الاشجار وأغتيال مرزوق









الأشجار واغتيال مرزوق

سفينة أحزان الوطن



كليزار أنور



لا يخفى ان الروائي الدكتور عبد الرحمن منيف هو الاسم المرادف للنجاح الواعي في الرواية العربية . ويعد علامة بارزة على خارطة الإبداع العربي . تقنية الرواية اعتمدت اسلوب التقطيع السردي ، فالرواية تتكون من قسمين : القسم الأول من ( 20 ) وحدة .. والقسم الثاني من ( 22 ) وحدة . ويوميات مدونة باسم البطل تبدأ من ( الثلاثاء / 7 تشرين الثاني - الثلاثاء / 8 أيار ) . وتنتهي الرواية بالخاتمة .. وهناك المفارقة الكبرى ! استخدم المؤلف ضمير المتكلم ليتجاوب القارئ معه ، ويصغي باهتمام لتلك الحكاية .. حكاية إنسان عربي يبحث عن عمل ، أي عمل ليكون مصدر رزقه اليومي . فالإنسان قضية ، والعمل قضية الإنسانية بأجمعها ! ايقاع السرد هادئ .. هادئ بعفويته البريئة الصادقة ، يستمر هذا الايقاع الفني رغم كل التحولات والأزمات التي تواجه بطل الرواية / الإنسان - الإنسان العربي - وكأنه جسر أراده المؤلف أن يكون الأرضية الحقيقية لبنية الرواية . لغة الحوار ذكية ببساطتها ، بحواراتها العادية .. وقلت : ذكية

ببساطتها ، لأن لغة الحوار اليومية هي الأقرب إلى القارئ . وكلنا نتمنى أن تتحول قصصنا ورواياتنا مثل (الخبز) في أيدي الناس ! وأبرز مثال لذلك الشاعر الكبير نزار قباني ، فبلغته اليومية البسيطة ، المتداولة تحول شعره إلى قماش شعبي يرتديه كل الناس ! إذاً .. كان واعياً جداً باستخدامه هذه اللغة ، وبهذه اللغة استطاع أن يبني له جسراً متيناً بينه وبين القارئ العادي والنخبة ! القسم الأول من الرواية يبدأ بالسفر .. سفر البطل من أجل العمل (( وأنت في هذه الساعة المتأخرة تتحسس جيوبك للمرة الألف ، لتتأكد أن كل شيء موجود : جواز السفر ،بطاقة القطار ، الشهادة الصحية ، والموافقة على العمل . )) ص15 . ويدقق - بامتعاض من الروتين العربي - في أوراقه التي أنجزت أخيراً ، فماذا يعني الزمن بالنسبة لنا أو لهم أو للآخرين (( لا أحد يصدق كم انتظرت حتى حصلت على هذه الأوراق اللعينة . نعم لا أحد على وجه الكرة الأرضية يتصور ان أوراقاً مثل هذه ، لا يكلف انجازها نصف ساعة ، تنتظرها أكثر من سنتين )) ص 15 . ولإعتبارات كثيرة يسافر بالدرجة الثانية ، مغادراً بلده على أن لا يرجع اليه مرةً اخرى ..

حتى وإن طرد ، فسيفتش عن بلد آخر. المهم أن لا يعود ! البطل / منصور عبد السلام . استاذ جامعي متخصص بالتاريخ . المفارقة تكمن في اسمه والعمل الذي سيغادر من أجله . اسمه (( منصور )) وهو مهزوم في بلده .. والعمل (آثاري ) والأثر يتمسك بالأرض وهو راحل دون التفكير حتى بالعودة ! يلتقي في القطار مع عابر سبيل اسمه الياس نخلة .. يعمل مهرباً بسيطاً .. يتجاوب معه انسانياً رغم كل الفوارق بينهما ! (( كان عمري اربعاً وعشرين سنة . كنت مفتوناً بالقمار . بدأت القضية سهلة ، صغيرة مثلما تبدأ أشياء كثيرة في هذه الحياة ، حتى أن الإنسان لا يظن وهو يقبل عليها ان حياته ستتغير . كنا أول الأمر نلعب على الجوز ، ثم بدأنا نلعب على الدجاج . وجاء يوم لعبت فيه على العجول الثلاثة التي كانت لدي .. ولعبت في النهاية على الأشجار . )) ص 53 . الأشجار .. رمز الحياة والديمومة والنماء .. والتي شبهها والداه وهما يغرسان الأشجار في الأرض بأنها مثل الأولاد وأغلى ولا يوجد كائن في الأرض يستطيع أن يقتل أولاده ! وهو بكل بساطة قامر بها ! أراد أن يثأر لأشجاره عندما قطعوها . ثأَر لها بطريقته.

وفرَ هرباً إلى الجبل المحاذي لبلدته (الطيبة ) . وبقي هناك أكثر من سنتين يعيش في مغارةٍ مع حيوانات بريئة ألفته بعد استدراجها . وبعثوا إليه أكثر من مرة مع الرعاة لكي يعود .. ولم يسمع ! وفي آخر مرة وصله مرسال يقول : بأن أُمه تموت . تسلل إلى البلدة ليلاً .. وكانت تنام في الفراش ، ولكنها لم تزل معافاة (( فما كدت أنظر إليها حتى أفاقت ، أحست بوجودي ، ان الامهات يا صاحبي يمتلكن احساساً خارقاً بالأشياء ، انهن مثل الأشجار لا يتكلمن كثيراً ،ولكن يعبرن عن انفسهم بطريقةٍ لذيذة . قلت لها : لماذا كذبت عليّ ياأُمي ؟ قالت : ما كنت أستطيع أن أراك لو لم اكذب . حاولت مرات كثيرة ، ولكنك لم تسمع ، ولم تأتِ . قلت : هل تكذبين ؟ قالت : كذب الامهات من أجل أن يرين أولادهن صلاة . )) ص 63 . ويغادر البلدة راحلاً إلى الجبل مرة اخرى دون أن تثنيه توسلات أُمه . وبعد ثلاثة أيام جاءه نفس الراعي يبلغه بموتِ والدته . ويعود بعد أربع سنين ويفتح فرناً ، لكنهم سخروا منه وقالوا ، انظروا انهُ يحمل التمر إلى مكة ! فشل يقوده إلى فشل آخر .. في العمل ، في الزواج ، في كل شيء!

رحيل وعودة .. ماذا بعد هذا كله ؟! لا شيء ! إنها الحياة ولابد أن تعاش . والحياة مجرد الحياة ، بطولة ! * * * في القسم الثاني من الرواية يستخدم المؤلف ضمير الغائب . يتحدث لنا راوٍ عليم عن تجربة منصور عبد السلام . لقد جاع وتغرب وتعب من أجل لقمة الخبز التي تحولت هي نفسها إلى سراب .. لأنه - بكل بساطة - إنسان شريف ! ومن أجل هذا يسافر نحو الجنوب ليعمل مترجماً في بعثة آثار .. وحتى حقه البسيط في السفر حرم منه ثلاث سنوات ، فقط لأنه إنسان شريف ! (( منصور يغادر الوطن إذن . يغادره من أجل أن يظل حياً وشريفاً ! )) ص 182 . يكمل رحلة السفر وحده .. لم يجد في القطار كله إنساناً يتحدث معه بعد أن نزل الياس نخلة في محطة الحدود . وبعد هذه المقدمة من الراوي يتدخل منصور عبد السلام بنفسه ليروي الحكاية ،حكايته! حكاية يتمه ، وتربيته ، ونشأته ، ودراسته ، وعلاقاته بكل من حوله ، وقراءاته .. وحكاية سجنه .. السجن من أجل أفكار ! يتحدث عن النساء في حياته ، عن مَن أحب . والغريب انهن يتزوجن قبل أن يفاتحهن حتى بأمر حبه لهن . يالضعف الرجال .. هكذا هو الرجل

الشرقي يرغب في المرأة - التي يحب - أن تكون شجرة تبقى إلى الأبد في انتظاره ! ويسافر إلى اوربا لإكمال الدراسات العليا ، ويلتقي بكاترين ، انهما يشكلان عالمان متناقضان بكل ما يحمله تناقض الشرق عن الغرب ! التقيا في نقطة ليفترقا بعدها ، كل إلى حياته . ويعود ، يعين في الجامعة مدرساً لمادة التاريخ (( التاريخ قصة طويلة وحزينة .. تمتلئ بالاكاذيب ، وقد كانت بهذا الشكل منذ البداية ، وسوف تستمر هكذا ! )) ص 291 . ويعفى من العمل في الجامعة بعد ثلاث سنوات تدريس .. لأنه أراد أن يُفهم طلابه حقيقة التاريخ ! (( أرى ركاماً من الأكاذيب والافتراءات ، ولا أرى شيئاً غير ذلك ! ليست هناك وقائع بالمرة . ص 305 . ويحاول أن يبحث عن عملٍ ليعيش منه ، أي عمل .. لكن دون جدوى ! فجميع الأبواب مغلقة دونه حينما يعلمون بأنه مُسرح من الجامعة ! ويفكر بالحل الوحيد .. السفر ! (( لايهم إلى أين حتى إلى الجحيم ، فقط أُريد أن أبقى حياً . )) ص 325 . (( مَن يصدق انني انتظرت سنتين وسبعة شهور من أجل جواز السفر ؟ )) ص 326. * * * وما أن يصل إلى موقع العمل حتى يبدأ بتدوين يومياته

التي تبدأ بيوم الثلاثاء : 7 تشرين الثاني وتنتهي بيوم الثلاثاء : 8 أيار . ويعلم من الجرائد التي تصل إليه بأن مرزوق مات .. بل قتلوه ! مَن هو مرزوق ؟! ومرزوق ليسَ سوى رمز !!! * * * وكانت ( الخاتمة ) مفارقة الرواية .. وهنا تكمن قوة عمل الروائي الدكتور عبد الرحمن منيف .. ان منصور عبد السلام .. بعد أن أكمل هذه الأوراق أطلق النار على شبحه في المرآة ! واتصل صاحب الفندق بمستشفى المجانين .. وخلال نصف ساعة ، جاؤوا وأخذوه !! وصاحب الفندق سلمها إلى أحد الصحفيين من أصدقائه ! (( أنشر الأوراق الآن . ولم أفعل شيئاً من شأنه أن يغير في معناها .. سوى اني رفعت بعض الأسماء .. وبعض الكلمات البذيئة . )) ص 382 .



الأشجار واغتيال مرزوق رواية الدكتور عبد الرحمن منيف . دار الحرية للطباعة - بغداد / 1977

View gulizaranwar's Full Portfolio