامي .. تسلل إلى جزيرتي بهدوء وباغتني .
 أتى .. ومعه الدفء الذي أبحثُ عنه .

 

       9 / تشرين الأول
 تتوضح أمامي ملامح شخصيته يوماً بعد يوم .. وأجدهُ نبيلاً مستقيماً .. رجلاً تملأهُ المبادئ .. على محياه ظلال الرضا والثقة والاعتزاز بالنفس .. أظن مَن يحمل هذا كله .. جدير بأن يُحب .. ففي سماته كل ما كنتُ أتخيله وأبحث عنه .
 أيقنتُ معه .. انني عثرتُ على حلمي .. لا أدري .. أشعر بالأمان معه حتى بهذه الصورة البعيدة القريبة .. البعيدة ببعدها المكاني .. والقريبة بقربها الروحي .

 

       11 / تشرين الثاني
 يعجبني إصراره على التقرب مني .. أحاول جاهدة أن أهرب منه .. لكن .. إلى أين ؟ وفي أي مخبأ أخفي سري ؟ فالعيون باحت بكل شيء ! نظراته تؤكد محبته كل يوم ولا أستطيع سوى الرد عليه بنفس لغة الصمت التي يحدثني بها .
 أتحداه بصمتي .. والصمت قد أوصل الرسالة .. وأظن أكثر من لو كان بيننا حوار .. انهُ يعلم بأني أحس بوجوده .. وكأننا اتفقنا على الحب بصمت .

 

       29 / تشرين الثاني
 رن جرس الهاتف .. الساعة متأخرة .. أرفع السماعة :
 _ ألو .. ألو .
 لا أحد يجيب .. يُغلق الخط دائماً بعد أن أرد " ألو " للمرة الثانية . في ساعة محددة .. كل مساء يرن الهاتف .. انهُ هو .. هذا ما أنا متأكدة منه .
 تغمرني سعادة .. لا يتسع لها العالم !

 

       8 / كانون الأول
 حب تبين محياه .. برغم ما نحاوله من أصول التكتم .. فالعيون لغة عالمية كالموسيقى يفهمها الجميع حتى ولو اختلفت لغاتهم .
 بيننا جدار رقيق شفاف .. ربما ينشق بكلمةٍ مني أو منه .. فالأبواب بيننا مفتوحة على وسعها .. لكن لا ندري كيف ومتى ندخلها ؟ أو مَن سيبدأ أولاً .. كلانا يكابر بعض الشيء .. وكلانا متوهم .. فلا كبرياء في الحب !


       31 / كانون الأول
 في حياة كلٍ مِنا سنة جميلة .. ولو سألوني عن أجمل سنة في عمري لقلت بدون تردد سنة ( ……… ) شعرتُ بأن النور بدأ منها .
 اليوم يضع الزمان الغطاء على آخر ورقة من عام ( …… ) ويقول لها كوني .. ذكريات .
 وغداً يرفع الزمان الغطاء عن الورقة رقم واحد من العام الجديد ويقول لها كوني .. أمنيات .
 انتهت أوراق المفكرة مع انتهاء العام .. والحكاية لم تنتهِ بعد .. أو لنقل .. لم تبدأ بعد !


حزيران / 1995

 

 

أجراس العودة
 _ " إنكَ فنان قوي في رسم البورتريه وتتعامل معه برومانسية .. لكن لوحاتك متشابهة وكأنها ملامح لشخص واحد باختلاف أعمارهم وأجناسهم " .
 قالها لي الناقد الفرنسي عندما زار معرضي الأول المقام في باريس .. بليغة الجرح كانت كلماته .. رأيه فاجأني .. بل أصعقني .. شعور بالصدمة .. كلمة النقد هذه كانت دبوساً فجر منطاد أحلامي الذي سعيت إليه في باريس .. فمجدي الذي حاولت أن أبنيه هنا .. ينهدم بلحظات .. كقصرٍ شيدته فوق رمال .. خيبة عميقة أصابتني في الصميم .. كانت هذه مشاعري بحق لحظتها .. رأيه هذا جعلني أعيد النظر في كل ما مضى .. بل أيقظ واقعيتي لأرى على أي درب أسير .
 صورة عبير تفاجئني .. تقفز أمامي بمرح ساخر .. وينقلب الماضي كله في لحظة صدق .. أكنتُ أحتاج إلى رأي هذا الناقد لأتذكرها ؟ أي حب يسكنني .. سنين ووجهها غائب عني .. بيني وبينها بلدان وبحار من الزمن ولم أستطع أن أنسى .. الذاكرة الخرساء نطقت وبلا وعي مني .. ملامحها تُرجمت في لوحاتي ودون أن أدري !
 قبل أربع سنوات جئت إلى باريس .. حاملاً معي كل أحلام الدنيا في قلبي وكل طموح النجاح في عيني .. باريس .. الحلم بالنسبة لي .. مدينة الفن والجمال .. أردت منها أن أبدأ الرسم كمحترف .. كنت أتصورها بطاقة للعبور إلى الأحلام والشهرة ، وإني فيها وليسَ في غيرها سأُحقق وجودي الفني .. وتصوري هذا لم يصادف توقعه !
 جئت هنا لأُحقق ذاتي .. ولم أعلم أن ذاتي قد تركتها هناك وديعة عند عبير .. وجئت هنا وحدي .. معي ألواني وريشتي فقط .. كنتُ مؤمناً حينها بفكرة ان الفنان وفي أي مجال كان إبداعه عليه بالرحيل من بلده وأن لا يبقى كوتد خيمة مغروساً إلى الأبد في ترابه .. أردت أن أكون شيئاً عظيماً .. فانتزعتُ نفسي من كل شيء حولي .. وتصورت بأني أسلك الدرب الصحيح .. واليوم اتضح لي كم كنتُ مُخطئاً ! .. فالعظيم .. عظيم في بلده وبأهله وناسه . حزمتُ حقائبي .. وسلكتُ طريق العودة .. فيكفي ما قد ذهب مني ، فلأحفظ ما تبقى مني .. إن بقيَ مني شيء !
 ترتفع الطائرة بي تاركة خلفها برج ايفل وقوس النصر ونهر السين .. أطل بنظري من النافذة فتلوح لي كاتدرائية نوتردام بقبابها وأبراجها الضخمة .. باريس .. تبدو رائعة .. لوحة رسمها الجمال .. الطائرة تغادر أجواءها .. فأغمض عينيّ .. وتتجسد أمامي صورة أخرى أجمل من باريس .. صورة عبير .. أرى نظرتها الحالمة ووجهها الملائكي ورقتها المتناهية .. كيف تخليت عن كل ذلك ؟ ارتديت رداء الأنانية في لحظة نشوة من أجل أحلام المجد والشهرة .. كان حينها المهم عندي أن أُكوّن نفسي فنياً ثم اجتماعياً ، فتخليتُ عنها من أجل فني .. وها أنا أعود إليها حاملاً معي حسرتي على ما فات .
 اعتقدت أن حبها سيضيع في زحام الغربة .. لكن الحب لا يضيع من قلبٍ استقر فيه ! فأي فنان يترجم في أعماله أعمق الأحاسيس التي يكابدها .. إذاً .. عبير كانت أعمق أحاسيسي .. طويتها علناً وخرجت من لوحاتي .. كيف ؟ لا أدري !
 لا أستطيع الفكاك من حصار ذكرياتها .. تصورتُ بأني قد طويت الصفحات القديمة .. وها هي تتقلب أمامي رغماً عني .. منذ أول يوم التقيت بها إلى آخر لحظة حين فاجأني رأي ذاك الناقد التشكيلي .. لحظتها تمنيت أن تعود عقارب الزمن إلى الوراء وأبدأ من جديد في وطني ومع عبير .. لكن متى كانت عقارب الزمن تعود إلى الوراء ؟!
 الزمن مر كالومض .. وبشكل لا إرادي لم أرتبط بأخرى .. كانت عيناي ترفضان دوماً التوقف عند أية امرأة سواها .. ربما لم يعوض فراغها أحد ! والعمر تلاشى ببطء والأيام هربت بسكون وصمت ودون أن تتحقق آمالي التي كنت أحلم أن أُحققها في مدينة الحلم " باريس " .
 _ إنكَ نهر معروف في بلدك .. لا تحاول أن تصبه في بحرٍ أوسع لأنك ستفقده .. فالنهر في المصب ينتحر .
 هذه كانت كلماتها الأخيرة لي حين ودعتني في المطار .. لم أُصدقها .. كم كانت على حق .. فأنا انتحرت عندما فكرت بالرحيل .
 في طريقي إليها كان القلب يخفق وبشدة . اليوم .. وبعد كل سنوات الغربة والفراق التي مضت أقف مجدداً على بابها .. وأطرق .. فتحتُ باب غرفتها .. كان على مكتبها .. كتاب وقلم ونظارتها الطبية .. لكن .. عبير لم أجدها !
 فكم من فردوسٍ كان بقربنا ولم ننعم به .. ولَما عدنا إليه بعد رحيلنا عنه .. وجدناه قد أغلق بابه !


تشرين الأول / 1995

 

 

لقاء على جناح الموت
 حادثة أخرى تدخل من باب الطوارئ .. يا ليل كم تحمل لنا على أكتافك من حوادث _ قلتها لنفسي _ حادث سيارة على الطريق العام .. جريح .. فاقد الوعي . أتقدم نحوه مسرعة .. جفل القلب حين لمحتُ وجهه من خلال دمائه .. دفنتُ وجهي بين يديّ .. أيمكن أن يكون هو ؟ وليد ! وكيف لي أن أنسى الوجه الوحيد الذي احتواه قلبي .. بدأت دموعي تنهمر رغماً عني .. رؤيته هذه الليلة وبهذا الشكل كانت بالنسبة لي مفاجأة لم أتوقعها .. وكأنها أتت من خارج المألوف والمتوقع . خطواتي ارتبكت .. أصابني دوار شديد من هول المفاجأة .. لكني تماسكت بعض الشيء .. أيعقل ! بعد أكوام من السنين يتجه مركبه نحو شواطئ أيامي محمولاً على أمواج الموت ؟ لا أُصدق ! أقدامي ترتجف .. اضطراب غريب يعتريني .. رعشة من الخوف تسري في جسدي .. تسمرت في مكاني لحظة وكأنها أعوام .. مُسحة الحزن والخوف التي ظهرت في عيوني لم تخفَ على أحد .. زميلي الدكتور ثامر أول مَن لحظها .
 دفع بعربته نحو غرفة العناية المركزة .. وبدأ باهتمام بالغ يعاينه إكراماً لي .. وطلبَ من المعاون الطبي أن يفحص فصيلة دمه ليعلم إلى أيها تنتمي :
 _ انهُ ينزف .. لابد أن يعوض بالدم إن لم يتوقف .
 _ فصيلة دمه ( B+  ) وأنا سأمنحهُ دمي إن احتاج إلى ذلك .
 نظر إليّ الدكتور ثامر وابتسم بدهشة وأظنه علم ماذا قلتُ له .. فرد وهو يربت على كتفي :
 _ اطمئني دكتورة وصال .. انه بخير .. ليست إلاّ كدمات بسيطة .
 بنفسي علقت زجاجات المصل وثبتها على ذراعه .. فقدتُ توازني كطبيبة .. ولم أشعر بالارتياح إلاّ بعد أن أكد لي الدكتور ثامر بأنهُ سيعود إلى وعيه بعد ساعات .. وخرجَ ليُعاين جريحاً آخر قذفه الليل على شواطئ المستشفى .
 النزف قد توقف .. مسحتُ آثار الدماء على وجهه ويديه .. جلست على حافة السرير مسلوبة القوى لا أملك سوى ترديد آيات من القرآن .. صليت من أجله في نفسي ، لعلَ صلاتي تبرئ بعض جروحه .
الساعات تمضي ثقيلة بدقائقها وثوانيها .. مضيتُ نحو النافذة أنظر من خلالها .. الليل في الخارج موغل في الصمت وقد لف الوجود بوشاحهِ الأسود .. ضياء الفجر لم ينبثق بعد .. الظلام يغلف كل شيء .. حتى نفسي .. كنتُ أرتعش في داخلي مترقبة ما يحكمهُ القدر لي هذه الليلة !
أعود إليه .. أتأمله من جديد .. رؤيته اليوم أيقظت النار المتأججة تحت سطحٍ من رماد الأيام .. نسمات حنان تهبُ من ماضٍ ظننته قد أصبح بعيداً .. تسطع أمام عينيّ حركاته وصورته .. أتذكر آخر مرة التقينا .. كلماته الأخيرة مازالت محفورة على جدران الذاكرة لم تستطع أن تمحوها يد الفرقة ولم تحرقها نار البعاد . هنالك لحظات وكلمات في عمر الإنسان تبقى لامعة تبرق في مدار أفكاره إلى الأبد .. ليسَ بمقدور الزمن مهما طال أن يمحو معالمها ولا أن يطفئ بريقها . تلوح الذكريات في أُفق الخيال البعيد .. تقترب .. وأعوم في بحرها فتنتعش الروح بحلاوة الذكرى .. وأسمع الهمس يأتيني من أعماق الذاكرة :
 _ ستطوينا صحراء النسيان .. ولا أظننا سنلتقي من جديد .
 _ ألستِ مؤمنة بأن الأرض كروية ؟
 _ نعم .
 _ إذاً .. كوني على يقين بأننا سنلتقي في يومٍ ما .
 كلمة الأهل كانت أقوى من حبنا .. كلمتهم كانت نقطة الفصل بيننا . وبمنجل فراقنا حصد قلبي الحزن والألم .. لم يعرفوا بأنهُ كل دنياي ، فغلفت حياتي من بعده بستار أسود .. وأغرقتُ نفسي في بحر العمل لأنسى واقع الفراق الأليم .. ضاعت كل مفاهيم الزمن عندي منذ ابتعادي عنه .. مازال حبه قائماً في قلبي وأحلامي وأفكاري .. لم يستطع غيره أن يحرك نبض القلب .. فبقيتُ رهينة في حصن ذكرياته .
 أسمع الآه منه .. أعود إليه .. فيغفو ثانيةً في اللاوعي .. أمسح بقطعةِ شاش قطرات عرق بارد ينزفها جبينه .. ساعة اللقاء هذه محت بلحظة كل أيام البعد .. لكن أي لقاء هذا ؟ وجلست على طرف سريره أُحاكي جسداً لا يعي شيئاً من الوجود .
 _ ذابت أيامنا كما تذوب الشمعة في صحن الزمن .. والتقينا من جديد .. كما قلت يا وليد .. لم أستطع أن أنساك .. حبك كان صادقاً مجدولاً بنسيج الروح .. كنت ومازلت بالنسبة لي الجدار الذي ينتهي العالم عنده .
 لمحتُ شيئاً يلمع تحت ياقة قميصه .. سلسلة ذهبية .. أتكون تلك التي أهديتها له في يوم تخرجه ؟ أيكون محتفظاً بها إلى الآن ؟ أسحبها ببطء شديد .. نعم هي _ سلسلة ذهبية يتدلى منها مصحف ذهبي صغير _ تتجلى حقيقة واضحة أمامي " الحب لا يموت حتى ولو افترق المحبون " . أنظر إلى بنصر يدي اليمنى .. انه خاتمه الذي أهداني إياه في عيد ميلادي العشرين .. أديره في بنصري كلما تذكرته .. وتدور معه الذكريات نحو الماضي  :
 _ انه خاتم محبتي .. هذا عهدي لكِ .. ولكل عهد وعد .. أليسَ كذلك يا وصال ؟
 وكانت سلسلتي وعدي له !
 وجهه هادئ كما تعودته دائماً .. أتأمله ، لم يتغير منه أي شيء سوى خيوط فضية قد تسللت إلى شعره .. بدأت العافية تسري في عروقه فتنعشها لحظة بعد لحظة .. الدماء عادت إلى ملامحه فارتسمت على وجهه إشعاعات نور تبشر بالخلاص .. شعرت بالارتياح .. فتح عينيه ببطء .. عندئذٍ أشرقت الدنيا أمامي .. أحسستُ بشروق شمسٍ دافئة في سماء قلبي .. ابتسمتُ له بحنان فأشرقت ابتسامته اللامعة .. ابتسامة أعادت نبضات قلبي إلى طبيعتها .
 كنت متصورة بأن عقد الحب قد انفرط إلى الأبد .. واليوم أراه أمامي يطوق عنقي من جديد .. كل ما هنالك .. اني ضيعته بعض السنين !


أيلول / 1995     

 

 

 

 

 


الفهرس
التسلسل   اسم القصة
1 الفراشة
2 في آخر يوم
3 الوجه الآخر للقمر
4  الشاهد الوحيد
5  ويبقى الوفاء
6  شمس تشرق في الليل
7  المفكرة
8  أجراس العودة
9  لقاء على جناح الموت

View gulizaranwar's Full Portfolio
tags: