كائن الفردوس





(( كائن الفردوس ))

طفولة بلا أعمار

بقلم : كُليزار أنور













قراءة

(( كائن الفردوس ))

طفولة بلا أعمار

بقلم : كُليزار أنور



الاقتدار على البناء يبدو من لحظة قراءتنا عنوان " كائن الفردوس " للقاص علي حسين عبيد .

وضعتني نصوصهُ في حالة دهشة ، قادتني بإحكام محسوب وبدقة إلى ما يريد أن يصل إليه. نصوصه متماسكة جداً بأسلوبها ولغتها وسردها المتقن .. أدهشتني – حقيقةً – نبرة إخلاصها وقوة تعبيرها لِما لها من حسٍ إنساني مِما يجعلنا نشارك أبطاله أحاسيسهم ومشاعرهم .

 (( تفاحة الخيال )) .

صبي صغير يقف أمام بحرٍ يدهشهُ بصمتهِ ووجههِ الأزرق وهو يمتد شاسعاً أمامه حتى يلتقي بعيداً مع السماء .. ويجذبهُ – وهو بهذا العمر الصغير – جسدٌ أنثوي صارخ . تمضي نحو البحر .. تدخل ماءه الأزرق البارد بثوبها الوردي الشفيف .. ويخطو نحوها ، وحين انتبـهت لـه  

" شهقتْ .. وأزاحت عن وجهها شعرها الصقيل المبلل ..ما الذي يريده هذا الطفل !! " ص 8 .

وتخرج .. ترفع خيمتها المركوزة في الأرض .. تطويها .. وتلملم حاجياتها ، تضعها في صندوق السيارة .. وترتقي سيارتها والصبي مازال يتابعها بحزن .. وحين تدير محرك السيارة ينهض ويخطو نحوها .. تتطلع نحوه وتخرج شيئاً من حقيبتها وتقدمهُ لهُ ، لعلهُ جائع ! وفي كل مرة يأتي إلى البحر ، لم يعد يرى تلك المرأة ثانيةً ، فالبحر ظل على لونه الأزرق وصمته وغموضه .. والتفاحة الحمراء التي أعطته إياه ذبلت !

 (( سيرة ذاتية لعربة الأسكيمو )) .

سيرة ذاتية لبائع مثلجات يدور في طرقات المدينة صيفاً . متعبٌ ، يتيمٌ ، ووحيد .. إلاّ أنهُ مازالَ يحلم ، رغم بؤس الظروف والحياة التي يعيشها .

 (( كائن الفردوس )) .

قصة في منتهى الروعة . كان لهُ الحق في أن يجعلها عنواناً لكتابهِ . إنها أشبه بالحلم ، فكم هو جميلٌ وصف الأحلام !

ما يميز أغلب قصص المجموعة .. قصرها .. وهذهِ نقطةٌ لصالح المؤلف . التكثيف عمليـة

ضرورية في كتابة القصة – بنظري – فالقصة الطويلة – أو قصدي المطولة – تُدخل الملل إلى قلب القارئ . علينا أن نقول كل شيء دفعة واحدة .. ونختفي ! وليبقى القارئ لوحده يفكر بما قلنا ويُكمل هو ما بين السطور .. وعلى هواه !

 (( كتاب الكْيذبان )) .

كتابٌ مزخرف بحروف مذهبة يجدهُ صدفة في حاوية قمامة . يُشبهه بقلعةٍ عالية الأسوار . يأخذه .. ويفتحه .. يتصفحه ورقة ورقة . ماذا يجد ؟! فتاة ملائكية الملامح .. تسحبهُ إلى أجواء فردوسية .. ويندهش حين تقول : " إنكَ الخلاص الذي انتظرتهُ منذ وقتٍ طويل " ص 35 .

وفي كل ورقة يقلبها يجد ما لم يجدهُ في سابقتها . في النهاية يغلق الكتاب ، ويُشعل عشرة عيدان ثقاب ليرميها في حاوية القمامة .. وراح يتابع شظايا ( الكْيذبان ) وصرخات استغاثة متواصلة لم تجد مَن يمد لها العون .

قصة (( كتاب الكْيذبان )) بوصفها الغريب المسحور .. كانت أشبه بقصص ألف ليلة وليلة !

 (( نتوء الشيطان )) .

فازت بالجائزة الأولى لمسابقة القصة التي أجراها نادي الجمهورية عام 5 199 . ونُشرت في مجلة " الأقلام " عام 1999 . باختصار شديد .. انها قصة حرب !

 (( رائحة الأب )) .

علاقة روحية أو مناجاة سامية بين طفلٍ وصورة مثبتة على جدار محاصرة بإطار مربع من الخشب . وفي الليل ، في لحظات الصمت التي تُطبق على البيت يُحدث أباه وهو في حضن أُمه النائمة ، يسأله : " لماذا تأخرتَ يا أبي .. أعوام وأنت تطل من خلفِ زجاجةٍ صغيرة بلا صوت أو حركة " ص 64 .

ويُباغت الطفل بحركةِ العينين والشفتين والذراعين القويتين اللتين كانتا ترفعانه من الأرض وتشدهُ إلى صدرٍ واسع عريض .. ويستنشق رائحة مميزة لم يجدها في أي جسدٍ آخر ضمهُ .. كم هو بحاجةٍ إلى هذهِ الرائحة الزكية التي افتقدها .  

كل هذا كان مجرد أطياف خيال ، لأنهُ حين نهضَ من حضن أُمهِ وتقدم بخطى لاهثة ، اصطدم بالجدار .. ولم يجد في الصورة سوى الصمت !

وفي اليوم التالي عندما يذهب إلى المدرسة .. يبدأ القصف .. وإلى أن تنتهي الغارة يعود إلى البيت ، لكنهُ لا يجد منه سوى ركامٍ من الأنقاض .. وتراءت لهُ أُمه في صورة تجلس إلى جانب أبيهِ بحلةٍ جميلةٍ بيضاء !

 (( تفاحة الخيال )) .

لا نعرف ما مسألة القاص مع التفاح ! أكيد .. انهُ يرمز بـ( التفاحة ) لشيءٍ معين ! استخدمها في أكثر من مرة وفي أكثر من قصة . ماذا يقصد ؟ هل هي تفاحة آدم ؟!

 (( تناسل الأسوار )) .

قصةٌ رائعة . للقاص علي حسين عبيد قدرة كبيرة على الاسترسال في السرد . قوة الاسترسال هذهِ تجعل القارئ يُصدق ما يقرأ وكأنهُ حدثَ فعلاً في حياة الكاتب . هذا الوهم الذي يخلقهُ الكاتب لدى القارئ إثبات لجدارة القاص فيما يكتب !

 (( باقة ورد )) .

كانت فعلاً باقة كلمات وردية .. وبطاقة فرحٍ قصصية !

 (( فضاءات الوهم )) .

أربعة فضاءات .. بدتْ كقطعٍ شعرية راقية بحزنها وشفافيتها الشديدة .

*          *          *

وإجمالاً عن كل ما قرأت في " كائن الفردوس " أقول : بأن القاص يمتلك خيالاً خصباً ، واسعاً ، عميقاً .. وهذا يعطيه فرصة كبيرة للتحليق نحو آفاق بعيدة في القصة .

وهناك ثلاث سمات مشتركة توشم أغلب قصص المجموعة ، ولم يتعمد القاص في إيجادها ، لأن القصص مكتوبة ومنشورة في فترات متباعدة ما بين (1982 – 2000 ) ولكل قصة بُعدها الزماني والمكاني والدرامي الخاص بها . فهل تعكس هذهِ السمات دلائل رئيسية في تحليل نفسية الكاتب ؟ ربما !

في أغلب قصصه هناك (طفل ، ولون أزرق ، وامرأة ) ! امرأة من نوعٍ خاص ( فتاة ملائكية الملامح ) . وهذا كله يشيء ببراءة روحه كقاص وإنسان !

وأخيراً أقول :

" كائن الفردوس " . قصص مكتوبة بحسٍ إنساني مرهف ، باهر .. تجذبنا بقوة اسلوبها الراقي المتميز بتميّز القاص في الكتابة ، فهو يملك ناصية اللغة ويعرف كيفَ يوجه الألفاظ دونما ترهل في البناء اللفظي لعبارة خطابه القصصي !

 " كائن الفردوس " . مجموعة قصصية للقاص علي حسين عبيد . صادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد – 2001 .

View gulizaranwar's Full Portfolio