جيش الفراشات

Folder: 
قصص قصيرة

قصة قصيرة....... كُليزار أنور

جيش الفراشات*


 أشرقت شمس اليوم على عالم وردي في نفسي، فغنت الروح بعمق وسرور. حين خرجتُ من منزلنا هذا الصباح، كان كل شيء عادياً، كأي صباح يقابلني كل يوم.. مشيت في نفس الدرب الذي يأخذني إلى دائرتي.. الشوارع مغسولة بمياه الأمطار الهاطلة بغزارة مساء أمس.. وشعرتُ – فعلاً-  بالربيع يتبختر عبر المدينة، يمسح بألوانه كل ما كان كئيباً، ويغطي بضبابهِ الأخضر كل شيء.
 عبرتُ شارع الزهور.. الذي يسمى بـ "شارع العشاق " فغالباً ما تجد فيه الشباب! وما أن وصلت خطوط العبور لدورة السويس حتى اختفت من أمامي وتحولت الأرض في ثوانٍ إلى تراب! ليست الخطوط وحدها.. بل كل شيء بدأ يتسرب أمـام عينـيّ.. الشوارع.. البنايات.. الناس.. المحلات.. وطلاب المدارس أيضاً.. ولم أجد سواي أقفُ بوحشة في عالمٍ وحيد وغريب! التفت مذعورة.. وإذا بشيء يشبه العاصفة قادم نحوي.. أنظر من حولي.. قد أجد لي مخبأً أحتمي فيه.. لكن، لا شيء. يا إلهي.. أينَ أنا؟!
 العاصفة تقترب.. لكنها ليست بلون التراب.. بل عاصفة ملونة تبرق من بعيد بشتى الألوان.. أندهش منذهلة رغم ذعري وخوفي الشديدين.. ولا إرادياً تلفظت: ما شاء الله!
 تلكَ العاصفة كانت جيشاً من الفراشات!
 وفجأة يمتد أمامي طريق مبلط .. كيفَ وجد؟ ومَن أوجده وبهذهِ السرعة؟ لا أدري! لم يكن لدي خيار آخر.. لا بد لي أن أمضي فيه، فربما يقودني هذا الطريق إلى مكانٍ أحتمي بهِ. كنتُ أركض.. أركض.. والطريق لا ينتهي! وبينَ فترةٍ واخرى التفت، لأجد ذلك الجيش الجميل مازالَ يتبعني كقدر!
 الغريب أن الشارع الطويل.. والطويل جداً مظلل بأشجار النخيل والسنديان! أتعجب، فأية طبيعةٍ جمعتهما؟! أرفع نظري إلى السماء.. قطعان من الغيوم تمر في زرقة مدرجة. ورغم جري السريع هذا لم أكن أشعر بالتعب نهائياً. والغريب أيضاً اني حينَ حاولتُ أن أنظر إلى جانبيّ الطريق مرة أُخرى.. كنتُ أرى كل ما قد مر بي في السابق.. رأيتُ أُمي.. ولوح لي أَبي.. واخوتي، وبعدها الأصدقاء والزملاء، ورأيتُ بعضاً من معلماتي، ورئيس دائرتي.. ورأيتُ كل مَن خطبني! 
 رأيتُ العمادية.. القلعة الحصينة في قمة ذلك الجبل الشامخ بوجه الزمن.. تلك المدينة التي أشتاقها كصدر أُمي.. صورتها كافية لأشعر بأن آلاف الأعوام من التاريخ تطل عليّ لتعانق عينيّ!
 ورأيتُ الموصل.. ماذا أقول عنها لأُجازيها حقها؟ هل يكفي أن أقول بأنها مدينة ليلها قصيدة ونهارها قصة لا تنتهي!
 ويطل بعدها وجه بغداد.. أشجار النخيل تلوح لي بخضرتها الداكنة.. ويغيب الوجه في لحظات.. بغداد التي في القلب دوماً !
 كل هذا مر بي وأنا أجري دونَ توقف.. والطريق مازالَ طويلاً.. وبين الحين والحين ألتفت.. لكن، دون جدوى! فذلك الجيش مازالَ يتبعني.. وأسأله:
 _ إلى أي مصيرٍ تمضي بي يا جيش الفراشات ؟!
 اسرع أكثر.. ونظري إلى الأمام.. ويتراءى لي من بعيد ما يشبه تلكَ العاصفة التي رأيتها أول مرة _قلتُ في نفسي_ ربما غير ذلك الجيش مساره.. وألتفت ورائي.. وإذا بهِ يتبعني.. إذن، هذا غيره!
 كيفَ لي أن أهرب.. ليسَ بيدي سوى أن أمضي.. وليحصل ما يحصل! وكما توقعت.. العاصفة المغبرة من بعيد.. بدأت تزهو بالألوان كلما اقتربت. يا إلهي.. جيش من خلفي.. وجيش من أمامي. لا أدري لِمَ تذكرت مقولة طارق بن زياد الشهيرة: "البحر من ورائكم والعدو من أمامكم". حتماً سأكون وجبة شهية لكلا الجيشين. ماذا أفعل؟  يبدو أن هذا قدري!
 كلما مضيتُ أكثر بدأت الصورة تقترب أكثر.. ولحظت بأن ذلك الجيش الذي أمامي يمضي خلفَ شخصٍ آخر.. لم أستطع أن أُميزهُ.. يا ترى مَن هو؟! لماذا قلت مَنْ هو؟! لِمَ لم أقل مَن هي؟! أجري نحوه.. ويجري نحوي.. شعرتُ ببعض الأمان.. فلستُ الوحيدة التي تُطارد! وبدأت هيئتهُ تتوضح شيئاً فشيئاً.. وبعدها شكلهُ وملامحه.. وحينها تأكدت بأنهُ رجل.. لكن، يبدو مختلفاً وكأنهُ ليسَ من عصرنا.. فقد وجدتهُ بزي أميرٍ سومري! 
 وأصل.. ويصل.. خطوة واحدة ونصطدم.. أغمض عينيّ وأرمي نفسي دون أي خوف.. بل بكل أمان.. وكأني موجة شاردة ارتطمت بشاطئها! نسيت أمر الجيشين.. وماذا حل بهما.. أردتُ أن أبقى هكذا، أن لا أفتح عينيّ.. وشعرت بشيء يمطر عليّ ، ثمة ما يشبه الرذاذ يتساقط .. فتحتُ عينيّ .. مطر من الألوان القزحية الشفافة يتساقط علينا .. خجلتُ من وضعي وأنا مرتمية هكذا بينَ أحضانه.. غرقتُ في بحرٍ من الخجل.. رفعتُ رأسي.. فابتسم لي. وجـه مأسور بالمحبة.. مليء بالأمل المتوقع.. لمحتُ في عينيهِ بريقاً دافئاً، ودهشة خفيفة.. فقلت وأنا أكاد أموت خجلاً وحرجاً:
 _ ماذا حلَ بهم ؟
 وحدق  فيّ.. عيناي شهلاوان، مستديرتان بالدهشة مع بسمة استغراب:
 _ بعد التصادم .. تحولوا إلى نثار من الألوان.
 وبلحظة اختفى كل شيء من حولنا.. الدرب، النثار، وحتى بقايا الألوان.. كل شيء.. وبقينا _فقط_ آدم وحواء! 
 يمتد شعاع ليلكي يغطي الأُفق بهدوء. كنتُ منذهلة مما حدث ويحدث لي.. أردتُ أن أنهض، فسحبني من يدي.. شعرتُ بدفء نهايات أنامله فوق جبيني.. غمرني خجل عميق.. وبصوتٍ واضح، لطيف، وابتسامة نقية، مسالمة جعلتهُ يبدو قوياً وشجاعاً سألني:
 _ من أينَ أتيتِ أيتها الأميرة الآشورية ؟
 فأجبت :
 _ من " أمات ". 
 شعت ألف نجمة صافية من وجهه.. وقال :
 _ وأنا من " أوروك " ! 

 

* "جيش الفراشات" فازت بجائزة مسابقة الشباب الأدبية عام 2001.

www.postpoems.com/members/gulizaranwar

 

View gulizaranwar's Full Portfolio