برج المطر



كتب

(( برج المطر ))

حراثة في بحر الحرب .. !  

بقلم : كُليزار أنور  













كتب

(( برج المطر ))

حراثة في بحر الحرب .. !  

بقلم : كُليزار أنور  



هل من الممكن أن يصدر عمل عظيم عن فراغ ؟ لا أظن ، فالعدم لا يُبدع !!

يبرز هنا القاص أمجد توفيق فناناً روائياً متمكناً بحق من صنعته .. قدمَ لنا خلال روايته " برج المطر " لوحة حرب واسعة ، عميقة لحياة عشنا أحداثها وجرحتنا أغلب تفاصيلها .. وكانَ أميناً في نقل هذه الحياة بكل معاني إنسانيتها .

" برج المطر " بناء حكائي بالغ التأثير تداخل فيه الخيال بالواقع ، الاسطورة بالتراث ، الحزن العميق بالأمل المتوقع .  

وأي عمل أدبي لابد أن يتحرك على مستويين : مستوى الحياة الواقعية ومستوى اللغة . وهذا الواقع _ في بعض الأحيان _ يؤطر بالخيال أو الحلم ليعطي للعمل رونقاً من نوعٍ خاص . واللغة لابد أن تكون سلسة ، هادئة ، عميقة تسحب القارئ من يده لتأخذه حيث يريد الكاتب .. وهذا يحتاج إلى ذكاء منه .. وبرأيي الشخصي .. أدب بلا ذكاء يخلق أدباً بدون إبداع ! ربما يقول بعض النقاد .. انهُ تنظير غير منطقي ! فليسَ الهدف من العمل الأدبي أن نقص حياة معينة لفترة معينة بطريقة إنشائية أو رسم مجتمع كما هو .. والأديب الناجح هو الذي يتمكن من نقل الواقع إلى الورق بعربات الخيال !

في " برج المطر " البطل هو السارد الذاتي / الراوي . ولقد اتضح ان ضمير المتكلم في أي عمل سواء أكان قصصياً أو روائياً هو أفضل الوسائل وأكثرها فاعلية لدى المتلقي .. إذ بإمكان القارئ أن ينتقل وبدفعة واحدة إلى داخل النص .. حيث الكاتب . والبطل هنا تكلم عن كل ما يدور حوله وعن أهله وناسه وأصحابه وسفراته ، ونسيَ أن يذكر لنا اسمه وعمله واتجاهه .. وأشياء كثيرة ربما تعمدَ المؤلف إغفالها عن قصد للتمويه ( حاجة في نفس يعقوب ) ! رغم هذا ، فالشخصية المحورية _ أي البطل _ في النص السردي قوية إلى درجة انك تتابعه بشكل لا إرادي _ وبنظري _ أهم عنصر في العمل الأدبي _ قصة أو رواية _ هو أن تجعل القارئ وتُشعرهُ بأنه يتابع .. ويتابع .. وأن يبقى لديه هذا الشعور إلى نهايتها !    

في مدخل الرواية يدعونا السارد / الراوي لنتأمل دواخلنا من خلال " برج المطر " الذي اقترحه علينا (( البرج الثالث عشر الذي أضافته تجربة الحرب والحصار إلى الأبراج الاثني عشـر  

المعروفة )) ص 9 .

جميل ما فعل .. أن يدعونا إلى الدخول إلى روايته من مدخل لم يسبقه غيره في الاقتراح عليه . وهو لا يطلعنا _ ككل الأبراج الفلكية _ على مدارات الحظ وخطوط المستقبل .. انهُ برج خاص بالعراقيين فقط ! (( نقرأ فيه وشوم أرواحنا .. ونرى رعشة الحب الندية التي لم تستطع صواريخ كروز وطائرات ب 52 تجفيفها )) ص 9 .

تقنية الرواية اعتمدت على اسلوب التقطيع السردي الذي يمتاز بالتكثيف والاختصار والدقة أكثر من الأساليب السردية الاخرى .  

وبعد المدخل يلجأ السارد / الراوي إلى الماضي .. يعود إلى تلك المسارات التي انتهت مع (( ذلك الصغير الذي يرى أن الناس تدرك الأشياء عبر اتجاهات ثلاثة لا غير .. اتجاه علوي ، واتجاه افقي ، واتجاه سفلي . ويدرك ان رؤيته للأشياء مختلفة عن رؤية الآخرين لأنها تتم من الأعلى إلى الأسفل )) ص 10 .

ويكبر وعي الصغير .. ويكبر احساسهُ بالأشياء وبالمحيط الذي صنعهُ هو لنفسه (( يكبر ، ويتعمق ، نبتة تعددت حلقات اللحاء حول جذعها .. نمت ، وأصبح أعلى غصن فيها مجسة إحساس ، تعمل كرادار في الاتجاهات الأربعة )) ص 13 .  

ولأنهُ يؤمن بحالة التناسخ يقترح الراوي / البطل بأن روح الصغير الذي كبر تلبستهُ (( كنتُ طفلاً في التاسعة من العمر ، حين وجدتُ نفسي في ساحة بالقرب من الجسر الوحيد في المدينة الشمالية ، وبالقرب من بناية المحكمة .. الساحة تغص بالمسلحين ، والأصوات المتنافرة .. تملكني خوف ما ، فركضت ، عثرت بشيء ما ، فسقطت عليه ، كاد قلبي الصغير أن يخلع حين أدركتُ اني ساقط على جثة رجل قتيل .. نهضت .. رأيت رجلاً أعرف ملامحه يهوي بعصا غليظة على رأس رجل آخر ممزق الثوب ، فانفجر الدم من رأسه ، وسقط على الأرض )) ص 17 .

في الغلاف الأخير وعبر سطور التعريف بالكاتب نقرأ بأنهُ من مواليد 1950 . لا أدري لِمَ لم يذكر المؤلف بأن تلك المدينة الشمالية هي مدينة الموصل _ خدمة للقارئ العربي _ وبأن ما رواه لنا كانَ مشهداً حقيقياً من ثورة الشواف التي حدثت عام 1959 .. ؟!

(( حرب الشمال بعيدة ، وحرب إيران .. رغم دمويتها ، وطولها ، وحسرات الامهات، ورغم شظاياها ورصاصها .. كانت بعيدة أيضاً .. مَنْ يستطيع تحديد ساحة العدوان الثلاثيني ؟ انها في كل مكان ، وأي مكان ، الكل محاربون ينبغي تدميرهم .. الأرض ، السماء ، الأنهار ، الأشجار ، البناء ، البشر جميعاً .. لم يستثن هذا العدوان أحداً )) ص 18 .      

وينضم البطل / السارد الذاتي إلى مجموعة متطوعين ختمت واجباتها بمشهد مروع للدم ..

دم قريب عزيز جَسور هو دم أحد أعضائها " جابر " الذي تمزق جسده بين شاحنة تحمل صواريخ وبين ساحبة ضخمة .

(( ماذا بقي من الصغير ، واتجاهات معرفته للعالم .. الصغير كبر .. ساح في هذا العالم ، وشارك في حروب . لم يكتفِ بقراءة الروايات للأعمى ، قرأ كثيراً لنفسه ، وقرأ لحسناوات ، قرأ لهن نسغ روحه ، وأطلق العنان لمخيلته ، فكانت أكثر جموحاً من حصان أبيه .. ذهب الزمن الجميل .. ماذا بقي من جابر ، غير شاهدة قبر .. انهُ زمن المطر الأسود )) ص 66 .

ورحلت " سيدة الماء " كما لم يرحل أحد من قبل (( إنها نسفت كجسر أو عمارة ، كمعسكر أو قاعدة ، كطائرة أو سفينة .. قُتلت بطريقة تليق بروحها الباذخة .. قُتلت بسلاح يكلف ملايين الدولارات .. قُتلت في مدينتها الشمالية ، إذ استهدفها صاروخ كروز ، فحملها مع البيت الذي تسكنه إلى السماء )) ص 69 .

ويرحل البطل من العراق كما رحل أغلبهم . ولم نعرف لماذا رحل وما هي دوافع رحيله؟! وفي أنقرة المدينة الجبلية التي يغطي القرميد الأحمر منازلها .. يلتقي بفتاة عراقية مصادفةً ، فيتعاطف الدم وتسأله عن سبب زيارته :    

(( _ إنني أنتظر تأشيرة دخول إلى دولةٍ أوربية .

قالت على الفور ، وبتصميم أدهشني :

_ لا تنتظر ، انهم لن يمنحوك التأشيرة .

_ لماذا ؟

_ لأنكَ عراقي . )) ص 98 .

فيقرر أن يعود ليمضي ست عشرة ساعة في سفر متواصل .

(( هالني حقاً أن أجد الشباب العراقيين ، وهم من مدن دهوك وزاخو وأربيل يحملون جوازات سفر متنوعة .. جواز سفر أمريكي .. بريطاني .. سويدي .. ألماني .. نرويجي .. هولندي .. استرالي .. جواز السفر العراقي الوحيد ، كنت أنا مَن يحمله .. نظرني الآخرون بدهشة تقترب من الحسد .. آه يا زمن المطر الأسود ، الحالة الوحيدة العادية تصير مثار دهشة وشك وحسد )) ص 102 .

تمر الأيام وتزدحم الصور ليغادره أبو ليث أيضاً .. أقرب أصدقاؤه (( مَم كان يعلم انه العشاء الأخير ، والكأس الأخيرة ، واللقاء الأخير .. ما أصعب الكلمة .. إنها تحفز الذاكرة بأزميل من ماس . ما أصعب وأجمل الأشياء والأعمال الأخيرة .. للكلمة فعل الرصاصة ، وللهمسة بوابة تعصف .. مَن كان يعلم )) ص 105 .  

وفي الصباح رحل أبو ليث رحلته الأخيرة .

ورغم هذهِ الدوامة القاسية التي تواجهه يوماً بعد آخر يقاوم _ البطل / السارد الذاتي _ بروح صلبة قوية بالإيمان ليجتازها .. لم ييأس ولو للحظة ، لأنهُ يؤمن بأن " كل حال يزول " لم يزل قوياً .. يريد أن يقود هو الحالة وأن لا يدع أي ظرف يقوده مهما كان . ما زال يحلم بالحب .. الحب الطاهر ، البريء الذي يغسل الكثير من الذنوب .

يلتقي بنسمة ( الأرملة الجميلة ) ويرتبط معها بعلاقة حب لا أدري كيفَ أصفها ، فبقدر ما فيها من خيال فيها من واقع !

(( ماذا فعلت نسمة بي .. إنها تزرع الفوضى في قلبي ، وتسرق الهدوء لنفسها .. أقفز بين الحب والذكرى والألم وسيول المطر الأسود ، فأجد نفسي طافحاً بالهموم والانشغالات وخاوياً من فعل يتناسب مع ما يحدث فيّ )) ص 195 .

إنها أشبه بالحلم بالنسبة له أو رئة يتنفس من خلالها !

(( لم تسألني أبداً إن كنت أحبها ، ولا أنتظر منها أن تسأل .. إنها تعتصر الحب في قلبي كما تعتصر اسفنجة مشبعة بالماء .. ولم تقل أبداً انها تحبني ، ولا أنتظر منها أن تقول .. إنها تمنحهُ وتغرقني به .. عبر طقوس مضرجة بغلالة من سحر )) ص 203 .

في ميزان الحب لابد أن تكون الكفتان متعادلتان .. ولم تكن هذه العلاقة كذلك ! هو يدعوها للحب بحثاً وخلاصاً .. وهي تريد صناعة ذكريات جديدة !

وقمة العمل _ بنظري _ كانت في النهاية ( 43 ) فنتازيا رائعة تتراصف الشخصيات المحورية في الرواية لتحاكم البطل في محكمة شبه سريالية ! أعجبتني جرأتهُ .. فما فعله شيء صعب .. صعب جداً أن يكون الإنسان قاضياً ومتهماً في نفس الوقت !

لم يبق سوى أن أقول : ان البنية السردية في رواية " برج المطر " متطورة بشكل فني ، جميل يكشف تمكن الأستاذ أمجد توفيق من أدواته الروائية ذات التقنية العالية على مستوى بناء الحدث في الزمان والمكان . بالإضافة إلى أنهُ يملك _ وهو ليسَ بالغريب عليه _ حساً شعرياً آسراً ، واسلوباً عذباً يمتاز بخيالٍ ساحر .. وشعرتها _ فعلاً _ قصيدة طويلة تحدثت عن نفسها .. ولأترك للقارئ متعة الاكتشاف !

أما لغتها ، فكانت موسيقى ناعمة كحركةِ ريح هادئة على سطح بحيرةٍ زرقاء ! ولسردها المتقن واسترسالها الهادئ ، العميق .. لم أشعر بأني أقرأ .. بل كنتُ أسمع " أمجد توفيق " وهو يحكي لي ! وهذا شرط من شروط الإبداع .        



حقيقةً .. لقد سعدتُ بقراءتي لهذا الأثر الروائي الرائع .. ولا أُغالي لو قلت : بأنها رواية لن تغادر ذاكرتي بسهولة . وإني تعلمتُ منها الكثير !!



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* " برج المطر " رواية لأمجد توفيق . صادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد / 2000 .

View gulizaranwar's Full Portfolio