الغرغرينيا .. ناطحة سحاب قصصية

 

 

 

قراءة في قصة ( الغرغرينيا ) للقاص محمد الكاظم
( الغرغرينيا ) ناطحة سحاب قصصية
  كُليزار أنور  

هل يكفي أن أقول عن قصة ( الغرغرينيا ) بأنها : قمة .. وبكل ما فيها ؟ قمة بفكرتها الناضجة وأسلوبها السلس ، العميق .. قمة بلغتها وبنائها الحكائي .. قمة بذكاء رمزها ! فالقصة اليوم لم تعد بناء حكائي يتكون من بداية وعقدة ونهاية .. ولم يعد القاص _ والعراقي بالذات _ يحلم أن تكون قصته بناءً متواضعاً .. لا .. انهُ يحلم .. ويطمح أن تكون قصته ناطحة سحاب !
من خلال قراءاتي ومتابعتي لأغلب الدوريات العربية والمغتربة .. وجدتُ بأن النَص العراقي يمتاز بخصوصية مميزة ومختلفة _ بكل شيء _ عن باقي النصوص العربية المنشورة شكلاً ومضموناً ونضجاً وإبداعاً .. وخاصةً الآن .. هل هو الألم العراقي ؟ ربما ! " فالآلام العظيمة تلد الأعمال العظيمة " . هكذا قال غوته !
لنعد إلى قصة ( الغرغرينيا ) . ونبدأ مع ما حدث في البداية :
" دخل رجل إلى بيته وهو متعب وينضح عرقاً . وعلى يديه آثار خدوش دامية . وكان يحمل قطاً أسود في ذيله نقطة بيضاء .. توجه بصمت إلى المطبخ ووضع القط على الأرضية .. وبعد ساعة خرج مسرعاً لينادي زوجته ..
_ انظري ماذا فعل هذا العفريت الصغير ما أن وضعته على أرضية المطبخ حتى فتح عينيه ، ورفع شاربيه وأمسك بالفأر الأول وقتله ثم أمسك بالفأر الثاني وقتله ثم أمسك بالفأر الثالث وقتله ثم أمسك بالفأر الرابع وقتله ثم أمسك بالفأر الخامس وقتله !
رفعت المرأة حاجبيها غير مصدقة وخرجت .. ما حدث بعد ذلك :
ذهبت المرأة لجارتها وقالت لها : اسمعي ولا تقولي لأحد لقد دخل عليّ زوجي بقطٍ أسود في ذيله نقطة بيضاء ، وما أن وضعه على الأرضية حتى فتح عينيه ورفع شاربيه وأمسك بالفأر الأول وقتله وأمسك بالفأر الثاني وقتله ثم أمسك .. .. .. ! " .
وكما فعلت هي فعلت جارتها .. رفعت حاجبيها غير مصدقة وأخبرت زوجها العائد إلى البيت وهو معروق الوجه محمر العينين وقالت له بعد أن أخذت منه البطيخة التي يحملها : " هل تعلم أن جارنا قد دخل على زوجته بقطٍ أسود في ذيله نقطة بيضاء ، ما أن وضعه على الأرضية حتى فتح عينيه ورفع شاربيه وأمسك بالفأر الأول وقتله ثم أمسك .. .. .. ! " .
دهشته كانت أكبر من دهشة زوجته ، لأنه لم يرفع حاجبيه فقط غير مصدق وإنما فتح فمه .. وخرج . " توجه الجار فوراً إلى المقهى التي كانت تزدحم بالدخان والثرثرة العقيمة ، انتحى بأصدقائه جانباً بعد أن قطع عليهم مباراة الدومينو وقال بصوت هامس : هل تعلمون أن جاري قد دخل على زوجته بقط أسود في ذيله نقطة بيضاء ، ما أن وضعه على الأرضية حتى فتح عينيه ورفع شاربيه وأمسك بالفأر الأول وقتله ثم أمسك .. .. .. !
رفع الرجال حواجبهم غير مصدقين وخرجوا ، وعاد كل منهم إلى بيته بقط أسود في ذيله نقطة بيضاء ! " .  
ومن وراء جريدته التقليدية سمع أحد المخبرين بالحكاية فرفع تقريراً سرياً للغاية لعمدة المدينة . وهو أيضاً كسابقيه عندما خرج .. عاد إلى بيته بقطٍ أسود في ذيله نقطة بيضاء . والعمدة فعل نفس الشيء بعد أن صرف كل مرافقيه وحراسه . قرأه بروية ووضع خطاً ( بالقلم الأحمر ) تحت العبارات الحساسة . " ثم باشر بكتابة مذكرة بالحادثة إلى المحافظ قال فيها :
سري وعاجل للغاية ..
لقد وردنا عن طريق أحد رجالنا الموهوبين أن رجلاً دخل على زوجته بقطٍ أسود في ذيله نقطة بيضاء ، ما أن وضعه على الأرضية حتى فتح عينيه ورفع شاربيه وأمسك .. .. .. ! وهكذا أصبح الطلب متزايداً على القطط السوداء ذات النقطة البيضاء في الذيل ، رغم أن أعداد الفئران مازالت تتزايد ونحن بانتظار أوامركم .. .. العمدة " .
والعمدة أيضاً أوصى فراشه بشراء قط وبهذهِ المواصفات . وتناقصت القطط السود في أثر ذلك وبيعت بالأسواق السوداء وبأسعار جنونية وصار لها دلالون ومحتكرون ومقاولون _ كتجار الحصار لدينا _ ويا ليت بقي الأمر على هذا الحال ، فقد امتلأت الأسواق بقطط سوداء مزورة ، فالمعامل الغير مجازة أرادت أن تستفيد .. إذ قامت بوضع نقطة بيضاء في ذيول القطط بعد صباغتها .. والمشكلة تفاقمت أكثر بعد أن دخلت نسخ مقلدة من القطط المنقطة الذيول جاءتهم من دول شرق آسيا بعضها يحمل ماركات وبعضها لا يحمل أية علامة تجارية !  
وكان لابد أمام هذهِ الأزمة الصعبة من فعل شيء .. وجرت الاستعدادات لعقد مؤتمر اقليمي عام يحضره كل الوجهاء من الرئيس إلى مندوبي الصحف ووكالات الأنباء . " وفي جلسة المؤتمر الأولى نهضَ المحافظ بعد أن استأذن الرئيس في الكلام وقال :
أيها السادة المحترمون : هل تعلمون أن رجلاً في المحافظة التي أتولى إدارتها دخل على زوجته بقط أسود في ذيله نقطة بيضاء ، وما أن وضعه على الأرضية .. .. .. !
رفع الحاضرون حواجبهم غير مصدقين ، وأخرجوا بعد توقيعهم على مشـروع قـرار
يقضي بجعل القط الأسود رمزاً قوياً بوضع صورة القط على العلم .. " .
وتغيرت أمور كثيرة في البلاد بعد هذا القرار .. سأكتفي بذكر البريء منها فقط !
 كتب أحد الروائيين رواية من ثلاثة أجزاء عن مغامرات قط أسود بنقطة بيضاء في الذيل ، وعالج الروائي تلك المغامرات معالجة ملحمية جعلت من بطل الرواية _ القط _ شخصية ذات سمات أسطورية .
 نشر كاتب رومانسي جداً كتاباً عن الفرق بين الحب العذري عند القطط السود المنقطة الذيول وبين القطط المزورة .
 حكمت المحكمة العليا على أحد الصحفيين بالنفي لأنهُ قال في أحد البارات أن الفئران أخذت تتزايد في الفترة الأخيرة رغم وجود القطط السود ، كما تم سحب هويته الصحفية الصادرة عن مؤسسة قططنا الصحفية .  
 ازدادت مبيعات سجائر ( كريفن ) لأنها تحمل صورة قط أسود ، حتى بين غير المدخنين الذين يحملون العلبة كتعويذة .
 صار المواطنون يسمعون عن مهرجانات غريبة مثل مهرجان السنور الداكن للشعر الحديث ، وملتقى الهر لأغنية الشباب ، ومنتدى مسرح القطط .
 منعت لجنة الرقابة السينمائية فلماً بعنوان ( الهر المكافح ) لأن الفلم يتحدث عن كفاح قط أسود ، وعن بحثه المتواصل في براميل القمامة ليوزع غنائمه بعدها على الآخرين ، وقد اعتبرت الرقابة هذا الفلم دعوة تحريضية لِما فبه من أفكار شيوعية .
وأمور أُخرى أقوى وأشجع وأجرأ .. مما دفع حماس الرئيس المنتخب الجديد لطلب عقد جلسة استثنائية لهيئة الأمم المتحدة لطرح مشروع قرار يقضي بإعداد ميثاق دولي لحقوق القطط!!  
وعقدت هذهِ القمة التي حضرها جميع رؤساء الدول المنطوية تحت لواء هيئة الأُمم المتحدة ، ومن الطبيعي أن يحضرها آلاف الصحفيين ومن كل بقاع الأرض ، والقنوات الفضائية والأرضية. وحضر مندوبون عن المنظمات العالمية المعروفة والغير معروفة !
وبعد أن هدأت المراسيم رحب الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة بالوفود المشاركة ، ثم ألقى كلمة شرح فيها الهدف من هذه الجلسة الاستثنائية وأشار إلى أهم محاورها في ضوء المتغيرات الجديدة .. ولم يجلس إلاّ بعد أن لـمّح إلى التوصيات التي تتضمن حقوق القطط !
وفي ختام القمة . " تم تكريم وفد تلك الدولة الصغيرة التي اكتشفت هذا الفتح الإنساني الجديد وتم الاستماع إلى القصة الأصلية من فم الرئيس المتحمس لأن وكالات الأنباء قد ضخمت الحدث .
قال الرئيس بفخر : أيها السادة .. في البداية دخل رجل على زوجته بقط أسود في ذيله نقطة بيضاء وما أن وضعه على الأرضية حتى فتح عينيه ورفع شاربيه .. .. .. ! " .
واستلم الرئيس جائزة ( القط الأسود للسلام ) بعد أن تم تغيير اسم تلك الدولة الصغيرة من جمهورية ( س ) إلى ( كات ستان ) . ولم يعلن عن هذا فقط ، بل ثُبت في السجلات الرسمية !
إلى هنا .. وصلت القصة إلى ذروتها .. أوصلها لنا القاص بذكائه وسلاسة اسلوبه وسرعة بنائه الحكائي المتقن التفاصيل .  
فهل انتهى الأمر ؟ بالطبع .. لا !  
لم يكتفِ القاص بالذروة .. لأنهُ متأكد بأنه يكتب لقارئ ذكي لم يستعمل ( المصاعد الكهربائية ) للوصول إلى فهم قصته وادراك مضمونها ، بل استعمل ( السلالم ) وصعد معه درج .. درج !
وهذهِ السلالم قادته إلى ما بعد الذروة التي يريدها كل من الكاتب والقارئ معاً . فكيف كانت ؟!
" الحقيقة :
بعد مدة اكتشفت وكالات المخابرات ذات الخبرة الطويلة في هذه المجالات أن الرجل عاد إلى بيته وهو متعب وينضح عرقاً ويحمل قطاً أسود في ذيله نقطة بيضاء . دخل المطبخ وهو يشعر بالغبطة وما أن وضعه على الأرضية حتى فتح عينيه ورفع شاربيه ثم .. نام .
وتبين أن الرجل قد وعد زوجته بالقضاء على جميع فئران البيت . وعندما رأى أن القط لم يفعل شيئاً غير النوم ، وبدافع الخجل من زوجته حمل المقشة وبقي ينتظر أمام جحر الفئران ، وهكذا أمسك بالفأر الأول وقتله ثم أمسك الفأر الثاني وقتله ثم أمسك الفأر الثالث وقتله ثم أمسك الفأر الرابع وقتله ثم أمسك الفأر الخامس وقتله ! " .
 

View gulizaranwar's Full Portfolio