ما حدثَ في قرطاج

Folder: 
قصص قصيرة

قصة قصيرة....... كُليزار أنور

ما حدثَ في قرطاج 


 قبلَ أن أدخل أنظر من الخارج إلى الشرفة ، فإن كانَ ذلك المكان مشغولاً أعود أدراجي أو أذهب إلى مكانٍ آخر . وإن كان خالياً فاني أصعد السلالم بسعادة وثقة . أجلس على كرسي وأضع حقيبتي على الكرسي الآخر ، وكتابي ومجلتي على المنضدة . لا أدري لِمَ يحلو لي الجلوس هنا بالذات وفي كل أشهر السنة ما عدا فصل الشتاء ، فهذهِ المنضدة تضاف إلى مناضد القاعة .. ولأني زبونة دائمة فقد اقترحتُ على صاحب الكافيتريا أن يضعها بمحاذاة باب الشرفة من الداخل.. وحينَ حضرتُ المرة التي بعدها وجدتُ اقتراحي منفذاً ، فشكرتهُ على سعةِ صدره.
 قاعةٌ واسعةٌ بجدران بيضاء تُزينها لوحات كبيرة مع ديكورات أنيقة جداً.. والجميل انك لا تسمع فيها سوى الموسيقى الهادئة التي تجعلك تنسى الحصار ومآسيه وما مر بنا من حروب وما يمر بالعالم من كوارث . في الشتاء أطلب الحليب الساخن، وفي الصيف عصير الليمون.. هكذا تعودت.. لا أُحب التغيير. وما أن أجلس لدقائق حتى أجد طلبي مقدماً مع بسمة رضا وترحيب من فم النادل.
 ذهبَ الشتاء، وحل صيف آخر.. عدتُ إلى مكاني.. تواجهني السماء بكل سعتها ولطفها. وفي إحدى المرات استغربت حين نظرتُ إلى الشرفة، فقد وجدتُ مكاني مشغولاً.. وتكرر الشيء نفسه مرة بعد أُخرى. مَن هذا الذي احتلَ مكاني؟! الكافيتريا محل عام وليسَ لي أي حق أن أطلب من أيٍ كان أن يتخلى عن المكان المحبب لي. صعدت.. قلت لنفسي: قد يغادر بعد قليل، فجلستُ في مكانٍ آخر وعينيّ على الشرفة أكثر مما على سطور الكتاب الذي أقرأهُ. شربت العصير وخرجت. وفي طريق العودة إلى البيت قررت تغيير مواعيدي!
*               *              *
 نظرتُ إلى الشرفة.. وجدتها خالية ، فأسرعت بالصعود وجلست بعد تنهد وكأني قد عدتُ إلى وطنٍ فارقتهُ منذ سنين ! وحضرَ ذلك المستعمر.. هل تفاجأ بوجودي ؟! وأحسستُ لحظتها بزهو النصر، فقد حضرتُ قبله وانشغلت بقراءة كتابي بنشوة .
 أعجبتني مرونته بعدها، لأنهُ احترمَ رغبتي واختار مكاناً آخر.. وكلما تقابلت نظراتنا حيّت بعضنا بالابتسامة وحدها . أيكون مجيئه من أجلي. أم هي مجرد صدفة؟! ربما هو لا يعلم بأن وجوده أينع بداخلي سعادة لا توصف!
 _ أتسمحين لي أن أجلس ؟
 ترددت قبل أن أقول: تفضل . وأهز رأسي بالموافقة دونَ أن أرفع نظري إليه، ولكني قلتها أخيراً وببرود: تفضل.
 بدأ الكلام بصوتٍ خافت وببطء وكأنهُ يزن كل كلمة يلفظها :
 _ المعرفة هي باب الإنسان إلى الحوار والحب !
 لم أرد.. بل تعمدتُ إطالة الصمت للتفكير بجدية بما يتفوههُ هذا الإنسان. وأتى النادل بفنجانين من القهوة.. وضع الأول أمامي والثاني أمامه، فنظرتُ نحوه متسائلة، فقال:
 _ القهوة مع القراءة متعة .
 وقبلَ أن أرد .. أكمل :
 _ برغبتي تركتُ لكِ المكان . 
 فأجبت بحدة :
 _ وهل هو ملك لأحد ؟
 _ ليسَ ملككِ أنتِ أيضاً ، فكلانا اعتاده .
 لا إرادياً وضعتُ كتابي ومجلتي في حقيبتي ونهضت.. وقلت ببراءة مغلفة بالصدق:
 _ ليبقَ لك إذاً .
 ندمت على تصرفي بعد أن غادرت.. وكم من مرةٍ نندم!
*               *               *
 شدني الحنين بعد فترةٍ ليستْ بالقصيرة ، فقصدتُ الكافيتريا.. وللمرة الأولى لم أنظر إلى الشرفة، ولم تكن نيتي التوجه نحوها.. لكني غيرتُ رأيي عندما وجدتهُ يتخذ الركن المواجه للسلالم مُتظاهراً بتقليبِ صفحاتِ مجلةٍ أسبوعية وكأنهُ يترقب وصولي. لم أستطع النظر إليه.. أدرت وجهي.. وأخذت الطريق نحو الشرفة.
 يسرع قلبي خافقاً إذْ اكتشفتُ أن أحدهم يراقبني. جلست.. وما أن أخرجتُ كتابي من الحقيبة سمعتهُ يقول:
 _ أعتذر. لكن من الصعب أن نوضح رأينا في أي شيء بكلمات قليلة.
 لم يتح لي الرد . جلس.. ومدَّ يده نحو الكتاب :
 _ رائع.. تقرئين  لماركيز .. وماذا ؟؟
 أخذهُ من يدي ..
 _ " خريف البطريرك " !
 أغمضَ عينيهِ وكأنهُ يسعى إلى التقاطِ أفكارهِ .. ثم أضاف :
 _ إني أقرأ كثيراً .. وبنظري السعادة مضمونة طالما في الدنيا كتب!
 لم أطقْ تحّمل ما يقول، فقلت بنبرة سخرية :
 _ لهذا تقرأ _ فقط _ المجلات الأسبوعية .. الفنية !
 انفجر ضاحكاً من كلامي ، وخُيلَ لي بأن _حتى_ الذين في الشارع قد سمعوا صوت ضحكته.
 _ لماذا تضحك ؟!
 _ أرقى أنواع الفكاهة هي التي تتفجر من قلبِ الموقف .
 _ أية فكاهة يا أستاذ ؟!
 _ أنا سعيد .. سعيد جداً .. لأني أَثرتُ انتباهكِ .
 توقف .. وانتظر الإجابة .. لكني لم أفعل . وليغير الموضوع سألني:
 _ وماذا أعجبكِ فيه ؟
 قالها بصوتٍ هادئ، عميق يدل على شخصيةٍ قوية . بدا لي مرهف الملامح، ذو عينين ضيقتين، لامعتين . لأكن مرنة _بعض الشيء_ وأترك العناد، فأجبتْ:
 _ سرد ماركيز في " خريف البطريرك " يكفي للإجابة على كل أسئلة الرعب التي حولنا!
 _منذ أن تعرفت على الكلمات تعلمتُ كيفَ نهرب من الواقع عبر الكتاب.. والأدب دائماً أجمل، لكنه مخيف أكثر.. مفجع أكثر من أي خيال!
 _ ماركيز لا يصف الوجع.. بل يرعبنا بوصف الجرح.. وسرده يكفي.
 أسند خده على كفه الأيمن، وراح ينظرني ملء عينيه.. ولم يعلق بكلمة واحدة، فأكملت:
 _ وبنظري.. هي أجمل رواية قرأتها له.. وهي أقوى بكثير من رواية "مائة عام من العزلة" رغم فوزها بجائزة نوبل!
 _ لقد قرأتها منذ سنين.. لكن كلامكِ عنها شوقني لقراءتها ثانيةً. أعيريني إياها وسأعطيكِ كتاباً رائعاً.
 _ ماذا ؟
 _ كتاب لبودلير .
 _ وأي واحد ؟
 _ " أزهار الشر " .
 _ لا أُحبهُ .
 _ مَنْ .. الكتاب أم الكاتب ؟؟
 _ الاثنين .
 فابتسم لكلامي :
 _ بودلير .. أشعر شعراء فرنسا .. لا يُعجبكِ؟!
 _ هذا رأيي الشخصي .. وخاصةً " أزهار الشر " .
 _ ولماذا ؟
 _ لأنهُ يُمجد للرذيلة !
 سكون رائع هيمنَ على جلستنا.. وبابتسامة رجاء قال :
 _ تفضلي .
 ولم يدعني أُعبر عن استغرابي ، فأردف :
 _ كلما أُعجبتُ بامرأة أهديتها ساعتي ، كتذكار!
 أخذتُها معي إلى البيت.. وضعتُها تحتَ وسادتي قبلَ أن أنام. وامتدت يدي إليها ما أن استيقظت.. لكني لم أجدها! ارتديت ملابسي بسرعة.. وذهبتُ إلى هناك.. استغربتْ.. لم أجد كافيتريا ((القرطاج)) بل محلاً لبيع القرطاسية!!


www.postpoems.com/members/gulizaranwar

 

View gulizaranwar's Full Portfolio