عَلى عَجَل

Folder: 
قصص قصيرة

قصة قصيرة....... كُليزار أنور

على عَجَل


 لقاؤنا في ذلك اليوم هل كانَ صدفةً أم قدراً مكتوباً.. أو الاثنين معاً.. التقينا لتخلق تلك اللحظة الأولى في رحمِ حبٍ قد يكون كبيراً.. استدرتُ بعينيّ نحوه.. وإذا بعينيه الواسعتين تتحدثان بودٍ.. فيهما شوق وحنين وأمل وقصص كثيرة. وبعد تعرفي عليه باسبوع فاتحني بموضوع الارتباط.
 _ لماذا الاستعجال؟ دعنا نتفاهم!
 _ التفاهم يحدث بلحظة واحدة.. وهذا قد حصل.. وإن لم يحدث بلحظة واحدة فلن يحصل العمر كله.
 أقنعني برأيه.. وتزوجنا بعد شهر.. 
 _ الزواج مسؤولية، والأولاد مسؤولية أكبر.. وخاصةً في هذا الزمن الصعب المتقلب.. دعنا نتخرج ونكوّن أنفسنا.. وبعدها نفكر بموضوع الأطفال لكي نكون بقدر مسؤوليتهم.
 _ طفل واحد ونستقر بعدها، فالزواج بدون أطفال كحياةٍ بدون عقب.
 وأقنعني للمرة الثانية.. وبعد سنة من زواجنا شعَ ضوء باهر في حياتنا.. أصبح لنا طفل (أنمار) زهرة ناضرة نشرت عطرها على جو بيتنا منحنا سعادة إضافية وحركةً ومرحاً لذيذاً.
 تخرج مازن قبلي والتحق بخدمة العلم.. أما أنا فوقتي كله كانَ موزعاً بين دراستي وبيتي وابني.. كنتُ أشعر بالتعب والإرهاق في بعض الأحيان.. ولكن يكفي أن أضم أنمار إلى صدري لأنسى كل ذلك.. كنتُ سعيدة.. وكأن الدنيا منحتني رضاها. 
 وإلى هنا والأمور رائعة والقصة تبدو عادية جداً.. فهل يمكن للكلمات أن تقول ما قد حصل؟!
 يفتح الخيال شقاً صغيراً.. فتتدافع الأصوات داخل الشق.. أصغي لعلي أُميز.. يكبر الشق.. وتتمزق صفحة الخيال.. وتنهدر الصور والأصوات كسيلٍ عرم مزق كل سدود الزمن من حولي.
 مَن مِنا لا يتذكر ذاك النهار من يوم 15/ 1/ 1991. كُنا معاً _ فقد كان في إجازةٍ دورية_ كانَ جالساً أمام المدفأة يكتب شيئاً ويدسهُ في كتابٍ بين يديه.. هيأتُ حقيبته.. لا أدري لِمَ انهمرت دموعي حينها.. حاولتُ أن أُكفكفها بيدي قبل أن يراني، فتعود تنهمر.. اقترب مني.. ضمني بذراعيه.. شعرتُ بأنفاسه الحارة:  
 _ لم أراكِ تبكين من قبل!
 _ لا تنسى انها ليلة حرب.
 _ أتتصورين بأنها ستحدث؟
 _ نعم.
 _ أما أنا .. فلا! 
 ارتعشَ قلبي بألم.. أراد أن يُضحكني.. لكن شفتاي لم تقويا على الابتسام.. وسدتُ رأسي المتعب على كتفهِ، وأغمضتُ عينيّ.. طمأنينة سرت في أعماقي كخدرٍ يمشي في العروق منحني دفئاً وأماناً للحظات. وأتانا صوت بكائهِ.. تقدم نحوه قبلي.. رفعهُ إلى صدره.. تنفس بعمق.. قال: أُريد أن أستنشق أنفاسهُ وأحتفظ بها في صدري إلى الأبد. قبلهُ بين عينيه وهمس في أُذنه: حينَ تكبر سأحكي لك حكاية بلدنا!
 ودعتهُ في المساء.. سكبتُ الماء خلفه ليعيدهُ إلينا مرة أُخرى.. إنها حكمة قديمة _وأظنها ما عادت تنفع_ فالماء جارٍ.. يذهب ويعود.. وأوصلتهُ إلى نهاية الشارع.. وقفتُ إلى أن اختفى شخصه من أمام عينيّ.
 دخلتُ البيت.. كان أنمار نائماً.. قبلتهُ .. كانت أنفاسهُ هادئة، منتظمة.. وجه جميل مستسلم كلياً لبراءة عالم مفقود.. وأتذكر كلماته (كم أُحب النظر إلى وجوه الأطفال وهم نائمون). أخذتني التفاتة إلى الكتاب الذي كان بين يديه قبل ساعات.. انتبهت.. انهُ كان يكتب شيئاً.. بفضول سحبتهُ من على الأريكة.. وفتحتهُ.. وجدتُ بين صفحاته ورقة صغيرة مطوية قرأتُ عليها هذهِ الكلمات: 
 ((بدأ العد التنازلي للساعات الأخيرة لقيام الحرب.. فما هي إلاّ ساعات قليلة ويبدأ خيار الحرب.. وبالضبط بقي لنا "خمسة عشر ساعة". طبول الحرب تدق من حولنا ونحن هنا قلوبنا مطمئنة رغم ما نسمعه من نواقيس تدعو لها.. الحياة عادية جداً لحد الآن.. وما اليوم إلاّ يوم آخر يضاف إلى أيامنا.. هل يا ترى ستحدث الحرب؟ سأُغادر بعد قليل إلى الجبهة.. إلى حفر الباطن.
ليكن الله معَ وطني..)).
 مازن   الثلاثاء   15 /1 / 1991  الخامسة عصرأ 
 لم أستطع النوم في تلك الليلة.. كل حواسي مستيقظة.. عيناي كانتا مثل بندول بين مهد ابني والساعة..
 ودقت ساعة الصفر.. "ولعتْ الدني" كما تقول فيروز!


www.postpoems.com/members/gulizaranwar

 

View gulizaranwar's Full Portfolio