غسق الكراكي..رواية رجل مغادر في زمن الحرب









غسق الكراكي

رواية رجل مغادر في زمن الحرب

كليزار أنور

للحرب وجهان: وجه بشع، متوحش، مؤلم ووجه انساني بحت والإنسانية والتوحش وجهان لعملة الحرب!

كل منا نظر إلى الحرب من زاويته وكتب، فالحرب لم تكن مجرد توظيف روائي في كتاباتنا بل هي الحقيقة الوحيدة التي أحرقت نصف أعمارنا وشبابنا!

(غسق الكراكي) بناء حكائي متعدد التقنيات فبنية السرد في الرواية لم تقتصر على نوع معين من حيث العلاقة بين الراوئي والسارد الذاتي والبطل الموجود وغير الموجود الذي كان في كثير من الأحيان هو السارد- رغم غيابه- وعلاقته بالأحداث والزمان والمكان.

تبدأ الرواية بضمير المتكلم/ السارد الذاتي يتحدث عن كمال (بطل الرواية) الذي كان حلم حياته ان يكتب رواية (آه... من يترك رواية تقرأ وتحكى فإنه لا يموت أبدا)-ص11-

لكن كمال استشهد، غادر دون أن يكتب روايته وبعد سنة على غيابه يحاول السارد ان يكتب رواية كمال ليحقق له الفرصة التي سلبتها منه الحرب فقط ليثبت ان كمالا قد عاش. بسبعة أسطر لا غير يلخص السارد حياة كمال منذ ولادته في (السعدية) إلى لحظة استشهاده (وهو يقذف الأميركان في ساعة مطر زيتي بالقنابل اليدوية في الكويت)-ص13-

وفي عصر سنويته يتسلق النخلة ويدور حول النافورة الخضراء -كما كان يسمي تاج النخلة- ليبحث عن مفتاح صندوق كمال، يلتقطه ويضعه في جيبه.

(لا تتوقع العثور على كنز سليمان!ولماذا تفترض أنني سأفتح صندوقك يوما ما؟)-ص15-

ويفتح -السارد الذاتي- الصندوق الذي لم يفكر أي منهم بفتحه منذ استشهاده قبل سنة ليجد فيه بقايا رجل مغادر!

اثنتا عشرة رسالة مربوطة بشريط أحمر، ثلاث رسائل منها تنبئ عن محطة مجهولة في حياة (كمال)، المرأة ذلك المجهول دائما في نظر الرجل! إذن الرسائل من امرأة تدعى (مها) ومن برلين الغربية، لم تدون عنوانها الكامل كي لا يرد عليها كمال، من هي مها يتساءل السارد الذاتي، ماذا كانت تعني له وماذا كان يعني لها؟! أنه لا يعرفها ولم يكلمه عنها رغم أنه صديقه وأبن عمه ويعيشان في مسكن واحد ويتقاسمان غرفة واحدة!

هذه الأسئلة أدخلت مها في نسيج الرواية، رواية كمال عسى أن تكشف لنا ما لايعرف عن حياته وتاريخه الشخصي فلكل إنسان ومهما كان واضحا مساحة صغيرة أو كبيرة لا يحب ان يطلع عليها الناس، حتى أقرب الناس إليه!

ومع الرسائل صور (كل صورة نافذة تمنحك طواعية سر فتحها إن لم تضلك)-ص41-

ست صور منها يستحوذ عليها الأسود والأبيض ودرجاتهما، ست صور تجمع كمال بسارة وسارة هي أخت السارد الذاتي (محمد).

الألبوم يحوي صورا كثيرة كلها لكمال مع السارد، مع سارة، مع الأصدقاء في المدرسة، في الجامعة، في الجبهة ويقف كثيرا عند الصور التي التقطها في الجامعة، يرصد هذه الصور -التي سبق أن رآها- بعين ثالثة لعله يغور إلى أعماقها من خلال اللحظات الت توقف فيها الزمان للحظة واحدة فكانت الصورة.

ويلاحظ ما لم يلحظه سابقا، تقع عيناه على فتاة (أيتها الشقية الجميلة، ترى من يلاحق الآخر؟ إنهما قريبان دائما، متلاصقان أحياناً)-ص46-

ويتساءل -مع نفسه- أهي صاحية الرسائل الثلاث الساخنة؟!

في حياة أي رجل هناك امرأتان -ليست قاعدة- لكنها على الأغلب امرأتان -واحدة قريبة وواحدة بعيدة- وبين القريبة والبعيدة يكون الصراع الحاد في حياته ونفسيته وروحه.

ومع الرسائل والصور أوراق (تلفحك من هذه الأوراق جمل مطلسمة، مقنعة، تسعى إلى الإخفاء والمواربة وتسعى أحيانا إلى بعض الوضوح فهو يعطيك خريطة من الكلمات -بينها كلمات أو جمل بكاملها مشطوبة -ومفاتيح لفك ألغازها ولكنها مفاتيح عصية أيضا) -ص49-

يقرأها الراوي/ السارد الذاتي دن أن يفهم ماذا كان يقصد ومن هي تلك الزنبقة التي ذكرها، هل هي سارة (أخته) أكانت حريقه الأبدي؟!ويقرأ اليوميات ويحاول ان ينتقي ما يتصوره موحيا ومهما وتبدأ من 3 آذار 1982-3 آب 1987 وبين هذه التاريخين تمتد حرب (فليل الحرب يشعرك أنه هناك من يراقبك وان هناك من يكمن لك وأن مفاجأة ما في الانتظار... أنت تنتظر المفاجأة كما تنتظر أي شيء آخر، كما تنتظر إجازتك الدورية، كما تنتظر أخبارا من أهلك، كما تنظر أحلاما مؤجلة أو موتا مؤجلا... قال لي عارف ذات يوم: إن هذا العالم ليس سوى أعداد من بشر ينتظرون)-ص58-

لابد أن تخرج من الحرب بعلامة، وكمال أصيب مرتين برضوض في ساقه اليسرى وفي كتفه ولابد ان يغادرك بعض الرفاق فتبكي بألم لفراقهم... عند المفترق القاسي الغامض لابد ان تودعهم، هكذا يرحلون بغتة دون كلمات أخيرة ودون مصافحة وداع!

كم كان سعد ذكيا ومراوغا معنا في روايته (غسق الكراكي) أدخلنا متاهة لا نهاية لها، وضع قوانين اللعبة -لوحده- ورسم خطوطها بنباهة ويريد ان نمضي لوحدنا ونجد المخرج بكل بساطة وضعنا في لعبة اختبار!

سعد محمد رحيم يعترف في صفحة (72) بأنه يكتب روايته وما كمال سوى شخصية هو اختارها لأن كمال أيضا اعترف في الصفحة (31) بأن لو كتب رواية فسيكتب عن هاجك! والاعتراف سيد الأدلة كما يقال!

يالمآساة كمال، ذات يوم وعند كان طفلا في الرابع الابتدائي احترق بيت وتحولت أمه وأخته الصغيرة زينب إلى جثتين محترقتين، الصدمة كانت قوية على والده فأختل توازن العقل وعندما عاد إلى رشده زار أبنه في بيت أخيه، يقول كمال: (لم أذهب إليه ولكنه هو الذي جاء واحتضنني).

(كيف حالك؟)

اكتفيت بهز رأسي... مد يده إلى جيبه واخرج كيسا صغيرا وناولني إياه أخذته بأصابع مرتجفة وألتفت هو إلى خالتي:

(يا شفيقة... كمال أمانة في رقبتكم)

(أنه في عيوننا)

(في أمان الله)

(يا أبا كمال ابق لتتغدى معنا)

رفض بإيماءة من يده وخرج ولم أره بعد ذلك قط، أما الكيس فكان يحوي أحد عشر دينارا وربع الدينار. -ص87-

عندما سلمها إياه في ذلك المساء استغرب وارتعشت يده وهو يتناول الأوراق من نبيل وفي غرفته وتحت ضوء (اللالة) بعد ان انقطع التيار الكهربائي جلس ليقرأ تلك الأوراق وفي نفسه تساؤل... لماذا وضعها أمانة عند نبيل قبل استشهاده بسنة ولماذا لم يضعها في الصندوق مع ما ترك؟!

هاهو سعد يعود للمناورة مرة ثانية فالسارد الذاتي يتساءل: (وهذه أهي الرواية التي أريد أو أراد هو كتابتها أم موادها وعناصرها ومفرداتها الأولية التي منها وعليها ستقام فيما بعد بنية الرواية (رواية كمال)؟ وإذا كانت هذه مجرد مواد وعناصر ومفردات فمن سيعيد كتابة الرواية فيما بعد؟ أنا؟ أم أنت أيها القارئ الصديق؟). - ص112-

وإخلاصا لكمال لنه كان يريد ان يخلف رواية مكتوبة يضعه الأوراق التي تركها عند نبيل بين يدي القارئ دون أي تدخل منه.

هنا يتحول كمال إلى سارد ذاتي، ففي الورقة الأولى يتحدث عن سارة (ابنة عمه) صديقة طفولته وصباه وحبه الوحيد الذي كان من طرف واحد، طرفه.

داخل وبشكل جميل بين حبه لها وبين الحرب التي عاشها، أي أسلوب وأي توظيف رائع، تمنينا لو عاش كمال وكتب روايته بنفسه!

في الورقة الثانية يتحدث عن مها، زميلته في الجامعة، نقيض سارة بالضبط و في كل شيء، دلال ومياعة، برجوازية وبكل معنى الكلمة.

(ان فكرت بالزواج فلن أتزوج غيرك)

(ولكنك من عالم غير عالمي)-ص125-

لم تتحمل الحرب فقط طالت وأحست أن الغارات الجوية خطر عليها وعلى أهلها، غادرت إلى برلين الغربية لتدرس الهندسة هناك.

وفي الورقة الثالثة يعود مرة أخرى لسارة ويتحدث عن فراشتها وألوانها ولوحاتها التشكيلية وغيرته عليها من الشاب الذي ارتبطت به في الجامعة.

وتدخل امرأة أخرى في حياته -كاد أن يتزوج بها- (صبرية) غجرية -أعتذر لأتي سأنطق هذه الكلمة- (ساقطة)، وأعتذر مرة أخرى لأنني لا أستطيع أن أزيد حرفا واحدا في وصف هذه المرأة وهذه العلاقة!

وفي الورقة الرابعة يعترف فيها أمام الشيخ عبد العليم، يحكي له عن خطاياه دون أي تردد، عن وساوسه وقلقه إزاء الحياة والحرب والبيت، عن ما يؤلمه ويحزنه ويفرحه أيضا، عن وحدته وغربته داخل نفسه وخارجها.

كان الشيخ يسمعه إلى النهاية ويربت على كتفه ويطلب منه أن يتوضأ ويصلي رغم انه لم يكن وقت صلاة وبعد ان صلى وجد نفسه وحيدا في الحرم فنام نوما مريحا (أغمضت عيني تحت تأثير بقايا النعاس فحلق سرب من الكراكي... صعدت نظري إليه وهو يغور في الزرقة المرمدة ويتلاشى في الشفق الكامد فامتلأت بالأسى كان السرب الراحل يستجيب لغواية موسم آسر وغامض في مكان بعيد، بعيد. تلك كانت رؤياي)-ص137-

هاهي الرواية تشرف على الانتهاء، لم يبقى شيء لدى السارد الذاتي الأول (محمد) يقدمه سوى وثيقة أخرى سيضيفها إلى عالم هذه الرواية، أنها رسالة وصلت على عنوان كمال من مها من برلين الغربية وهي لا تعلم بأنه لم يعد من سكان هذه الأرض! تقر فيها بهزيمتها النهائية وترفع أمام سطوته -التي توهمت التحرر منها- الراية البيضاء!

ستعود لأنها قد تغيرت كثيرا وإنها في طور التحول إلى امرأة أخرى (وأدركت كما لو أن كائنا آخر ولد في أعماقي واحتلني وراح يطمئنني بأن العراق كما الشمس، كما النجوم، كما زرقة السماء، كما البحر، كما الأزل، عصي على الموت)-ص149-.

بعد ان انتهيت من قراءة هذه الرواية الرائعة برق في ذهني تساؤل:

يا ترى سعد محمد رحيم كتب لنا رواية كمال أم روايته ولو عاش كمال وكتب روايته بنفسه هل كانت ستكون مثلما قرأنا (غسق الكراكي) لسعد محمد رحيم؟!

(*غسق الكراكي) رواية لسعد محمد رحيم صادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة -بغداد/ 2000.

View gulizaranwar's Full Portfolio