عنقود الكهرمان.. مجموعة قصصية

Folder Contents

Author's Full Portfolio


كُليزار أنور

 


عـنقـود الكهـرمـان

 


مجموعة قصصية

 


  

الإهداء
  إلى مَن غادرنا فجأةً .. ورحل
  إلى العزيز .. بيار
  ما علمتُ بأنَ الزهور عمرها قصير .. ! 

 

      عمتك / كُليزار

 

 


النصف بالنصف 
 بعض الأصدقاء يسقطون في الطريق، وينتهون من حياتنا كفقاعة.. إلاّ هي.. بقيت معي وفية، مخلصة. شيرين صديقتي منذ أيام الطفولة.. رغم اختلاف طباعنا.. لكننا قريبتان جداً من بعضنا.. فغالباً ما يتجاوب النقيضان.. ويتنافر الشبيهان.. انهُ قانون الطبيعة!.. فالذي فيها ليسَ فيّ والذي فيّ ليسَ فيها.. لم يصادف أن تخاصمنا يوماً.. ولم نفترق.. حتى في الجامعة.. مجموعها أدخلها قسم الترجمة/ كلية الآداب البعيدة عن كليتي. ما أن تكمل محاضراتها حتى أجدها في انتظاري أمام باب الكلية أو في الكافيتريا. كان تعلقها بي لهُ شكل غريب.. غموض جميل يغلف وجودها معي!
 الصداقة تأخذ أكثر الأمكنة الدافئة في القلب الأمين.. في عينيها يسكن فيض من الصدق والحب والوفاء النادر، فتعمقت علاقتنا يوماً بعد آخر.. وكأنَ روحاً واحدة تقاسمناها في جسدينا.. كنتُ أُحبها كثيراً، وكانت جديرة بهذا الحب.. فهي إنسانة رقيقة، طيبة القلب، مرهفة الشعور.. عندما تكلمها تشعر بها كنسمة ندية، كابتسامة طفل، كشذا زهر.. كم تبدو رائعة بصفاتها.. إلاّ الفضول الذي يسكنها وتدخلها في كل شيء يخصني.. كانت في بعض الأحيان حينَ تجدني شاردة تريد أن تعرف _ حتى _ بماذا أُفكر.. أقول لها: لماذا؟  فترد بجدية: لأُشارككِ في التفكير. وشيئاً آخر.. كنتُ أجد _ دائماً _ أشيائي ناقصة بالرغم من أنها ليست بحاجة.. كونها من أسرة ميسورة الحال وكل ماتريدهُ متوفر بينَ يديها.. فكم من مرةٍ اكتشفتُ اختفاء أشيائي.. أقلامي.. أوراقي.. حتى أحمر شفاهي! ولم أكن أهتم لهذهِ السرقات البريئة لأني واثقة بأنها لا تتصرف هكذا بدافع السرقة.. بل بدافع المشاركة.. وعندما ترى الدهشة في وجهي من تصرفها.. تلوح على شفتيها ابتسامة هادئة وتجيبني:
_ (( fifty _ fifty )).
 وتخرجنا.. وشيء طبيعي أن تعمل شيرين كمترجمة.
 عندما تغيب الزرقة الصافية عن السماء.. تعرف بأن الخريف قد جاء وتبدأ الرياح بالإحماء استعداداً لهُ فتصول وتجول حاملةً معها أوراق الشجر وذكريات صيفٍ انتهى.. حينَ هبت نسمات باردة بعثرت خصلات شعرنا.. كُنا نجلس في الحديقة فقلتُ لها:
 _ لماذا لا ندخل ؟
 نظرت إليّ مبتسمة.. ابتسامة لا تنم عن شيء.. ابتسامة لم تكن جادة أو ساخرة، ولا رقيقة ولا قاسية.. لكنها في نفس الوقت.. مدركة، عاقلة! وهزت رأسها وخاطبتني بعينين ساهمتين:
 _ أُريد أن أُترجم لكِ.
 ولم تنتظر جوابي وأردفت فوراً:
 _ قصتكِ "القصر الفضي"!
 _ لماذا تلك.. إنها مملة، فالوصف فيها كثير؟!
 _ أنتِ تقولين هذا.. إنكِ أنتِ مَن كتبها؟!
 _ صحيح إننا ننشر أكثر قصصنا.. ونكون مقتنعين بها عند كتابتها ونشرها.. لكن بعدَ النشر نتمنى لو كنا تريثنا ولتمنينا لو أن المحرر لم ينشرها.. رغم اقتناعنا الكامل بها ساعة كتابتها.. وهو أمر عادي ويحدث لكل الكتّاب في كل عصر وأي عصر!
 _ لكني أُريدها بالذات وأن تكون أول عمل أُترجمهُ لكِ.
 لم أرد.. فقط أغمضتُ عينيّ إيماءة الموافقة.
 قدمتُها لها بعد أيام.. كانت سعيدة بها، فقد قرأتها سابقاً.. حتى قبل نشرها، فأصدقاؤنا هم أول قراؤنا!
 ومرت أشهر وإذا بها يوماً تفاجئني بنشرها في إحدى الصحف الأجنبية.. وسعدتُ كثيراً لنشاط صديقتي.. وإن لم تكن مترجمة متفوقة لما ترجمتها ونشرتها بهذهِ السرعة. وأخذتها معي وقرأتها لأعرف بأي إحساسٍ فني قد ترجمتها.
 لابد أن يكون منطلق الترجمة هو التذوق والحس.. فلم تكن الترجمة حرفية كما يفعل معظم المترجمين.. بل أبدت براعة لغوية في ترجمتها وتعاملت مع قصتي باسلوب تعامل الشاعر مع قصيدته، وقد شاركت أبطالي أحاسيسهم ومشاعرهم.. فكل جملة مترجمة لها دور مجازي في خلق المعنى الذي أردتُ أن أصل إليه. 
 قصتي _ باختصار _ تتحدث عن حادثٍ معين يحدث لعائلةٍ معينة في قصرٍ واسعٍ جداً في ضواحي مدينةٍ ما.. ومن سياق أحداثها أن أسترسل في وصف القصر وما يحويه. صحيح أن أحداث القصة مترجمة بشكل دقيق وواضح وفيها روح جديدة أضافت لها ولم تنقصها، فالمترجم الناجح يكتب العمل ثانيةً!
 وكانت المفاجأة!
 فقد وجدتُ أمراً مثيراً للعجب وباعثاً للحزن أيضاً! فكل الأرقام التي ذكرتها لأصف القصر من عدد الغرف والنوافذ والثريات وموائد الطعام والكراسي واللوحات والتحفيات.. كل شيء فيه "عد" قد تقلص إلى النصف بالضبط!
 لم أطق الصبر لليوم التالي، فهاتفتها في الحال. وتسلل رنين صوتها الدافئ في أُذني.. ودونَ أن أقول لها _ حتى _ مرحباً.. قلت بغضب:
 _ ماذا فعلتِ بقصتي؟!
 سمعتُ صوت ضحكتها الهادئة.. وردت بجدية:
 _ كيفَ تمتلكين هذا القصر الواسع لوحدكِ.. (( fifty _ fifty )).


حزيران / 1999

 

 

 


البيت القديم  
 أدير محرك السيارة لتنطلق بي إلى هناك.. إلى تلك الجنة التي فقدتها ذات يوم.. أضع ذاك الشريط الذي يثير فيّ الشجن كلما دار في جهاز التسجيل.. وينفرد بي الحزن.. يسقطني في أخاديد الذكرى العميقة.. ذكرى مؤلمة تعود منها النفس مهشمة على تلك الصخور الجارحة في تلك الأخاديد. تتزاحم الذكريات وتدور الأحداث:
 _ سأرحل.
 _ وا أسفي.. أصبح الرحيل عن الوطن هو الحلم.
 _ لا تتأسفي.. إذا تحولَ الوطن إلى منفى!
 _ أيعقل؟!
 _ ربما.. ! وها قد حصل!
 كان يتكلم بصوتٍ حزين.. وآثار التعب تبدو على وجههِ بصورة واضحة.. لذتُ بالصمت.. فهول المفاجأة ذبحَ صوتي. أنا أُدرك.. بأن لكلٍ منا فلسفته في الحياة وطريقة تفكيره الخاصة.. لم أعترض.. فماذا يفيد الكلام وقد قرر هو وانتهى الأمر! ابتسم.. كالتماعة آخر شعاع ساعة الغروب.. بسمة فرح ذائب، مغادر.. وافترقنا! كل مضى على طريقِ نهايته.. وغابت الصورة التي التقطها قلبي له في آخر لقاء. 
 منذ الأزل الحب والعذاب توأمان.. هل أستطيع أن أُغير قانون الطبيعة؟! وتمطر الأحزان عبر صوت فيروز، وتبحر بي في عباب الذاكرة. غادرناها بعدَ أن كبرنا.. وبعد أن استوجب علينا أن نتركها.. لم يكن بخاطرنا، فهكذا حكمت الظروف في حينها.. والإنسان يرضخ للظروف في أغلب الأحيان . حينَ ابتعدنا شعرتُ بأني اقتربتُ أكثر.. فليست كل الأشياء يستطيع أن يقضي عليها الزمن بالنسيان.. ولم أجد سوى الذكريات أتدثر بها في ليل الغربة البارد.. كل هذا راودني وأنا أسوق سيارتي على طول الطريق. وتظهر العمادية من بعيد (إمارة بهدينان) كما تُسمى في كتب التاريخ.. المدينة العريقة، الجميلة التي أشتاق إليها دائماً.. حينَ التقينا آخر مرة.. بادرتهُ بالسؤال عنها:   
 _ حدثني عنها.. قُل أي شيء؟ بلل ريقي بكلمات عنها.. حدثني عن هوائها وأهلها ودروبها وشارعها الأوحد.
 _ لم يتغير أي شيء في معالمها.. مع هذا فهي ليست هي.
 دوامة الجواب أذهلتني وأحزنتني في الوقت نفسه.
 على الجانبين تلمع الحقول الخضر تحت وهج الشمس.. وتقترب كلما اقتربت أكثر.. مدينة معلقة على رأس جبل.. خصها الله بطبيعةٍ رائعة.. وأصل إليها.. توقفني بوابتيها (باب الموصل، وباب الزيبار) بابان حجريان لا يعلم سوى الزمان في أي تاريخ قد شيدا.. منحوت عليهما عقبان وأفاعٍ _رموزاً للقوة والحكمة_ أتجول في طرقاتها وحيدة.. هل أبكي؟  فالوجه الذي أعطى كياني المعنى الكامل لا يسكن هذهِ الديار!
 وتأخذني الدروب نحو البيت القديم.. بيت واسع يغفو في حضن الجبل.. أطرق الباب وأنا أعلم.. ليسَ فيه أحد.. أفتحهُ.. تواجهني روائح الطفولة.. ما أعذبها.. البيت الذي ولدتُ فيه.. أول مكان أدخلهُ غرفة جدي.. أنظر من خلال النافذة.. البيت ساكن بكل شيء.. أهله وناسه والعالم حوله والسماء أيضاً.. شجرة التين هادئة تغرقها أشعة الشمس الذهبية.. فهي في الحديقة منذ وعيت الحياة.. للمكان عبق سحري في قلبي ونفسي.. كم من الأشياء استيقظت في داخلي؟! الكل غادر البيت.. لم يبقَ فيه غير الأشجار.. شجرة التوت التي زرعها جدي يوم ولدت.. كلانا كبر.. تشع ببريقها.. أصغي إلى أصوات الطيور والعصافير التي عششت فيها.. يمتلئ المكان بغنائها.. أسترق السمع وأتلذذ.. شعرتُ بالفخر، فشجرتي غدت وطناً!
 أخرج إلى الفناء.. أنظر من خلال السياج إلى بيت الجيران.. ليسوا هم!  فهناك آخرون يسكنون الدار، لا أعرفهم.. رمقتُ كل ما هو موجود بنظرة شرود.. وتوقفت عند الشجرة التي جلسنا تحت ظلها.. هناك على تلك الأرجوحة تحت شجرة الخوخ صادفني أول حب.. ورغم أن هذا المشهد أمسى بعيداً إلاّ أني ما زلتُ أتذكرهُ بوضوح.. وكأنهُ حصل الآن.. تذكرتُ في تلك اللحظة كل الأشياء.. تجمعت فيها بدفعة واحدة كالبؤرة: لقاء، طموح، أمل.. ونهاية! هل تجدي الاعترافات في الحب؟.. لا أظن!  فما كنا فيه يؤكد ما هو أعمق من أن نعترف به.
 ما لهذا الزمن يركض بنا وتلك اللحظات هربت منا وكأنها لم تكن في قبضتنا.. أينَ كلماته ووعوده.. في أي بئر غاصت؟؟ الزمان قد التهم تلك الأيام الرائعة.. لكن شذاها مازال يحيا في ذاكرتي.
 خرجتُ من البيت.. سألتُ عن كل مَن كان معنا حينها.. الكل قد غادر.. والمدينة يسكنها الغرباء.. بعضهم غادر إلى السويد وبعضهم إلى ألمانيا وبعضهم إلى هولندا.. و.... و...... و...... القائمة تطول.. تركوا الأرض والوطن، وغادروا.. حتى دون كلمات وداع!
 ركبتُ السيارة مغادرةً العمادية قاصدة (الريبار) الغوطة التي تحيط بتلك القمة.. طريق ملتوٍ محاط من الطرفين بالأشجار.. غابة كثيفة وافرة بثمارها.. ولكن مَن يجني خيراتها؟  مجرد أُجراء!
 الأفياء الوارفة تظلل المكان كله.. أرفع نظري نحو السماء.. القمم تخترق مسيرة السحب الممتدة.. تحيط بي صور بانورامية مدهشة.. أسمع همس الطبيعة.. تراتيل منغمة كدعاء أُم.. أستنشق الهواء بتلذذ.. نما في داخلي خشوع عميق.. خشوع نبع من أعماق ذاتي.. تآلف بسرعة مع سمو الطبيعة وجلال الذكرى.. وأسأل نفسي:
 _ كيفَ تركنا هذهِ الجنة؟!
 يوقفني الجدول الآتي من جبال سولاف.. أجلس على ضفافهِ الهادئة.. أسمع خريره الخافت.. أنظر إلى المياه الصافية وهي تنساب فوق الحصى برفق.. تياره الجاري يأخذ الفكر نحو البعيد.. كم من الزوارق الورقية صنعناها من دفاترنا المدرسية.. وكم حملناها بالآمال؟؟ وفي إحدى المرات صنع زورقهُ من دفتر الرسم.. سألتهُ:
 _ لِمَ صنعتهُ كبيراً؟
 _ كي يسعنا نحن الاثنين.
 ألم يقل سنبحر معاً.. إذن كيفَ ترك البلاد؟! تمنينا كثيراً.. وماتت الأمنيات مع الأيام!     
 السكون تكامل تماماً.. والظلام بدأ يتكاثف بسرعة.. لم تعد عيناي ترى غير أقرب الأشياء.. دائماً نزور الذكرى، نحج إليها.. كمن يبحث عن الحب في ماضٍ لن يعود!  ننبش في رماد الذكريات عن بعض الجمر لينبض الحياة فينا من جديد.

نيسان / 1998

 


عنقود الكهرمان
 رن الجرس في ساعةٍ متأخرة.. رنينه يشرخ هدوء الليل.. أصمت بإصغاء.. يرن مرة أُخرى.. قلتُ لنفسي: مَنْ سيأتينا في هذهِ الساعة المتأخرة.. تحركتُ بتمهل، فقد يكون ما أنا فيه مجرد تخيل.. ويرن للمرة الثالثة.. أُوقظ زوجي الراقد بجانبي:
 _ خالد.. خالد.. أحدهم يدق جرس الدار.
 _ ليسَ هناك أحد.. نامي!
 غطى رأسه وعاد إلى نومه، ويرن من جديد.. خرجتُ من الغرفة.. أنرتُ ضوء الصالة.. فمنطقتنا أمينة، ولا داعي لأي خوف.. وفتحتُ الباب.. امرأة ورجلان.. المرأة سلمت عليَّ أولاً.. وبعدها الرجلان.. وبادرت السيدة:
 _ هل تسمحين أن ندخل؟
 خجلتُ أن أقول لها: "مَن أنتم". وبشكل لا إرادي مددتُ يدي إلى الجهة اليمنى لأسمح لهم بالدخول، فقد يكونون أقارب زوجي!
 ودخلتْ هي قبلهم.. وبعدها الرجل الأول.. انحنى أمامي بطريقةٍ وديةٍ، فحركتُ له رأسي بتودد رداً بسيطاً على تحيته الجميلة.. أما الثاني.. فمد كفه لمصافحتي.. وترددت بعض الشيء قبل أن أمد لهُ كفي.
 جلسَ الرجلان في صدر الصالة والمرأة وقفت إلى جانبي لتجلس حيث أجلس.. فقلت بكرم:
 _ أهلاً وسهلاً. 
 وبعد تردد لم أستطع إخفاءه أو تبريره:
 _ لاوقظ لكم خالداً.
 فردت السيدة بطيبة:
 _ لا تقلقيه فنحن زواركِ.
 بنظرة تحمل الشك والتساؤل معاً تطلعتُ إليها.. وشعرتُ بنوعٍ من الخوف.. إذن هم ليسوا أقاربه كما ظننت.. يا ربي.. ماذا يريدون مني في هذا الليل؟ ومَن يكونون؟  فأنا لم أفعل شيئاً!
 نهضت لأقوم بواجب الضيافة على الأقل.. فدعتني السيدة للجلوس! بدأت أنفاسي تضيق وأحسست بانقباضٍ مرعب.. اضطربت عندما حدقت في عينيها.. وربما توقف القلب عن النبض في تلك اللحظة.. وقفت مندهشة وكأني نسيت كل شيء! عيناها تلمعان ببريقٍ أحمر.. شعرتْ بخوفي، فقالت بهدوء:
 _ نعلم أنهُ وقت متأخر، لكننا لا نستطيع أن نزوركِ في النهار.
 الخوف تشعب إلى كل جسمي بقشعريرةِ برد.. وبومضة رأيتُ قافلة من صور الجان تعبر مخيلتي، لكن تبادر إلى ذهني في الحال _كما قرأنا عنهم_ ان الجن ليسوا كالبشر.. نظرتُ إلى الرجلين.. عيونهما تلمع بنفس البريق.. تمالكتُ نفسي بعض الشيء ورددت بصوتٍ خافت يكاد يسمع:
 _ بماذا أستطيع أن أخدمكم؟
 رفعَ إليّ _الرجل الذي حياني_ وجهه.. وقال:
 _ بالحقيقة نحن قصدناكِ في خدمة.. ولأننا نعرف طبيعة مجتمعكم، فقد جلبنا معنا امرأة لكي تطمئني.. ولكي تسمحي لنا بالدخول.
 لم أستوعب ما كان يقوله من الرعب الذي سيطر عليّ.. فقاطعته:
 _ اسمح لي.. مَن أنتم؟  وماذا تريدون مني؟
 نهضَ الرجل وتقدم باتجاهي وجلسَ بجانبي:
 _ اطمئني، فقد قصدناكِ بخير.
 لم أجب مؤثرةً الصمت.. وأكمل بعدما شعر بأنهُ استطاع أن يهدئني. 
 _ سيدتي.. أنتِ كاتبة راقية جداً بنظرنا.. وكُنا نقرأ ونتابع لكِ في مجلة "اليوم" روايتكِ "عنقود الكهرمان" وكما تعلمين نشرتِ الجزء الأول فقط.. والثاني لم يُكمل.. لماذا؟
 _ أجئتم في هذا الليل لتسألوني هذا السؤال؟!
 _ نحنُ لسنا من الأرض.
 حينَ قالها أردتُ أن أصرخ. دقات قلبي تزداد وترتفع.. تقرع في رأسي كناقوس كنيسةٍ قديمة.. ترتجف يداي.. ويجف فم.
 انصرفت عيناه عني بعد أن كانَ يحدق فيَّ ملياً.. اقتربت السيدة أكثر مني.. وأحسستُ بملامسة فخذها لفخذي.. ووضعت يدها على كتفي:
 _ أرجوكِ.. اهدئي.. واطمئني.. لسنا هنا لنضركِ.. بل بالعكس.
 فأجبت بحدة:
 _ بكل بساطة.. المجلة أُغلقت!
 فرد الرجل الثاني من مكانهِ:
 _ والجزء الثاني موجود لديكِ؟
 _ بالتأكيد.
 _ زيارتنا من أجل هذا.
 وتقدم هو أيضاً.. ووقف أمامي فقلت:
 _ وضحوا لي أكثر؟
 _ ما نشرتهِ هنا كانَ يُنقل إلى مجلةٍ أُخرى لدينا.. وأنا رئيس تحريرها.
 قاطعتهُ بابتسامة:
 _ وهل تنشرونها بالعربية؟
 فابتسم لابتسامتي:
 _ لا.. بلغتنا!
 وجدتُ نفسي عاجزة عن التعبير بصدق عما أشعر بهِ وأُريد قوله.. شعرت أن عينيّ اغرورقتا من شدة التأثر لهذا الفرح المفاجئ! وذلك الخوف المرعب تبدد إلى فخر وزهو لا يوصفان.. فأكمل:
 _ لدينا مندوبون في الأرض، وهم يقومون بترجمة الأعمال الجيدة.. وروايتكِ لاقت الاستحسان لدينا.. وبعد أن انقطعت توقفنا نحنُ أيضاً عن تكملتها.. والغريب.. وصلتنا رسائل كثيرة _بالآلاف_ تطلب تكملة الجزء الثاني.. ولم ندرِ ماذا نفعل؟!
 _ أتعرفون.. مر على انقطاعها أكثر من سنة.. ولم يسأل عنها أحد هنا.
 _ إنها رواية من طرازٍ خاص! 
 أحسستُ بالإشراق ينبع من أعماقي.. فنهضت.. ودخلت غرفة المكتب.. وأخرجتُ من الدرج الجزء الثاني والثالث من روايتي "عنقود الكهرمان" وضعتها في ظرفٍ أبيضٍ كبير.. وكتبتُ عليه بخطٍ واضح: " إلى قرائي أين ما كانوا "!
 قدمتها للسيد فابتسم حينَ قرأ تلك العبارة على الظر .. وصافحني بقوة هذهِ المرة.. وسألني:
 _ كم تطلبين؟ قولي ما شئتِ وسيكون لديكِ؟
 _ لا شيء.. إنها هديتي لقراء غرباء يسألون عني.
 فتقدمت السيدة نحوي.. وأخرجت علبة حمراء من جيبها علبة ما رأيت بجمالها وتصميمها البار: 
 _ هدية متواضعة جداً لكِ.
 وضعتها على الطاولة القريبة منها.. صافحوني.. وخرجوا.. وبقيت أنتظر لأعرف كيفَ سيغادرون! ابتسمت.. وابتسامتها لم تظهر سوى في عينيها.. لم تغير تعابير وجهها.. فقط أضاءتها.. وكأن نوراً نبع من داخلها فأضاء وجهها.. وقالت:
 _ أرجوكِ.. اغلقي الباب.
 قبلت رجاءها وعدتُ إلى الصالة.. فتحت العلبة، فتلألأ ما بداخلها وسطع أمام عينيّ.. سحبتُ السلسلة فتدلى منها "عنقود من الكهرمان"! 
آب / 1999

 


الصروح
 _ يا جدتي: اني رأيتُ خمسة صروح.. كلما شُيد صرح ونما وعلا انهدم بإشارةٍ مني.. خمسة صروح متعاقبة تنهدم في جزيرتي.. أتركها غير آسفة وأركب مركباً صغيراً لهُ شراع أبيض ليأخذني إلى جزيرةٍ أُخرى أجمل منها وأرقى.. ومن بعيد أرى صرحاً يُبنى.. أتأملهُ وأتأمل في نفسي أن أعيش فيه وما أن أضع قدمي هناك حتى يمتد أمامي بساط أحمر ليوصلني إلى ذاك الصرح العالي _الأشبه بالقلعة_ فأدخل وأستفيق!
 قالت ونظراتها تذرع المدى البعيد:   
 _ يا ابنتي.. والعلم عند الله.. سيمر في حياتكِ خمسة رجال، وبقناعتكِ وحدكِ ستكونين الطرف الحاسم للقضية، وأنتِ دائماً مَن يقلع نبتة الحب التي تنمو بينكِ وبينهم.. وحتماً لظروف وأسباب نحن نجهلها الآن.. وستغيرين مكانكِ بعدها وسيكون التغيير نحو حياة جديدة وحبٍ جديد في أرضٍ جديدة.. وهناك ستجدين النصيب الذي ينتظركِ.
 هذا ما قالتهُ لي جدتي وأنا فتاة لم تكمل عامها العاشر بعد.
 واحترقت السنين من بين أيدينا.
*          *          *
 عزت
 وما الحب إلاّ للحبيب الأولِ _أظنها_ عبارة ساذجة لا تتماشى مع عصرنا.. فلم يبقَ من عزت في قلبي سوى غصن ذكرى.. وغصن يابس! كنتُ حلماً جميلاً في عينيه.. ترك خطيبته _ابنة عمه_ من أجلي.. حينَ فعلها دخلَ حياتي.. أشعرني بأنهُ ضحى بها إكراماً لي.. لا أنكر بأني أحببتهُ، فلكلمات الحب فعل السحر في القلوب.. لم أستطع أن أُقاوم أمام تأثيرها.. كيف؟ فهو أول مَنْ طرقَ باب قلبي.. وماذا تفعل فتاة صغيرة، بريئة لم تكمل ربيعها الخامس عشر أمام إنسان حساس، رقيق المشاعر؟ ما سمعتُ أجمل من غزلهِ الذي يسمعني إياه كل ليلة عبر الهاتف. سنة ونحن على هذا المنوال.. وكلما سألتهُ أمراً يقول: دعيني أُخبر أُختي. وأختهُ كانت كل شيء في حياته.. هكذا قالت، هكذا حكت، هكذا افعلوا.. وفي النهاية تركتهُ لأختهِ. بردتْ علاقتي معه تدريجياً.. حاول أن يتقرب، ولكني كنتُ قد قررت.
 وسُحبتْ قصتنا من وجود الأيام كما تُسحب لوحة رسام قبل أن يُتمها!

 جمال
 القيثارة العتيقة كما يحلو لي أن أُسميه.. فقد كانَ مثقفاً قديماً. اقتحمَ حياتي عنوةً وفرض نفسه.. رأيتُ فيه بعض أحلامي.. هادئاً، مثقفاً، ولكن لا يتكلم عن نفسه إلاّ بقدر ولا يتفوه إلاّ بميزان، وحديثه دائماً عن لحظةِ الحاضر التي نسكنها. شعرتُ بأننا في صحراء شاسعة والتقينا فيها غرباء! هدوؤه كانَ لغز بالنسب لي! وجدتهُ مثل مدينةٍ لم أعثر لها على باب.. فكيفَ أدخل؟ الغموض يحيط به من كل النواحي.. لم أستطع الدخول إلى عالمه! مرت سنتان على علاقتنا ولم يقل لي سوى كلمات الحب.. ومتى كان الحب مجرد كلمات؟!

 سمير
 ماذا أقول عن سمير.. هذا الفنان الإنسان.. الرقيق كنسمة والجارح كحد السيف.. يعشقني ويكابر.. وجوده أيقظ في جوانحي إحساساً عميقاً بجمال الحياة.. كالنسمات الطرية التي تصادفنا أيام الربيع.. أحببتهُ ملءَ كياني.. كان يحبني بغرابة.. بطريقة رسم لوحاته.. وهي طريقة لا ترضيني. هناك الكثير الذي جمعنا والقليل جداً الذي فرقنا.. وخرج من حياتي كفقاعةِ ماءٍ من بحر!
 وأسأل: كيفَ تحولت تلك النار التي كانت ألسنتها تحرقني إلى ثلجٍ يملأ دواخلي؟!
 معصوب العينين يدور في ساقية الغرور.. وليبقَ وحده!

 فارس
 أشقر عيناه بلون السماء في نهارٍ مشرق.. ربما أحببتهُ لهذا الشيء. يُبدي لي كل مشاعر التعلق والاستلطاف كلما رآني.. اهتمامه الزائد أثر بي.. وما أن أعطيتهُ الضوء الأخضر حتى تحول إلى إنسانٍ آخر.. مراهق يتبعني هنا وهناك _رغم انهُ في الأربعين من عمره_ شعرتُ بأنهُ يشحذ الحب مني.. لم يبقَ سوى أن يركع أمامي.. والمرأة ترفض دائماً أن تنتشل ما بين قدميها!

 أمير
 أعجبتني ثقافتهُ أول الأمر.. وهو ممتاز بجاذبيته وصفاته.. لا غبار عليه _حقيقةً_ أحبني قبل أن يراني، واختارني كزوجة قبل أن يأخذ رأيي.. تصور بأني لن أرفضه.. لكن ما أكثر مَن يحبوننا ونحن لا نشعر إزاءهم إلاّ كأخوة. وسيلة تعبيره الوحيدة.. رسائل يبدؤها بِقالَ فلان وحكى علان.. حين التقينا ، قلتُ لهُ: 
 _ وأنت ماذا تقول؟
 لم يستطع الرد!
 والاخوة من طرفي كانت الباب الذي أُغلق دونه.
*          *         *
 تلك الوجوه اختفت.. وربما امحت من ذاكرتي.. لم يبقَ منها سوى ذكرى حنون.. فالصداقات تتحول تدريجياً ومهما بدتْ قوية في الظاهر فسرعان ما تنحل إذا لم تدعمها الألفة الصادقة من الطرفين.. ولم يفد طرقهم على بابي من جديد لأني أغلقتهُ بوجوههم ولن أفتحهُ ثانيةً. 
 كلما كبرنا تغيرت مفاهيمنا للأشياء.. غادرتُ الحب إلى العمل الجاد.. ويبدو بأن النسيان قد استطاع أن يغزل شباكه بصورة محكمة حول قلبي.. أغلقتُ الباب وأغلقتُ معهُ كل أفكاري عن الماضي، وقررت مع نفسي أن لا أُعطي وقتي سوى لمستقبلي ودراستي.
 حتماً هناك مَنْ يتحكم برسم خطواتنا دون أن ندري وليسَ باستطاعتنا أن نمنع كثيراً من الأشياء التي تحصل لنا! ولكن، للحياة دائماً قابلية على التجديد.. وحاولتُ أن أضع خطوطاً جديدة لحياتي.
 كانت "باريس" بالنسبة لي الطلسم، كلمة السر.. كنتُ أعتبرها المفتاح الخرافي الذي سيفتح لي أبواب الحب والسعادة والنجاح.
*         *          *
 
وائل
 الفنار الذي أرسلَ لي النور بعد أن بقيت سفينتي ضالة دهراً.. فاتجهتُ نحوه أبحث عن الأرض، الأمان. رجل هادئ، رصين، منطقي.. لا يهزه شيء.. هذا ما كنتُ أبحثُ عنه! يتكلم بلباقة.. مُحدث بارع.. خلال دقائق استأثر بمحبتي وإعجابي.. استمر والاستمرار في النهاية هو الذي يقرر المصير.. وكل شيء!
 يتأملني بانبهار.. كخبير آثار مدهوش بتمثال رآه لأول مرة.. ومنذ اللحظة الأولى سقط القناع.. وبدا لي الوجه الحقيقي. انهُ يختلف عنهم.. يتكلم لغة جديدة.. يسلك سلوكاً مختلفاً.. إنساناً مرموقاً، متفوقاً، خلوقاً ووسيماً.. وأبواب الأمل العريضة مفتوحة أمامه.   
 وائل.. الواحة التي استلقيت في فيئها بعد أن هدني التعب.. حلمي الذي وجدتهُ أخيراً. ركبنا معاً قطار الأمان الذي سيمضي بنا إلى آخر محطة تمنيناها!
تشرين الثاني / 1997

 

 

 

 


على عَجَل
 لقاؤنا في ذلك اليوم هل كانَ صدفةً أم قدراً مكتوباً.. أو الاثنين معاً.. التقينا لتخلق تلك اللحظة الأولى في رحمِ حبٍ قد يكون كبيراً.. استدرتُ بعينيّ نحوه.. وإذا بعينيه الواسعتين تتحدثان بودٍ.. فيهما شوق وحنين وأمل وقصص كثيرة. وبعد تعرفي عليه باسبوع فاتحني بموضوع الارتباط.
 _ لماذا الاستعجال؟ دعنا نتفاهم!
 _ التفاهم يحدث بلحظة واحدة.. وهذا قد حصل.. وإن لم يحدث بلحظة واحدة فلن يحصل العمر كله.
 أقنعني برأيه.. وتزوجنا بعد شهر.. 
 _ الزواج مسؤولية، والأولاد مسؤولية أكبر.. وخاصةً في هذا الزمن الصعب المتقلب.. دعنا نتخرج ونكوّن أنفسنا.. وبعدها نفكر بموضوع الأطفال لكي نكون بقدر مسؤوليتهم.
 _ طفل واحد ونستقر بعدها، فالزواج بدون أطفال كحياةٍ بدون عقب.
 وأقنعني للمرة الثانية.. وبعد سنة من زواجنا شعَ ضوء باهر في حياتنا.. أصبح لنا طفل (أنمار) زهرة ناضرة نشرت عطرها على جو بيتنا منحنا سعادة إضافية وحركةً ومرحاً لذيذاً.
 تخرج مازن قبلي والتحق بخدمة العلم.. أما أنا فوقتي كله كانَ موزعاً بين دراستي وبيتي وابني.. كنتُ أشعر بالتعب والإرهاق في بعض الأحيان.. ولكن يكفي أن أضم أنمار إلى صدري لأنسى كل ذلك.. كنتُ سعيدة.. وكأن الدنيا منحتني رضاها. 
 وإلى هنا والأمور رائعة والقصة تبدو عادية جداً.. فهل يمكن للكلمات أن تقول ما قد حصل؟!
 يفتح الخيال شقاً صغيراً.. فتتدافع الأصوات داخل الشق.. أصغي لعلي أُميز.. يكبر الشق.. وتتمزق صفحة الخيال.. وتنهدر الصور والأصوات كسيلٍ عرم مزق كل سدود الزمن من حولي.
 مَن مِنا لا يتذكر ذاك النهار من يوم 15/ 1/ 1991. كُنا معاً _ فقد كان في إجازةٍ دورية_ كانَ جالساً أمام المدفأة يكتب شيئاً ويدسهُ في كتابٍ بين يديه.. هيأتُ حقيبته.. لا أدري لِمَ انهمرت دموعي حينها.. حاولتُ أن أُكفكفها بيدي قبل أن يراني، فتعود تنهمر.. اقترب مني.. ضمني بذراعيه.. شعرتُ بأنفاسه الحارة:  
 _ لم أراكِ تبكين من قبل!
 _ لا تنسى انها ليلة حرب.
 _ أتتصورين بأنها ستحدث؟
 _ نعم.
 _ أما أنا .. فلا! 
 ارتعشَ قلبي بألم.. أراد أن يُضحكني.. لكن شفتاي لم تقويا على الابتسام.. وسدتُ رأسي المتعب على كتفهِ، وأغمضتُ عينيّ.. طمأنينة سرت في أعماقي كخدرٍ يمشي في العروق منحني دفئاً وأماناً للحظات. وأتانا صوت بكائهِ.. تقدم نحوه قبلي.. رفعهُ إلى صدره.. تنفس بعمق.. قال: أُريد أن أستنشق أنفاسهُ وأحتفظ بها في صدري إلى الأبد. قبلهُ بين عينيه وهمس في أُذنه: حينَ تكبر سأحكي لك حكاية بلدنا!
 ودعتهُ في المساء.. سكبتُ الماء خلفه ليعيدهُ إلينا مرة أُخرى.. إنها حكمة قديمة _وأظنها ما عادت تنفع_ فالماء جارٍ.. يذهب ويعود.. وأوصلتهُ إلى نهاية الشارع.. وقفتُ إلى أن اختفى شخصه من أمام عينيّ.
 دخلتُ البيت.. كان أنمار نائماً.. قبلتهُ .. كانت أنفاسهُ هادئة، منتظمة.. وجه جميل مستسلم كلياً لبراءة عالم مفقود.. وأتذكر كلماته (كم أُحب النظر إلى وجوه الأطفال وهم نائمون). أخذتني التفاتة إلى الكتاب الذي كان بين يديه قبل ساعات.. انتبهت.. انهُ كان يكتب شيئاً.. بفضول سحبتهُ من على الأريكة.. وفتحتهُ.. وجدتُ بين صفحاته ورقة صغيرة مطوية قرأتُ عليها هذهِ الكلمات: 
 ((بدأ العد التنازلي للساعات الأخيرة لقيام الحرب.. فما هي إلاّ ساعات قليلة ويبدأ خيار الحرب.. وبالضبط بقي لنا "خمسة عشر ساعة". طبول الحرب تدق من حولنا ونحن هنا قلوبنا مطمئنة رغم ما نسمعه من نواقيس تدعو لها.. الحياة عادية جداً لحد الآن.. وما اليوم إلاّ يوم آخر يضاف إلى أيامنا.. هل يا ترى ستحدث الحرب؟ سأُغادر بعد قليل إلى الجبهة.. إلى حفر الباطن.
ليكن الله معَ وطني..)).
 مازن   الثلاثاء   15 /1 / 1991  الخامسة عصرأ 
 لم أستطع النوم في تلك الليلة.. كل حواسي مستيقظة.. عيناي كانتا مثل بندول بين مهد ابني والساعة..
 ودقت ساعة الصفر.. "ولعتْ الدني" كما تقول فيروز!
أيلول / 1997 

 


أمام حمورابي
 كنتُ أبدو كالعائد من معركةٍ خسر فيها كل شيء.. فتلك الأمنية تحطمت على حروف تلك الكلمات التي نطقتها "أنا مخطوبة". اعتذرت شفتاها قبل عينيها وتغيرت نبرة صوتها إلى الحزن وهي تتابع:
 _ لقد التقينا في وقتٍ متأخر!
 كلماتها كانت كنصلٍ حاد يغرز في القلب أكثر فأكثر.. لحظتها شعرتُ بأني فقدتُ عرشي ومملكتي.. لم أستطع أن أُدافع عن قضيتي إلاّ بالصمت.. فالكلمات ماتت على الشفاه والغصة اعتصرت القلب.. فكم هو مؤلم ذلك الحب الذي لا يثمر!
 الصمت خيم بيننا اثر ذلك.. افترقنا.. فالجدار الذي أُقيم بيننا كان أكبر من حبنا.. غادرت بعد أن تركت روحي معها.. رحلت مع قطار الغربة.. لكنها بقيت كوشمٍ فريد لا يُمحى فوق لحم أيامي!
 أقتل نفسي بالوقت والدراسة، والوقت يحاول أن يقتلني بالذكرى.. والذكرى تحاول أن تغزل نفس الخيوط في الذهن كل يوم.. فكم من المصادفات قد تجمعت لألقاها في ذلك اليوم أمام "مسلة حمورابي"  في المتحف الحضاري في بغداد.. برؤيتها أينعت نبتة الحب في قلبي.. وقفتُ حيث أنا دون حراك.. فما كنتُ أبحثُ عنهُ سنين طويلة وجدتهُ أمامي في وجه تلك الفتاة.. شدني إليها شيء ما في شخصيتها.. وجه طفولي بريء.. عينان يفيض منهما الحنان.. ابتسامة صافية جعلتني أذوب كقطعةِ سكر في كوب ماء ساخن.. فشخصيتها تدعو للتأمل.. ولها إمكانيات غنية في الثقافة والأدب والتاريخ _مجال تخصصي_ أسحرني هدوءها في البداية.. كانت تتكلم ببطء حتى وهي تصف للوفد السياحي آثارنا المجيدة. ووجدتُ نفسي أنجرف بتيارها بكل سهولة.. لم يكن مجرد انشداد لها.. بل أكثر من ذلك! وكلما أغمضت جفنيها اكتسى وجهها الآسر فتنة جديدة. أي قدر هذا الذي جعلني أتعلق بها أشد التعلق.. ومن مَنْ؟ من فتاةٍ مخطوبة!  
 غابت من حياتي.. وكما الشمس إذا غابت تركت شعاعاً يدفئنا إلى حين يذكرنا بها.. هي أيضاً تركت بذكراها شعاعاً مازال إلى الآن يبعث في نفسي الدفء. وجرى بنا الدهر.. أكل العمر بسرعة.. لكن، صورتها بقيت كما هي لم يضببها غبار الزمن!
 جئت إلى باريس لأدرس التاريخ في "السوربون". السوربون التي وصفت منذ أجيال بأنها "مختصر الكون". كنتُ أظن بأني قادر أن أمحو الماضي بحاضر أوصدتُ دعائمه بالنجاح وبمستقبل خططتُ لأهدافه ووصلتُ إلى ما وصلتُ إليه ويشار إليه بالبنان.. لكن فما وراء هذا كله؟ إنها هي بطيفها بغيابها حاضرة.. وكلما شعرتُ بالضجر.. أذهب إلى متحف اللوفر.. أقف هناك أمام مسلة حمورابي.. ففي أنفاسي صقيع الغربة ولا يذيبه إلاّ هذا الصرح.. فالذكريات لا تعني أبداً زمناً ميتاً أو دفء حلم ومضى!
 طوفان بشري يتقدم.. ويطل وجهها بين زحام الوجوه.. أتكون هي؟  نعم هي.. فالعيون إن أخطأت فالقلب لا يُخطئ.. فها هو ينبض بعنف بين أغصان الصدر مُرحباً بها.. وجه متوضئ بالحزن والأمل.. الوحشة تموت في دواخلي وأمتلئ بدفق الحياة من جديد.. الشرايين الموصلة للقلب بدأت تخضر بعد أن كانت متيبسة دهراً.. التقت أنظارنا معاً.. طوت كل تلك السنين وتمتمت شفانا ببعض حروف اسمينا.. لكننا لم ننطقها! 
 شعور بالفرح سرى في صدري حين رأيتها.. ولون هذا الفرح ذهبي ارتعشتُ لهُ ودفيت.. هل هو الفرح يبللنا بعطره؟ كُنا محط غاباتٍ من الأنظار زرعت حولنا، فاكتفينا بالمصافحة. تبرق عيونها السود بذلك الشوق القديم.. التفت ذراعانا وبدأنا نروي لبعضنا مئات الأشياء التي مرت بنا.. لكنها لم تذكر خطيبها نهائياً.. فنظرتُ إلى يدها.. لم أجد ذلك الخاتم الذي خنقني ذات يوم! لحظت اندهاشي فردت بابتسامتها الهادئة.. وحينها كنا قد وصلنا إلى حيث تقف "مسلة حمورابي" تزهو ونزهو معها بعظمة أجدادنا وبأننا أول مَن وضع قوانين العدالة على أرضنا الجميلة: 
 _ أكثر شيء أُحبهُ في باريس "متحف اللوفر" وأكثر شيء أُحبهُ في اللوفر "مسلة حمورابي". بين الحين والحين يشدني الحنين فآتي إلى هنا.. أقف أمامها وأتذكركِ.
 باحت المآقي بسر القلب.. رفعت رأسها نحوي.. عينين غارقتين بالدمع:
 _ صدقيني.. يكفي أن أرى الدموع في عينيكِ حتى أتأكد ان الحب هو الأقوى.
 التفتت نحو حمورابي بتساؤل وفرح خجول يطل من عينيها:
 _ ربما عدالتهُ أن نلتقي ثانيةً؟!
 _ ربما!! 
تموز / 1997

 


شاطئ الضباب
 خمس رسائل وصلت إلى الآن تحمل عنوان بيتنا الجديد معنونة باسم: هديل عبد السلام. سألتُ الجيران عنها.. لا أحد يدري إلى أينَ مضوا. من دواعي الصدف أن يكون اسمي أيضاً "هديل". لكن، هديل طارق!
 الرسالة الخامسة مازالت في يدي.. ترى ماذا تحتوي؟ فضول قوي يدفعني لفتحها، واحاول أن أتجاهل ذلك.. فأُشغل نفسي كي أنسى أمرها. أتجه نحو النافذة .. أفتحها.. المدينة قد تدثرت بمعطف الليل.. والسماء ازدانت بكل نجومها.. ترمي عيوني بنظراتها في فراغ لا قرار له.. أسمع همساً فطرياً صافياً يشوب الوجود، فما أجمل أن نسمع همسات الطبيعة.. نسمات رقيقة تهب من جهة اليمين.. إنها مشبعة برائحة القداح.. أتنفسها بعمق.. هذا الجو الشاعري يغريني أكثر بفتح الرسالة _قلت في نفسي_ وماذا في ذلك؟ ربما فيها أمر يستحق المساعدة. وبهذا التبرير اللامعقول فتحتُ الرسالة.. رسالة تلتهب بحرارة الحب.. أية لغة جميلة وأية مشاعر صافية وأي شوق يفيض منها.. وبدون أن أدري امتدت يدي إلى الرسائل الأُخرى وقرأتها حسب تواريخ وصولها. وبينما كنتُ أقرأ سمعت خفقات قلبي تعلو في السكون، وتداخل مع الروح دفء أليف. فكم كانت كلماته عذبة.. وكم كان حبه صادقاً، نقياً، دافئاً.. كل هذا أثار في قلبي الشجن.. لمست في حديثه كل ما كنتُ أتمنى وأحلم أن أسمعهُ في يومٍ ما.. سرى دفء الرسائل إلى دواخلي.. أذاب الصقيع الذي عشش فيه منذ سنين.. كنتُ أعلم بأنها ليست لي، ومع هذا فقد أوصلتني إلى أُفق السعادة التي أحلم بها.. وشعرتُ بأن الدنيا أضاءت وتحولت إلى نهارٍ مشرق رغم هذا الليل الذي حولي! 
 رسائله تحكي.. قصة حب.. لو اكتملت لكانت أعظم قصة حب. قصة حدثت في لحظة واحدة.. وكما النار تتقد بشرارة واحدة، فالحب أيضاً يحدث بلحظة واحدة.. وكل ما قد قيل ويقال عن الحب وانهُ يحدث مع الأيام وبمرور الزمن، فلا أظنهُ حباً.. وإنما شيء آخر يسمى "العشرة".
 لقاء في مصيف سولاف.. جمع بين قلبين وفكرين.. وفي آخر يوم أعطتهُ عنوانها كما أراد منها.. وافترقا على أمل أن يلتقيا في المستقبل القريب. عرفتُ من الجيران.. بأن أهل هديل تركوا البلاد بأكملها. أية ظروف دعتهم لذلك؟ لا أحد يدري! حزنت كثيراً لهذهِ النهاية العقيمة، فالمرء نادراً ما يجد الحب الحقيقي.. ورسائله تؤكد بأن ما بينهما كان فعلاً حباً حقيقياً.. لكن، ماذا يفيد؟ فحبهما مات قبل أن يولد! 
 لا أدري أي دافع جعلني أرد على تلك الرسائل وكأنها كتبت لي.. نسيت أمر هديل عبد السلام تماماً. خيل إليّ اني أراه.. يرنو إليّ بنظراته وكأنها من قلبِ بحرٍ هادئ تتقدم.. يضطرب القلب بأحاسيس لا أعرف كنهها.. ماذا فعلت بي هذهِ الرسائل؟! وبدأتُ أصب على الورق الأصم فيض نفسي التي تتدفق بالحب.
 ووصلني الجواب.. ذلك اليوم كان عيداً استثنائياً بالنسبة لي.. أوقد في قلبي كل شموع الفرح.. ومع كل رسالة أتسلمها يتألق ألف فجر ربيعي في حياتي.
 في بعض الأحيان يداهمني الإحساس بالندم لِمَ أفعل.. فقد دخلتُ مدينة الحب بجواز سفر يحمل اسم غيري! وما لم أُفكر به وأسأل نفسي فيه.. كيفَ ستكون نهاية اللعبة التي ألعبها؟ وهل أنا أخدعهُ أم أخدع نفسي؟!
 وانزاح غطاء اللعبة وتحرر البركان وانفجر بما لم أكن أتوقعه.. فالرسالة الأخيرة وضعتني أمام الحقيقة التي لابد أن أُواجهها ومهما كان الثمن.. انهُ يريد أن يتقدم لخطبتي، وسيزورنا مع أهله في الجمعة القادمة.. أي بعد يومين.. لكنهُ.. سيخطب مَنْ؟!
 شعرتُ بأن ذلك الحلم الجميل _رغم علمي بأنهُ وهم_ انفلت مني كخيط طائرة ورقية ينفلت من اليد.. الخوف بدأ يملأ دربي والقلق ريح قوية تعصف بي.. كل ليلة أحلم بأني أتدحرج على منحدرٍ طويل وأستقر في قعر زاويةٍ صغيرة.. فأستفيق مذعورة. إنَ الرثاء والبكاء على الأطلال لا يجدي.. لأنهُ عادةً يكون بعد فوات الأوان.
 الجمعة أتت بكل حقيقتها ووجودها.. هدوءً جارحاً ، مرعباً يغلف سكون البيت. جرس الباب يرن.. رنينه يشرخ صمت الهدوء.. تتصاعد ضربات قلبي وتتناثر على جبيني قطرات من العرق البارد.. أتقدم نحو الباب بخطوات متعثرة.. وأفتحهُ.. يقابلني وجه قد غُسل بالأشواق.. لمعت عيناه في وجهه الهادئ.. وقال مبتسماً:
 _ منزل السيد عبد السلام.. أبو هديل؟ 

تموز / 1996

 


نوافذ للذكرى
 ليل كانوني ينسكب في فجوات الوجود، ونثارة من الثلج تنسكب معهُ في سواد ليلٍ معتم مسربلاً الكون بغلالةٍ من الريش الأبيض لتبدد ظلمة ليل شتائي فتضيف عليه سحراً.
 هدوء الليل وثلج كانون وذكريات تدق على جدار الصمت.. كل هذهِ الشواهد توقظ الجراح في نفسي لتزرع ليلتي بالأرق.. بدأتُ أتأمل خيوط الظلام عبر نافذتي فتنصهر أشتات الذكرى بالوجود.. تهبُ نسمات الماضي وأُحاول أن أغلق نافذة الذكرى.. لكن دون جدوى! 
 ألجأ إلى المذياع، وهو خير ما نلجأ إليه حين يغادرنا النوم ليأخذنا عبر أثيره حيثما يشاء _انهُ نوع من الهرب_ أدير إبرة المذياع يميناً وشمالاً كي أرسو على شاطئ برنامج أو حديث أو أُغنية قد تبدد أرقي هذهِ الليلة.. لقد قالوها قديماً: "مَن يهرب من الواقع يقع في المحظور". ووقعتُ في المحظور.. إذْ يصعقني صوت فيروز في أعماقي ويهوي بعيداً.. إنها تغني لصبي الثلج "شادي". رفقاً بالجرح النائم يا فيروز! 
 يداهمني فيض من الألم والعذاب.. وأخذت يدي تتحسس جسد ابني شادي الذي يرقد بهدوء قربي.. انغمرت أناملي في أمواج شعره الناعم.. انحنيت نحوه وطبعت قبلات حارة تناثرت في وجهه الملائكي البريء.. انهُ البرعم الوحيد الذي زرعهُ لي القدر ليشد عمري للوجود ثانيةً.. برعماً ينبض دفئاً ومواساةً.
 يحملني صوتها الشجي إلى أعوام مغرقة في البعد.. وبالرغم مني تشق الذكريات دروباً إلى أيام قد مضت إلى الأبد.. أيام بعيدة إلاّ أنها مازالت محفورة بعمق على جدار الذاكرة بكل لحظاتها.. فُتحت لي أبواب الماضي وبدأت أتسلل طريق العودة.. وأصل إلى أيام قد ابتسمت لي آخر مرة.
 في آخر يوم من إجازته الدورية من نهارٍ كانوني وقد نشر الشتاء طرحة زفاف بيضاء على كل القمم.. فالثلج قد احتضن المدينة والطرقات.. في ذلك اليوم أصر مروان أن نرحل بنزهةٍ قصيرة لخد الجبل المواجه لمدينتنا.. قد يكون قراره غريباً للكل.. لكني لم أستغرب من قراره المفاجئ هذا لِما أعرفهُ فيه من حبه للثلج والجبل.
 أخذتنا دروب الجبل ممسكاً بيدي.. شعرنا بالدفء رغم الجليد الذي يغمرنا.. لعبنا كثيراً وتضاربنا بكرات الثلج.. تذكرتُ قول نيتشه: "في كل إنسان حقيقي يختبئ طفل يرغب باللعب". ضحكات وشهقات فرح طفولية وعيناه بالقرب مني تغمرني بطيب دفئه.  
 هالة من النور الذهبي الهادئ غطت ثوب الجبل الأبيض .. أغرقتنا بفيضان من السعادة ..
صنعنا رجلاً ثلجياً.. كان بدون ملامح ، وأصرّ مروان أن تكون لهُ ملامح.. فتشتُ في جيوب معطفي قد أجد ملامحاً لهذا الرجل الذي صنعناه بأيدينا.. لكني لم أجد سوى قلم أحمر غرستهُ في وسط وجهه ليكون أنفاً له.. قلت مازحة:
 _ هذا الرجل كذاب.
 فرد مروان ضاحكاً:
 _ ما الذي يدعوكِ للتهكم عليه؟
 _ يقولون بأن أنوف الكذابين طويلة.. ألم تسمع بحكاية الصبي الخشبي الذي طال أنفهُ لكثرة ما كان يكذب.
 ودفعَ مروان بقبضة كفه القلم، فانغمر في وجهه:
 _ لا يهمكِ.. جعلناه من الصادقين.. أنفهُ قصير جداً.
 وبدأ يفتش في جيوبه لعلهُ يجد ملامح منسية نكمل بها وجهه.. وغرسَ (بندقتين) مكان عينيه وعلبة كبريت استقرت فماً له في أسفل وجهه.. غمرتنا سعادة لم تعرف لها حدود.. كُنا نضحك.. نضحك ملء أعماقنا إلى أن أخذَ التعب منا مأخذاً.. فجلسنا تحت شجرة سنديان عالية مثقلة أغصانها بالثلوج، ننظر من بعيد إلى مدينتنا الصغيرة الغافية في حضن الجبل.. كنتُ مصغية له وبكل جوارحي وهو يحدثني بهدوء عن الحرب.. الوطن.. الحب. يحدثني عن هذا الثالوث الذي يجعل حياة الناس أساطير وأفعالهم بطولات.. واستغربت حينَ قال:
 _ لو رُزقنا بصبي سأُسميه "شادي".
 _ شادي.. ولماذا شادي؟ ما الذي يدعوك لاختيار هذا الاسم بالذات؟ 
 _ لا أدري! يعجبني كثيراً.. يذكرني بالحرب التي أصبحت جزءً من حياتنا وبالشتاء والثلج الذي أعشقهُ وأشياء كثيرة لا أُدرك معانيها الآن.
 كان النهار يحاول أن ينحدر نحو المغيب والشمس تسحب أشعتها، فيتكسر الضوء على الجليد ليخلق ألواناً لم نعرف لها مُسميات بعد.. وحينَ ذكرني بموعد مغادرته في ذلك اليوم.. غلفتني شرنقة من الحزن.. وللمرة الأولى اجتمعت في داخلي كل الأحاسيس المتناقضة بين فرح الحب وحزن الفراق.. ودارينا دموعنا بعناقٍ طويل.
 كل شيء مر بسرعة البرق.. وما كان يومنا ذاك إلاّ يوماً سرقناه من عمر الزمان.. وفي المساء غادرنا مروان إلى الجبهة في قطار الساعة التاسعة.. نعم.. قطار الساعة التاسعة!

نيسان / 1995

 

 


خيط الزمن
 أتشبث بخيط لا أعرف ما نهايتهُ.. أفكار غريبة تأتيني.. تفرج عني بشكلٍ ما.. تشبه الأحلام إلى حدٍ بعيد.. تُدخلني عوالم لا أُدركها بسهولة ويراودني دائماً الإحساس بالغربة.. وكأني لستُ من هذا العالم.. لا يستهويني أي شيء من الحاضر.. بل وجدتُ نفسي تنساق إلى كل ما هو قديم.. واتصفت بأن لي ذوق كلاسيكي.. كل هذا ولّد لديّ رغبة بالبقاء وحيدة.. وحيدة تماماً.. بذرة الغربة نمت بداخلي وأزهرت شجرة صمت.
 فجلست _شئت أم أبيت_ تحت فيئها.. وضعتُ في لا نهاية التأملات.. لا أُريد من أي كان أن يمزق غشاء صمتي وهدوئي. وأصبح العالم أمامي مرآة لا أرى سوى نفسي فيها.. هناك إنسانة أُخرى تقبع في داخلي.. تأمرني.. وأنا أُنفذ.. خفت أن أبوح بخواطري المبهمة هذهِ كي لا أُتهم بشيء آخر. ماذا سيقولون عني؟  في البداية قلت: ربما هي أحلام وكوابيس ستنتهي.. لكنا استمرت وأصبحت وجوداً ينغص حياتي.. أسمع صوتاً يكلمني.. وأقول: قد يكون صوت الفكر في داخلي.. هذا الصوت الأخرس الذي يسمونه حديث الروح! إذنْ.. مَن مِنا يحيا بحياة الآخر؟ مَن مِنا القناع والصورة والظل من الحقيقة والأصل والواقع؟ أ أنا الوجه أم القناع؟ اختلطت الأمور عندي.. إمتلأتني مرارة لم تفارقني، فأصعب ما على المرء أن يشعر بالانشطار من الداخل! 
 في صباح ذلك اليوم التشريني.. استرسلتُ في شرح المادة. كنتُ أصفُ أحداثاً تمر من أمامي.. حياة قد عشتها بكل دقائقها. بانوراما متلاحقة بالصور الحية، ويقطع استرسالي صوت الأستاذ:
 _ بدور.. من أينَ لكِ بهذهِ المعلومات الدقيقة عن هذهِ الفترة التاريخية.. فهي ليست من ضمن المنهاج؟
 يصدمني سؤاله. وأُفاجأ بالأمر.. نعم.. من أينَ لي بهذهِ المعلومات؟!
 _ لا أدري يا أُستاذ.. ربما قرأتها في مكانٍ آخر.
*          *         *
 حينَ أعلنت كُليتنا إقامة رحلة إلى مدينة سامراء ابتهجَ قلبي لهذهِ الفكرة الرائعة.. راودني حنين غريب.. لم أنم طول الليل.. هيأتُ كل مستلزمات الرحلة بسعادة غامرة وكأني مسافرة إلى وطنٍ بعدتُ عنهُ سنين طويلة.
 تلوّح لنا الملوية من بعيد.. فيخفق قلبي. سامراء.. مدينة موغلة في القِدم.. تصـورت بأني كنتُ أمشي العمر كله، واليوم فقط وصلت! وكان تصرفي عفوياً وأنا أُوضح لزملائي الطلبة الأماكن المحيطة بنا. وسألني حارث باستغراب:
 _ بدور.. هل أتيتِ إلى هنا سابقاً؟
 سؤاله يغمرني بالمفاجأة.. وأرد بخجل لأُداري استغرابي أنا أيضاً:
 _ الآثار وشم الأجداد على الأرض.. والوشم واضح!
 فيرد باستغراب أكثر:
 _ لكن إلى هذهِ الدرجة.. لا أُصدق!
 غاص قلبي بين جنبي. عدنا إلى الفندق.. لم أستطع النوم.. شعرتُ بالإرهاق.. فهناك خط أمامي يجعلني أتبعه نحو قمةٍ لا أدري متى سأصلها!
 خرجتُ إلى الشرفة.. أغوص في رطوبة الليل وأحس بنشوة منعشة.. واجهني القمر.. بدرٌ في تمامهِ.. بهاؤه بدد وحشة الليل وسكونه.. ويأتيني صوت من بعيد.. يناديني: بدو .. بدور.
 وأرد بخوف: مَنْ يناديني.. مَنْ؟
 _ لا تخافي.. اتبعيني.. فقد أتيتُ من أعماق العصور.. امضِ معي.. وسأُريكِ العجب!
 وجه خارج العمر والزمن.. في عينيها وجدتُ شعاعاً يسحبني.. مضيتُ معها ويدي تعانق يدها.. امرأة تشبهني.. وكأنها توأمي. نتجول في مدينةٍ من العالم القديم.. مدينة أثرية مازالت معالمها مترسبة في ذهن التاريخ كنجمة ثابتة في وجودٍ سرمدي.. وسألتها:
 _ مَنْ أنتِ؟
 لمعت عيناها وبدا وجهها حزيناً وهي تقول:
 _ أنا الأميرة بدور.. ابنة حاكم هذهِ المدينة. في ليلةٍ كان فيها القمر بدراً لقيتُ مصرعي هناك.
 وأشارت إلى قمة الملوية، حينَ التفتُ إليها بعد أن نظرتُ إلى حيث أشارت.. لم أجدها.. اختفت! ووجدتُ نفسي وحيدة مع ليلٍ صامت.. أمام دَرجٍ لولبي. أي هاجس جعلني أتسلق الملوية.. درجٌ طويل.. أعدّ.. واحد.. اثنان .. ثلاثة.. وتسرقني أفكار وهواجس لا أعرف مغزاها.. فأنسى العد. قدماي تقوداني بشكل غير إرادي. هل لي هنا وفي هذا المكان بالذات حساباً لابد أن أُصفيه! 
 ووصلت القمة.. صداع قوي يطرق في رأسي.. أردتُ أن أصرخ من الوحشة رعباً.. شعرتُ بالدوار.. وبدأت النجوم تتساقط من حولي.. أيدٍ طويلة وغليظة تحاول أن تلقي بي فـي فجوات ليسَ لها قرار.. مَنْ يسحبني؟ الماضي.. أم الحاضر.. لا أدري!
 وأسقط. كل ما شعرتُ به.. صوت ارتطام جسدي على الأرض!


حزيران / 1996

 


الفيل
 هكذا كسفينةٍ في بحرٍ لا تعرف كيفَ أبحرت ومتى، بل وجدت نفسها محاطة بالماء.. بعثت في نفسي اضطراباً لا مثيل لهُ.. براءتها وقوة شخصيتها أيقظت عواطفي نحوها.. وجدتُ في وجهها فتنة غريبة أراحتني دون تفسير.. عيناها السوداوان اللتان تغزلان ألقاً صافياً جميلاً، وشعرها الكستنائي المرتمي بكثافة على ظهرها. امرأة حولت أيامي إلى قوس قزح.. كقنديل أمل يضيء وجودها طريق الحياة نحو نفسي.. وأخيراً وجد قلبي له نبضاً في دنياه .. يتداخل الروح دفء أليف كلما التقيت بها، وتُفتح في وجهي كل شبابيك الضياء.. إنسانة شفافة تحويها شاعرية راقية.. باهتمامها أوقدت لي قمراً، فغمر حياتي بضوءٍ جميل بدد ظلمة اليأس القاتل فيّ.. وأصبح وجهها بسمة دنياي وكلماتها شعاع محبة ينسكب في روحي.. تظمأ إليها أشواقي ولا أستطيع أن أبوح لها بشيء.. ولكن، إلى متى؟ 
 _ أتحبها إلى هذا الحد؟
 _ وبكل جوارحي.
 _ وهي؟
 _ لا أعرف! لكنها تهتم بي.
 _ إنَ الفجر لا يعني بزوغ الشمس فقط، كما ان الحب لا يعني الاهتمام فقط.
 _ لكنهُ بعض الحب.
 _ أ رأيت يا صديقي.. قلت بعض الحب.
 _ ورأيك؟
 _ أن تحسم الموضوع. 
 ولأني إنسان واضح وصريح فإني أُحب أن أُسمي الأسماء بمسمياتها.. صارحتها بأقرب فرصة جمعتنا.. بدون مقدمات وبشيء من الجرأة قلت:
 _ تتزوجيني؟
 التفتت نحوي مندهشة مما نطقتُ به.. وفجأةً غرقت في دوامةٍ من الصمت والتأمل، فشعرت بأنها ستقول شيئاً خطيراً.. أترقب شفتيها كمتهم أمام قاضٍ لا يعرف ماذا سيحكم في أمرهِ.. وحاولتْ أن تنشغل ببعض أوراق كانت أمامها.. لم تدرِ بماذا ترد.. ارتسمت على شفتيها ابتسامة فيها حنان واعتذار معاً، ودون أن ترفع نظرها إليّ قالت:
 _ فهمت ان الذي بيننا مجرد صداقة وارتياح لا غير.
 بكلماتها انفرط العقد فجأة من يدي.. ابتسمتُ في وجهها، لكن هل باستطاعة هذهِ الابتسامة الباهتة أن تخفف ألم الفشل.. تذكرتُ صديقي وقوله المأثور "إن الفجر لا يعني بزوغ الشمس فقط، كما ان الحب لا يعني الاهتمام فقط". عاودت حديثها بصوتٍ خافت:
 _ إن الصداقة أعلى مراتب الحب.. ألا تتفق معي بهذا؟
 لم أرد، فقد أعياني البحث عن كلام، وضاعت الأُمنية الوحيدة التي كانت ترقص بين جوانحي.. احترمتُ رغبتها.. حتى اني لم أسألها مَنْ هو؟ فكل إنسان يرغب أن تبقى بعض المساحات من حياتهِ بعيدة عن الأضواء.. وتواعدنا على أن يحمل كل منا للآخر صداقة على الأقل!
 كانَ حبها غابتي الجميلة.. والغابة لم تتغير قبلَ مئة سنة أو بعد مئة سنة.. وحبي لها كالغابة ليسَ من السهولة أن يتغير بسرعة.. فالحب لا ينتهي.. الحب عاش بموت روميو وجولييت وكذلك بفراق قيس وليلى.. ربما لن يقتنع بكلامي الكثير.. لكني كنتُ مقتنعاً.. فأن أحب وأفشل أفضل _بنظري_ من أن أعيش العمر كله دون أن أكون قد أدركتُ ما هو الحب.   
 العمر بدأ ينزلق من أكفنا كالزئبق.. ونتلفت وراءنا فنراها تلك الأعوام التي ركضت كأنها البارحة.. ننظر إلى وجوهنا في المرآة فلا تفاجئنا سوى التجاعيد.
 كلما فرغتُ لنفسي أعود لذلك الفيل الذي أهدتني إياه يوماً.. أتأملهُ.. تمثالاً عاجياً لفيلٍ صغير _أضحك في سري_ أسرح وتتوقف يدي عن العبث به.. وأنظر إلى نقطةٍ في الجدار.. أية نقطة؟ لا أدري! وأُسلم أفكاري لأرجوحةٍ لا وجود لها. 
 تأخذني بعيداً وتعود بي.. يسترخي الجسد والروح معاً.. طيور وأغصان وضياء يتداخل بين أوراق أشجارها.. صورة جميلة تمر في الخاطر، تمنح ذاتي سعادة لا نهاية لها.. وأسمعها تقول:
 _ أ أعجبك؟
 _ جداً.
 _ خذهُ لك.. كتذكار.
 _ حقاً؟!
 أومأت برأسها موافقة.. ربما هو لا يعني لها شيئاً.. مجرد تمثال على منضدتها.. لكنهُ أصبحَ بالنسبة لي كل شيء.. فيكفي بأنهُ منها!
 لحظات مغلفة بالنور والدفء.. يأخذني إليها هذا الفيل العاجي كلما داهمني البرد.. أتدفأ بنورها.. وأنتعش.. ويشرق الفرح من جديد، فأشعر بالهدوء والأمان.

    أيار / 1998



ذكريات للبيع
 أدخل شارع النجفي  رائحة التاريخ تفوح منه.. أجواء هذا الشارع تدفئ القلب وتنعش الروح، فتستيقظ ذكريات قديمة من سباتها.. أتمشى في خطوات وئيدة أمام واجهات المكتبات.. أرمق بنظري كل ما هو معروض عسى أن أجد بينهُ ما يروق لي.. لم أجد شيئاً! وأخذت عيوني تمر على عناوين الكتب المكدسة على الرصيف المحاذي للشارع _قلت في نفسي_ لعنَ الله زمن الحصار الذي جعلَ الناس تضطر إلى بيع كتبها من أجل لقمة العيش. وتستقر عيوني على أحد الكتب.. خفق قلبي.. لابد انهُ هو.. كتابي.. أمدّ يدي.. أسحبهُ ببطء متمنية أن لا يكون هو.. وأفتحهُ.. نعم هو.. هو بعينه! الحقيقة تواجهني.. كم كانت باردة.. ارتعد لها جسدي.. أرفع رأسي نحو البائع.. زياد! بدا لي وجهه كصحراء موحشة.. أين ذلك النور الذي كنتُ أراه من قبل.. إحساس بالرثاء له تواتر في نفسي حينَ رأيتهُ.. أيمكن! هل وصلت به الأمور إلى هذا الحد؟!
 وانهارت عواطفي كلها أمام هذهِ اللحظات.. اختنق صوته.. صمت بذهول.. لم يستطع النطق.. فالكلمات غدت هشيماً من المستحيل تجميعها أمام هذا الموقف.. ظل واقفاً متجمداً وكأنهُ تمثال نُصب منذ مئات السنين.. وظلت نظراته مصلوبة في ترقب ما أفعله أو أتفوه به.. لكن، بماذا أتفوه؟ ضممتُ الكتاب إلى صدري وأخرجتُ من حقيبتي رزمة من الدنانير.. لا أدري كم كانت.. وضعتها أمامه.. ومضيت.. سمعتُ صوتاً يتبعني:
 _ أرجوكِ هيام.. اسمعيني.. أرجوكِ.
 _ أنا مَن يرجوك.. دعني أمضي.. وأظن لن تجد مَن يدفع لك أكثر!
 صمت.. وكأن في صمته كلام لم يستطع قوله.. فأكملت وأنا أتطلع إلى السماء لكي لا تلتقي عيوننا:
 _ أرجوك زياد.. لا تنسَ إننا في الشارع.. والموقف لا يحتاج لتبريرات.
 مضيت عنه بقلبٍ مجرح بأشواك الحزن والمرارة.. أيمكن؟! أتُباع الذكريات! ربما! فكل شيء ممكن في هذا الزمان!
 عدتُ إلى البيت.. دخلتُ غرفتي.. فتحتُ درجي الخاص.. سحبتهُ من بين الأوراق.. وقرأتُ الإهداء بصوتٍ مخنوقٍ بالعبرات:
 إلى أعز الناس..
 إلى كل الناس.. هيام..
   مع محبتي وإعجابي. 
 مازلتُ أحتفظ به رغم ان ما بيننا قد انتهى.. حتى أني لم أضعهُ مع باقي الكتب في المكتبة.. بل وضعتهُ بين أوراقي الخاصة في دُرجٍ منزوٍ لا يفتحهُ غيري.
 إني بطبيعتي.. أتوقف عن التفكير بأشياء اختفت من حياتي.. لكن هذا لا يعني نسيانها.. فالذكريات.. وقود الليالي الباردة.. تدفئ القلوب والأفئدة وتبعث فيها النار والنور.
 في يومٍ ما.. باركتنا رياح العشق.. والوصال كان قوياً حينها.. ومع هذا بدأت بيننا مواسم الهجرة.. ضُربَ بيننا جدار الصمت والعزلة.. مَنْ أوجدهُ أول الأمر؟ لا أدري! ربما أنا.. وربما هو! فالاختلاف كان في المبادئ. وغلفت حياتنا من بعدها بضباب الذكريات.. ومع الأيام بهتت ألوان صورته في ذاكرتي ومات رونقها في روحي.. لكني لم أنسه! 
 ضممتُ الكتاب إلى صدري.. قبلتُه.. ووضعتهُ هناك، في ذاك الركن المنزوي من درج مكتبي..
 فالذكرى أبقى من الحب! 

أيـار / 1996

 


نافذة من القلب
 حالات حب ومواضيع عاشقة، حزينة، معبرة، شفافة تبعدنا بها إلى عالم هو عالمنا بالتأكيد، لكنهُ فوقنا وما تجاوز أُفقنا.. في اسلوبها تكمن الروح الهادئة والأنفاس الدافئة.. ووجدنا في لغتها شاعرية سلسة، هادفة، ناضجة، حرة.. أفكارها تتسلل إلينا بهدوء وصمت.. بدون قيود أو شروط، كما الشمس تصلنا أشعتها فنشعر بحنانها.
 "نافذة من القلب". هي زاوية تحررها "غصو " كلماتها تدعو القارئ للسفر معها إلى أجواء ما عادت موجودة في واقعنا بل _فقط_ في أحلامنا.. شعر متدفق بالعاطفة والإحساس الصادق النبيل.. شعر متألق دائماً بالنو !  
 بدأتُ أعشق كلماتها.. وأنتظر الخميس من اسبوع إلى اسبوع لأقرأ ما تكتبه. كنتُ أحلم أن ألتقي بنموذج كهذا، مزيج من الرقة والفكر والعذوبة.. حتماً هي جميلة، وجميلة جداً.. كيفَ لا.. وهي تحمل كل هذهِ الأحاسيس.. في كل مرة يتجدد اسلوبها فلا نشعر بالملل!
 قررت أن أكتب لها.. أُناقشها بكل ما تكتب.. وكم كانت فرحتي عظيمة عندما وجدتُ الرد.. ولكن، بطريقتها الصحفية! لم تمر مناسبة إلاّ وأرسلتُ لها بطاقات ملونة ووروداً. وقعتُ في غرامها وأصبحت هي كل أحلامي.. والجدار الذي يقفُ العالم كله عنده.. ومعها ستكتمل سعادتي التي أبحثُ عنها منذ سنين. أخبرتُ أقرب صديق لي بما أُخبئه في صدر .. ضحكَ مني وقال:
 _ أتعشق امرأة من خلال كلمات؟! 
 _ ولِمَ لا.. أليست هذهِ الكلمات صدى روحها الجميلة وفكرها ومبادئها التي أنا أيضاً أُؤمن بها.
 لا أستطيع الانتظار أكثر، فاللهفة أكبر.. قررتُ أن أذهب إليها.. إلى المجلة التي تكتب فيها.. وغزلتُ من أشواقي أحلاماً ملونة!
 سألتُ عنها.. غرفة تسلمني إلى غرفة، إلى أن وصلت إلى القسم الذي تكتب فيه.. سألتُ رئيس القسم فأشار إلى الغرفة المجاورة لغرفته.. طرقتُ الباب برقة، تناسب رقة ما تكتب. سمعتُ كلمة "ادخل" بصوتٍ عالي النبرة.. قلت في نفسي.. لابد انهُ زميلها.. دخلت.. لم أجد سوى رجل قد تجاوز الخمسين خلفَ مكتبه، رفع إليَّ وجهاً متسائلاً:
 _ تفضل؟
 _ من فضلك أينَ أجد الآنسة غصون؟
 _ غصون؟!
 _ نعم. سألتُ رئيس القسم.. فدلني على هذهِ الغرفة.
 حاول أن يداري ابتسامة شعرتُ ببراءتها:
 _ وماذا تريد من غصون؟
 _ إني معجب جداً بما تكتبهُ وأُريد أن أنقل لها هذا.
 هزَّ رأسهُ دلالة الحيرة:
 _ حسناً.. نشكرك.. سأُصل لها ما تريد.
 فقاطعتهُ:
 _ لكني أُريد أن أراها وأن أتعرف عليها.
 ابتسم بسخرية هذهِ المرة وقال:
 _ لو أي قارئ أراد أن يتعرف بمن يكتب في المجلات لتركنا أعمالنا ولأصبحت مباني الصحف والمجلات أمكنة للتعارف.
 _ لا.. العفو.. لم أقصد هذا.. أرجوك ساعدني؟
 _ ليست موجودة، وهي تكتب لنا بالمراسلة.
 _ اعطني عنوانها؟
 _ لا أستطيع.
 _ أرجوك.
 قال وهو يحسم المناقشة بصوتٍ حاول أن يكون هادئاً:
 _ أخي . ماذا تريد منها.. إنها سيدة متزوجة.
 _ متزوجة.. لا يبدو هذا من كتاباتها.
 الخيبة تُثقل جسدي.. شعرتُ بأن شيئاً في نفسي بدأ ينهار. وتركتُ المبنى بقلبٍ مكلومٍ بالأسى.. وكأني فقدتُ شيئاً عزيزاً لن أجدهُ مرة أُخرى. وعدتُ إلى البيت.. أخذتُ قلمي وكتبتُ لها. ووجدتُ بعد أسابيع شكرها العميق لدفء عواطفي نحوها.. ربما هي غير سعيدة بزواجها.. ولهذا أجد كل هذا الحزن العميق في كتاباتها!
 حبها أعنف من أن أُقاومهُ.. فكرت أن أذهب لذلك الرجل.. زميلها.. وأن أشرح لهُ ما أنا فيه.. ولعلهُ يساعدني.
 ما أن رآني حتى قال: "لا حول ولا قوة إلاّ بالله". 
 _ أرجوك.. صدقني قصدي نبيل.. دعني أشرح لك.
 كانَ فاضلاً.. فدعاني للجلوس وقدمَ لي سيكارة.. وأوقدها.. حكيتُ لهُ كل ما في قلبي وما كتمتهُ في نفسي أياماً وشهوراً.
 _ لا أعرف ماذا أقول لك!
 _ قُلْ.. قلْ لي أي شيء.. انصحني.. وسأتقبل منك.
 _ كم هو صعبٌ الحب من طرفٍ واحد.. حبٌ بدون مدّ!!
 _ ليكن ذلك.. فقط أُريد الرد.. حتى لو كان الرفض.
 نظر إليّ ملياً.. تنفس بعمق.. وبلهجة حزينة قال:
 _ "غصون" اسم مستعار.. وأنا الذي يحرر زاوية "نافذة من القلب"! 


أيـار / 1999

 


قضبان من ذهب
 _ في قصري كل شيء.. لكن، ليسَ فيه ما يملأ القلب!
 ردتْ والدهشة تملأ أسوار وجهها:
 _ أيعقلْ؟! الكل يحسدكِ.. تسكنين قصراً رائعاً على أعلى رابية في البلد.. تتزينين بأغلى المجوهرا .. ترتدين أحث الموديلات.
 _ لكنها تبقى مظاهر فقط.. وكل هذهِ المظاهر لم تستطع أن تمحو نظرة الحزن في عيني ودمعة الألم في قلبي.
 _ الشهادة ليست كل شيء في هذهِ الأيام.. وهو لا يملك سواها. إني أُحبه، وهو كذلك.. لكن. 
 _ لكن ماذا؟ صدقيني المال ليسَ كل شيء.. فالمهم الحب، فهو الأساس والدعامة الوحيدة التي يقوم عليها أي زواج ناجح.. لا أُريدك أن تفقدي حبك.. لأنكِ إن فقدتيه فلن تجديه مرة أُخرى!
 نظرت إلى ساعتها:
 _ لقد تأخرتْ.. إنهُ ينتظرني الآن.
 قبلتني عند الباب ومضتْ مسرعة. وعرفتُ أي دربٍ قد اختارت صديقتي.
 تلفني جدران قصري من جديد.. لا شيء سوى الوحدة تقابلني أينما اتجهت.. أمضي إلى الشرفة.. نافذتي الوحيدة التي يُسمح لي أن أطل بها على هذا العالم الصغير، الكبير جداً.. يغتالني الهدوء فتستيقظ في داخلي ذكريات تلك الليلة.. قالها لي بكل قسوة: 
 _ ستتزوجيه شئتِ أم أبيتِ.. لقد اتفقتُ معهُ وأعطيتهُ كلمتي.. ولن أتنازل عنها.
 كلماته نصل حاد غاص أعماقي.. مزقها.. تصورت بأنها ثورة غضب من أبي وبعدها سيناديني ويعتذر لي عما بدر منه.. فهل يمكن لإنسان أن يجعل من ابنته سَند صفقةٍ مربحة؟ لكن يبدو بأني كنتُ أحلم.. فكلمات أبي كانت حقيقة.. وأُكدت لي في اليوم التالي عندما زارنا ابن شريكه.
 وصلنا أعتاب القرن الحادي والعشرين ومازلنا في الشرق نُعامل كالعبيد.. ومِنْ مَنْ؟ من أقرب الناس لنا. روح الجاهلية تسكننا رغم كل مظاهر الحضارة التي تحيط بنا.. رفضتُ بشدة.. بكيت.. توسلت .. لكن كلمة أبي كانت أقوى مني.. أصعقتني وتركتني ذُبالة رماد.. فحنيتُ رأسي للعاصفة! 
 بعد أيام قابلني ياسر.. لم أقوَ على أن أرفع عينيّ في عينيه.. فبادر هو بالكلام:
 _ أبهذهِ البساطة يُحكم على حبنا بالبؤس؟
 لم أستطع النطق.. فابتسمتُ لهُ برجاءٍ حزين.
 _ فهمت يا سلوى رجاؤك.. اطمئني.
 كلماته هذهِ كانت آخر ذكرى عنهُ وابتسامتهُ مصافحة وداع!
 طويت صفحة الماضي تماماً وحاولتُ أن أفتح صفحة جديدة معَ حسام.. ولأني إنسانة لها مبادئها التي تؤمن بها.. احترمتُ بيتي وزوجي وإن كانَ سَجاني! 
 عندما  لا يحقق لنا الواقع ما نريد فإننا نلجأ إلى الحلم الذي نراه في الورقة. غمدتُ قلمي بقلبي المتألم وكتبت لأُنفس عن بعض المشاعر الحبيسة في داخلي.. لكن، كل ما كتبتهُ وجدتهُ ممزقاً في دُرج مكتبي.. حاولتُ أن أُناقشهُ.. فجاوبني بصفعةٍ أنستني أمر الكتابة نهائياً.. ولم أجد سوى الصمت جداراً أحتمي به!
 فتحتُ عينيّ.. السماء مرسومة بلون البراءة.. نظرتُ إليها بخشوع.. فالخشوع يطهر بعض الآلام.
 ارتعش القلب بألم حينَ سَمع صوت منبه سيارته.. اتجهتُ إلى غرفتي.. دخلتُ فراشي.. سمعتُ صرير الباب وهو يفتحهُ.. فأغمضتُ عينيّ وكأنني نائمة منذ ساعات!!

أيلول / 1996

 


الموعد 
 بدأ المطر يهمي.. ناقراً زجاج نافذتي، وكأنهُ يذكرني بموعدي.. وكيف لي أن أنسى؟ فلو أمطرت الدنيا حصى لخرجتُ لموعدها ولو كلفَ ذلك حياتي.
 ارتديتُ معطفي المطري وخرجتُ من البيت. حينَ أطبقتُ الباب الخارجي للدار سمعتُ صوت أُمي يناديني:
 _ إلى أين ستخرج يا وائل في هذا اليوم الماطر؟ هل أخذت معك واقية المطر؟
 لم أجبها مواصلاً طريقي.. ماذا أفعل بواقية المطر ولواعج قلبي سيول عرمة أغرقتني العمر كله. 
 بدأت الخطى تأخذني من طريقٍ إلى طريق والناس تسرع راكضة تتقي البلل بالجرائد وواقيات المطر لتعود إلى منازلها.. إلاّ أنا فخطواتي كانت بطيئة، هادئة.. لم أكن مهتماً كالناس بهمي المطر عليّ.. بل وجدتها فرصة لأن أدع العنان لأدمعي أن تأخذ مجراها دون أن أخجل منها.. ففي كل زمان ومكان يخجل الرجل من دموعه.. إنهُ يحاول دائماً أن يداريها بقدر المستطاع.. وللمرة الأولى لم أُدارِ دموعي ككل الرجال.. واختلط حينها دمع الأحداق مع دمع السماء.. فكم السماء رحيمة بنا.   
 مرت في مخيلتي صور الماضي القريب.. صوراً واضحة متميزة تترجم قصة حب تكلمت بأفصح لسان، بعثت في نفسي أشتاتاً من ذكرياتٍ مضت بمواكب أيامها كحلم. لقد أحببتها بعمق.. حب ملأ القلب وشغل الوجدان.. معها وجدتُ الحب بمثاليته وجماله.. وأمطرت علينا الدنيا ألفة ووئاماً.. إلاّ أن هذهِ الصورة بدأت تغشاها سحب من الظلال وغطتها خيم الأنين.. ساعتها انتحب القلب باكياً واستسلمت الأحداق لفيضان القلب فانهمرت دمعاً ماطراً حارقاً.. ففي مثل هذا اليوم قبل سنة تحطمت سفن آمالي وغرقت.. ولم يبقَ منها سوى ألواح متكسرة تذكرني بقسوة بما حلمتُ به وضاع مني. هكذا رسم القدر لوحتي.. غدر بي وتركني مجروحاً على شواطئ الأيام.
 تصورت في البداية ان الأيام كفيلة بأن تنسيني آلام قلبي.. لكن ما من أثرٍ للنسيان أستطيع أن أطويه حتى الآن.. وكأنها تمثال نُصب في وجود أيامي إلى الأبد. وانقطع رذاذ المطر مع وصولي إلى المكان الذي حدده القدر للقائنا.
 فتحتُ بوابة الحصن الكبير.. لا أحد هناك!
 تأملتُ المكان شارداً في ملكوت اللاوجود، فإذا بأسيل تمد لي ذراعيها من بعيد.. اتجهت نحوها بشوق سنيني كله.. تأملتها.. كانت مرتدية ثوباً أبيض فضفاضاً، وشعرها الذهبي المنساب كشلال من نور على كتفيها.. وعينان تلوح فيهما سُحب من الحزن والألم.. أردتُ أن أقول لها أشياء كثيرة.. لكنني لم أستطع.. خانني حينها لساني.. أردتُ أن أقول لها.. ان دنياي من بعدها ارتدت ثوباً أسود بوجهي، وبأن كل شيء كان معها فقط رائعاً.. والآن كل ما كان رائعاً أصبح مظلماً ومريراً لأنها ليستْ فيه وليستْ معي.. وألقيت برأسي المتعب على صدرها، وشعرتُ بكفيها الناعمتين ترفع رأسي رويداً رويداً.. ومسحت بأطرافِ أناملها دمعات انسابت على وجنتيّ.. وتمتمت بحنين:  
 _ ما تصورتك أن تأتي يا وائل.. وفي هذا اليوم الماطر بالذات!
 أحطتها بذراعيّ وكأنها جزء مني.. ولا أدري كم استمر ذلك.. وما شعرتُ إلاّ بيد تربت على كتفي.. التفت.. فإذا بشيخٍ مُسن يحاول أن يواسيني في ما أنا فيه، وتمتم بهدوء:
 _ إنا لله و إنا إليه راجعون. كلنا لهذهِ الدار يا بني.. انهض وادعُ لها بالرحمة.
 كنتُ أنظر إليه مندهشاً كمستيقظ من نومٍ عميق.. وكأني بكلامهِ هذا احاول أن أتمسك بتلابيب الواقع.. فما كنتُ فيه.. لم يكن سوى خيال يتراءى لي.. وأسيل.. لم تكن سوى طيف روح.  
 وأبدى لي الواقع خلاف ما كنتُ أحلم.. نهضت بقلبٍ مكلوم.. ناولني هذا الشيخ بويصلات من النرجس.. وهمس بصوتٍ خافت.. أن أزرعها على قبرها. وكأنهُ لا يريد بحديثه أن يعكر سكون الموتى الأبدي.
 وعندما بدأتُ أزرعها.. تلاشت سحب السماء، وأشرقت الشمس رائعة مضيئة.. وهبت نسمات الربيع من نهارٍ شباطي كماساتٍ برية جعلت كل أحزاني تلتمع تحت بريقها.  
آذار / 1995

 


ترنيمة أجراس
 لكل شخصية مفتاحها.. وكم بحثتُ عن ذاك المفتاح الذي أستطيع به أن أدخل حياتها. سنتان وهي تعمل معي.. ولم أستطع ! فتاة أرق من زهر الياسمين.. هادئة.. رزينة.. هكذا تبدو.. وفي عينيها براءة الدنيا كلها.. ما أن رأيتها أول مرة حتى عانقتُ فيها أملاً وحباً جديداً. ولكن، كيف السبيل نحوها.. فهي من النوع الذي يفرض احترامه.. وبالرغم من انها تحاول أن تكون بعيدة إلاّ ان شخصيتها تثير الانتباه، وفي أي مجتمع تكون فيه.. تلمع دائماً كنجمة! 
 الصدفة.. هي وحدها التي تخلق الأشياء الجميلة.. وشاءت أن تمنحنا بركتها ذات يوم. شعرها الأشقر الطويل يتماوج على كتفيها كسنابل قمحٍ في سهلٍ خصب.. ريح خفيفة هبت فتطاير شعرها مع حركة الهواء.. أمسكتُ به بدون تعمد.. ولا أدري إلى الآن كيف أتتني الجرأة.. فالتفتت نحوي:
 _ لماذا تشد شعري؟
 _ لكي لا تسرقهُ الريح مني!
 فابتسمت.. وشعرت بأني نجحت في هدم ذلك الجدار من القلق والحذر الذي كان قائماً بيننا:
 _ دعينا نتمشى.. فالمشي يعطينا حرية أكبر.
 كانت من الرقة بحيث انها لم تستطع أن ترد عليّ، فاكتفت بأن هزت رأسها في لطفٍ بالغ. ونُثر فوقنا غبار من السعادة غطى العشب ودار حول الأشجار التي بدأت أوراقها تتلامع كعيون الأطفال.. فقلت محاولاً كسر طوق الصمت الذي لف المكان:
 _ في كل صدر هناك قلب ينبض بهم.. ما حكايتك؟ أسألكِ بحكم ما يجمعنا من زمالة وصداقة؟
 صمتت وكأن خواطر بعيدة تشغلها.. وبدت ملامحها متعبة وكأنها تحاول أن تبعد أفكار وذكريات مؤلمة عنها.. امتد الصمت وحاولت أن أسحبهُ قبل أن تفلت الفرصة من جديد:
 _ هناك حزنٌ غافٍ في عينيكِ.. فتاة بمواصفاتكِ.. ما الذي يحزنها؟! أيقظتها كلماتي.. فنظرت إليّ بدهشة وضحكت لِمَ قُلت.. ثم تحولت الضحكة إلى ابتسامة حزينة.
 _ أتعرفين بأنكِ بخيلة بالحديث.. أُريد أن أسمع صوتكِ؟
 _ لا أُريد أن أتحدث معَ رَجل عن رجلٍ آخر.
 _ أيعني هذا انكِ لا تريدين أن يحدثك الرجل عن امرأةٍ أُخرى وأنتِ معهُ. 
 هزت رأسها بحزن، وأكملت بنبرة يشوبها الألم:
 _ هل نستطيع أن نمحو عن قلوبنا بصمات حبٍ فاشل؟
 _ ومَن مِنا لم يفشل؟!
 صورة وجهها الملائكي تملأ عينيّ.. لم أعد أستطيع التركيز في أي شيء سواها.. فدعوتها أن نتفيأ ظل شجرة وارفة، فمشت معي.. استلقيتُ على العشب راقداً على ظهري متأملاً مسيرة السحب وهي تغير أشكالها بحركة الريح.. وكهدير جدول ينحدر نحو الأعماق أسمعها تتكلم:
 _ تصورت بأنهُ الرجل الوحيد الذي كنتُ أبحثُ عنهُ.. فأوقفت سفينة حياتي عند مراسيه.. وما أن وطأت قدماي جزيرته.. اكتشفت كم كنتُ على خطأ.. فقد بدا لي شيئاً آخر.. لم يكن أبداً مثل ما تصورت.. بل بالعكس! شعرتُ حينها بالخيبة في اختياري وبأني ما التقيتُ به إلاّ لكي أبتعد عنه.. وابتعدت ! ومع الأيام ذابت ملامحه في الفراغ.. ولا أدري كيف ماتت عواطفي كلها تجاهه بتلك السرعة.. انمحت كالحلم الذي يموت عندما تستيقظ الحواس! بعدها أبعدتُ عن برامجي كلها مفردة الحب . وطالما سألتُ نفسي منذ ذلك الحين: _ الإغراق في العمل هل هو مجرد تبرير أمام نفسي لأنسى؟! لا أنكر بأنهُ كانت لي في السابق بعض هواجسه، لكنها تبخرت مع ذلك الحب.. دفنتُ قلبي.. وختمتُ عليه بالشمع الأحمر!
 قرأتُ دموعها وما تحملهُ من نبل:
 _ لا يا عزيزتي! لا تستطيعين القضاء على الحب بمجرد الحكم عليه بالموت!
 بدت عيناها الرماديتان على خضرة تفيضان بالتساؤل.. وفهمت.. ربما تسألني ما سألتها:
 _ لقد جرحت كبريائي حينَ رمت نفسها إلى حياة رجلٍ غيري.. فأوصدتُ باب قلبي بعد أن تلقيتُ تلك الطعنة.. وضاعت صورتها في زحمة الحوادث، وتحول فشلي يوماً بعد آخر إلى نجاح باهر وأهداف نبيلة.. وأدركتُ أن حبها ما كان إلاّ حفنة ثلج أذابتها أشعة نهارٍ جديد.. ولم تخلف وراءها سوى قطرات من الذكرى.
 أُحدق في وجهها متعلقاً بفمها منتظراً جواباً.. أي تعليق ! تحركت شفتاها.. لكنها لم تنطق! جو من الكآبة يخيم بيننا ، صمت ثقيل وانتظار أثقل.. فآلام الذكريات لسعتنا وآلمتنا.. وربما كل واحد منا يحاول أن يسحب المياه ناحيته.. فقلت وأنا أشد على يدها:
 _ جراح الحب لا تُشفى إلاّ بحبٍ أكبر منه؟
 نظرتُ في عينيها أستلهم الجواب.. رأيت الفرحة تومض.. ضحكتْ بهدوء، كشهابٍ يلمع في ظلام.. وشعرتُ تماماً بأنها فهمت كلماتي!


حزيران / 1997

 


جائزة نوبل
 عدسات تصوير وفلاشات تبرق.. صحفيين وشبكات تلفزة عالمية اجتمعت على مائدة التكريم العالمي لتنقل مراسيم احتفال منح جائزة نوبل.. عقد من لآلئ الإبداع ينظم هذهِ الليلة بعدما كان منفرطاً في كل بقاع الأرض.
 المراسيم لم تبدأ بعد.. كل شيء يمضي بترتيب منسق.. أمواج من الوجوه البشرية الأنيقة تقابلك في كل اتجاه بابتسامة ود ورضا تُشعرك بأنك في القمة وتكاد تلمس النجوم بيدك.. قد تكون نظرة الناس الصافية الصادقة هذهِ أكبر من قيمة الجائزة نفسها.
 يبدأ الاحتفال.. وتبدأ الأبواق تعزف إيذاناً بتتويج الإبداع.. يسود الصمت أمام رهبة الموسيقى وخفوت الأضواء.. تنساب ظلال الإنسانية على الأرض، وتوقد قناديل العلم والمعرفة حين تعلن الأسماء.. أسماء صداها يرن كأجراس نحاسية في فضاء المكان.
 تسمو الروح مع الأثير.. تختفي الوجوه من أمامي ويأتي وجه من بعيد.. وجه بكبر الوجود.. يكبر.. يكب .. يومض بالضوء، فأنحني له.. انهُ وجه وطني (العراق). في هذهِ اللحظة أركع عند قدميه.. أملأ أنفاسي برائحة ترابه.. ياه.. ما أعذبها. لابد ان هذهِ المراسيم تُنقل بشكل مباشر في تلفزيون العراق.. ملايين الوجوه تترقب بلهفة الشاشة الصغيرة الآن تنشد بين قسماتها أناشيد الفخر والاعتزاز.. فحين يتعلق الأمر بالعراق.. تلغى جميع الالتزامات.
 أنمار خالد.. أسمعها فيقطع صمت الخيال.. ويخفق قلبي في سكون.. أتقدم إلى المنصة.. لا أكاد أشعر بأقدامي.. أحس بأني غدوت بدون وزن.. أتسلم جائزة نوبل.. أرفعها إلى فوق.. التصفيق الحاد يخترق جسدي.. يغمد الروح بسكين فرح.. لا أُصدق ما أنا فيه.. فهذهِ اللحظات أكبر من أن توصف بكلمات. تتفتق في قلبي نجوم كثيرة.. تمنيت أن أرسلها بشعاع نصر لسماء بلدي.   
 وجوه مرصوفة.. ما أكثرها.. أراهم كلهم أمامي.. صورة أُمي.. أحس بأنها تحتضنني وتدعو لي بعيون دامعة ترانيم السلامة. صورة لميس تطفو أمام عينيّ.. أرى طيف ابتسامتها يتهادى على شفتيها.. المسافات تتضاءل بيننا.. أُبحر في عينيها فأذوب في النشوة.. أحسها قريبة مني رغم المسافة التي تبعدنا.. فالمسافات تحترق بين الأرواح!
 لابد أنها أمام الشاشة الآن.. تترقبني بفضول حبيب.. حينَ تراني سيخفق قلبها فرحاً وسعادةً.. وتخشى أن تعلنها.. فتتجمد الفرحة في ملامحها وعيونها حياءً بريئاً.
 فجأةً.. أسمع صوت دويِ ينفجر في الوجود.. أرتعش.. ما هذا؟
 أيكون ديناميت نوبل؟!
 تحترق الصور كلها بدفعة واحدة أمامي وتتحول إلى رماد.
 وأستفيق..!
 أفتح عينيّ على سعتهما.. أدير وجهي يميناً وشمالاً.. أغمض عينيّ وأفتحهما لأتأكد من وجودي.. انهُ صوت الرعد يعلن في السماء.. فالشتاء يطرق على الأبواب!
 فإذا بجريدةٍ تجثو على صدري.. أرفعها إلى وجهي.. إنها أول قصة تُنشر لي! 

أيـار / 1995

 


لوحة الغروب
 أدفع بالقارب لأُبحر نحو الشمس.. أبتعد.. النوارس تحلق في السماء.. تعلو وتسفل.. نقاط بيضاء تغطي لوحة زرقاء بمائها وجوها.. أُفقاً بحرياً موحداً بالزرقة. التفت.. لقد بعدتُ كثيراً عن مدينتي.. فالبحر لا ينتهي.. أطفئ المحرك.. أتأمل مدينتي البعيدة.. لأول مرة أراها بهذا الجمال.. أراها كزهرة برية متفتحة استلقت على ذراع البحر. الرؤية من بعيد تكون أجمل دائماً.. كلما اقترب الإنسان نحو العمق فقد التركيز على الجمال!
 قرص الشمس وقد حاصره الشفق.. ما أجمل هذا المنظر.. صفحة السماء وقد اختلط فيها اللون الأحمر بالأصفر مغطياً وجه الأُفق.. الشمس تحاول أن تغوص في مياه البحر.. أُراقبها كل مساء من نافذة بيتي وهي تغرق.. لا أدري!  رغبة طالما كانت تتقد بين جوانحي.. أن أتأمل منظر الغروب عن قرب.. واقتربت.. ومهما اقتربنا فإن لوحة الغروب تبقى بعيدة معلقة في سماء الطبيعة.. يقول انطوان اكزوبري في كتابه "الأمير الصغير": إن المرء إذا اشتدت كآبته أحب أن يرى الشمس عند غروبها.
 كل إنسان بحاجة إلى ساعةٍ يختلي بها إلى نفسه.. ولا أدري ما الذي دعاني أن أختار هذهِ الساعة.. ساعة الغروب؟! أذوب في لحظاتها.. أتأمل الأفق الهادئ. المساء قد احتل الطبيعة وألقى عليها رداء الظلام.. الأنوار بدأت تتوهج.. لكن من بعيد! أتمتع بمنظر مدينتي الراقدة تحت النقط اللامتناهية من الأضواء.. تتألق كجوهرة رُميت في الظلام.. تنعكس أضواؤها فتكشف تفاصيل فنية رائعة، مذهلة للمكان وكأنها لوحة رسمت بأنامل فنان بارع.  
 ذرات صمتي المتعب بأهداب هدأة هذا الليل.. أدير المحرك لأعود أدراجي.. انهُ لا يعمل ! شعرتُ بالبلل.. أنظر.. وإذا ببحر آخر يكبر في قاربي الصغير.. ماذا أفعل؟ فأنا لا أعرف العوم! بقيت قابعاً في مكاني أتفرج بذهول على تدفق شلال الماء من تحتي.. ليسَ بيدي خيار سوى الاستسلام للموت الذي سيأتي.. لقد وجدتُ نفسي وجهاً لوجه مع مصيري.. أتأمل فراغ السماء.. الصمت يغمر كل شيء.. ويالهُ من صمتٍ رهيب.. أبواب الموت تفتح أمامي فجأة.. أهو القدر ساق لي هذهِ الرغبة في هذا اليوم؟ أضحك في سري! أ أدفع حياتي ثمناً للوحة الغروب؟! ويا له من ثمنٍ غالٍ! في هذهِ اللحظة شعرتُ بأن الوجود قد انتهى من الحياة.. يا للعجب! يناولني الموت كأسه، فأشربه رغماً عني.. لا يمكننا الإفلات من أقدارنا. في أعماق ظلمة هذا الليل.. أستغيث.. لكن الصوت مبحوح.. ومَن يسمع!
 القي بنظري على الماء.. فأشعر بالاكتئاب.. بحر الماء يكبر في قاربي الصغير.. وربما بعد ساعات سيصبح قاربي جزءً من البحر.. ساعات قادمة ببطء حركة العذاب.. البحر بحضوره الغامض.. وليلة لا نهاية لها من الخوف والانتظار.. متى سأفتح عينيّ ولا أجد من هذا الشقاء الذي أنا فيه سوى حلم أستفيق منه بعد قليل.
 صوت البحر أنساني متاعب حالي.. السماء تشرق وتتلألأ بالنجوم تهيأ لي بأن القمر يبتسم لي.. لابد انهُ يسخر مني! لم أعد أشعر بأي شيء وخُيل إليّ أني أسمع صوتاً يناديني من بعيد.. علاء.. علاء. لابد انهم حضروا لينقذوني.. ناديت بأعلى صوتي: أنا هنا.. أنا هنا. وأصحى على صوتي.. السكون مطبق حولي.. لا أجد هناك سواي والبحر وقارباً ينز بالماء.. مثل الجائع الذي يقضي ليله كله يحلم بالخبز ويتخيل ان الدنيا تمطر دقيقاً قد تملأ فجوات الجوع في عينيه.  
 الموت.. هو الموت.. في كل مكان وأي زمان.. فقط الكؤوس التي تدار فيه هي التي تختلف.. وهو واحد.. هنا أو هناك.. اليوم أو الغد.. كل مكان يمكن أن يكون مقبرة وكل زي يمكن أن يكون كفن! توقعت كل شيء في حياتي إلاّ أن يصاحبني الموت في نزهة على ضوء القمر!! في هذهِ الليلة عرفت.. ان الموت هي أعلى قمة نصل إليها في الحياة.. والكل يركض ليصل إليها إن كان يدري أو لا يدري!
 وحدتي في هذا الظلام الجاهم والسكون المرعب.. أُراقب الموج وحدي.. صوته.. نشيد يوقظ في داخلي هواجس قديمة.. استرجع ما قد فات من أيامي وسنيني.. فأذوق مرارة الوحدة كرمادٍ في الحلق، كما هي الآن.. لماذا الحزن؟ عشتُ وحيداً.. وها أنا أموت وحيداً.. حياتي كانت سجن لا قضبان له.. وكأني خرجتُ من سجن لأرحل نحو المنفى.. وأظن زوربا اليوناني كان على حق حينَ قال: "الموت وحده هو الذي لا مشكلة فيه".
 لم أُفكر أبداً بأن البحر سيكون مقبرتي.. وبدل أن تأكل ديدان الأرض لحمي ستأكله الأسماك –قشعريرة تسري في جسدي– لا فرق ديدان أم أسماك.. فالموت هو واحد مهما تعددت أشكاله وظروفه. كم هو عظيم هذا البحر.. وان قتل تبقى أمواجه رحمة! 
 صخب البحر بدأ يتزايد.. أمواجه تحمل لي وجوهاً من بعيد.. كأنها أشباح.. ويقربها الموج.. وجه ابنتي شوق.. أسمع ضحكتها.. وجه بيضوي منير مليء بالبراءة يتسع أمامي.. أمد يدي.. انهُ السراب.. أو لحظة حلم!
 شوق. غصن الأمل في حياتي.. أتعلق به.. وأعد نفسي!

أيلول / 1995 

 


الاعتراف
 س: لكل مِنا أعماقه البعيدة.. ابدأ لي من أعمق نقطة في شِعرك؟
 س: أي الدروب أوصلتك إلى قمةِ الشعر؟
 س: الحب والمرأة وجهان لصورة الشعر عندك .. أي وجه أثبتُ ملمحاً؟
 س: المرأة.. هي الوجه الحقيقي لشعرك.. أينَ هي من حياتك؟
 س: هل تزوجت من المرأة التي تحب؟

 بهذهِ الأسئلة المستفزة تقدمت نحوي صحفية شابة _عيناها خضراوان_ بصوتها الهادئ واسلوبها الرقيق استطاعت أن تقنعني باجراء لقاء صحفي معها. وخرجت كالطيف.. لم يبقَ من آثارها إلاّ ورقة مسطرة بخمسةِ أسئلة جريئة، مثيرة لدهشتي ورقم هاتف مدون في ذيل الورقة. شعرتُ بالربيع يتجدد في داخلي _مع العلم إني في خريف العمر_ ماذا فعلت بي هذهِ السنونوة؟!
 بعد اسبوع اتصلتُ بها وحددتُ لها موعداً. استقبلتها في مكتبي.. جلسنا صامتين برهة. شابة هادئة، متزنة، واثقة من نفسها.. أي سر يكمن فيها.. أيكون السر في عينيها الخضراوين؟! أهزُ شجرة الذكريات فتتساقط اللحظات الحنونة.. ويدور شريط رحلة غابت معالمها في زوايا عمري: 
 _ سرحتُ طويلاً بوجهها الساحر لَما رأيتها أول مرة في نادي الجامعة.. وجه هادئ، بريء فيه عذوبة ملكت زمام قلبي بلحظة واحدة.. نظرتها البريئة أذابت الجليد الذي يغلف حياتي.. وغرقتُ في بحر عينيها الخضراوين دون وعيٍ مني.. ألتفت حولي.. ألف علامة استفهام تتشكل وألف تعجب تزاحمها.. لماذا هي؟ لا أدري! فالحب دائماً موجود.. لكن، هي امرأة واحدة فقط تجلبهُ لك!
 حبها فجر في قلبي جداول شِعر.. فلكل نهرٍ مجراه، ولكل بحرٍ مرساه، ولكل قمر ضياؤه.. كانت هي مجراي ومرساتي وضيائي الذي اهتديتُ به في ليل عمرٍ طويل.
 البداية كانت قصيدة كتبتها ذات صباح على الجدار الحر في الكلية.. كانت الرسالة الأولى لها.. وتلتها أُخرى و أُخرى.. وبدأتُ أنشر قصائدي في الجريدة التي تقرأها.. كنتُ أكتب لتقرأ هي.. وقصيدة بعد قصيدة.. لم أجد نفسي إلاّ شاعراً تتكلم عنهُ الناس وتشيد بقصائده.. لم أُفكر بالشعر يوماً أو أن أكون شاعراً، ولم أحلم بالشهرة، ولم أجعـل قصائـدي سُلماً لها.. بل كانت قصائدي سُلماً لأرتقي به إلى قلبها.. عبّرتُ لها عن حبي بالشعر.. وهي بالصمت.. لا أدري! كنتُ أُحبها كثيراً.. وهذا يكفي.. وأظن ليسَ مطلوباً من العاشق أن يبرر أسباب عشقه!
 وفي ذلك اليوم الذي لا لون له بنظري.. لمحتُ الخاتم في بنصر يدها اليمنى.. فوجئت.. وتأكدت يومها بأنها أصبحت بعيدة.. بعيدة جداً. تجمعت الأحزان في قلبي.. انتحبت بصمت.. بكيتُ ليلتها وحدي.. مَن قال بأن الرجال لا تبكي.. ألا يستحق منا رحيل الحب بحر دموع؟!
 عندما ودعتها في آخر لقاء.. شعرتُ بأنها لن تخرج من حياتي أبداً.. بقيت صورتها عالقة في ذهني بكل دقائقها رغم مرور السنوات الطوال.. وأسأل: متى كان الرحيل شفاءً من الحب؟ بل ربما الرحيل هو حطبٌ يضاف إلى نيرانه فتزيده اشتعالاً وتوهجاً!
 تسربت أيام العمر من بين يديّ كرمال جافة.. ومازالت إلى الآن تقبع في ركنٍ دافئ من قلبي.. وكل شيء في القلب يخفق! كل ما فعلتهُ اني شيدتُ لها ضريحاً في ذاكرتي.
 أُطفئ شريط رحلتي.. أنظر إليها.. أجدها مصغية لي بكل جوارحها، وهي تومئ برأسها أن أُكمل.. ماذا أقول لها بعد؟ لابد انها تنتظر الجواب الأخير.. كنتُ مقرراً في نفسي أن لا أرد على السؤال الأخير.. لكني أرضخ أمام ذكائها: 
 _ صحفيتي الصغيرة.. آخر ما أقوله لكِ.. ان صدها في حبي كان السبب في أن أصبح ما أنا عليه الآن . ولو تزوجت منها لَما أصبحتُ شاعراً!!
 انتهى اللقاء.. كنتُ سعيداً باعترافي أمامها.. فهي الوحيدة التي استطاعت أن تحرك أوتار قيثارتي العتيقة كما يحلو لها.. شعرتُ وكأن جبلاً من الهموم قد انزاح من على صدري.. فلدفء الذكريات تأثير ساحر.
 عندما صافحتني مودعة عند الباب.. قالت بصوتٍ هادئ، خجل يكاد يتوارى:
 _ هل يسعدك لو علمت: بأني ابنة مَن تحدثت عنها في هذا اللقاء!! 
كانون الثاني / 1996

 

 


الفهرس
ت اسم القصة  
1 النصف بالنصف  
2  البيت القديم  
3  عنقود الكهرمان  
4  الصروح  
5  على عجل  
6  أمام حمورابي  
7  شاطئ الضباب  
8  نوافذ للذكرى  
9  خيط الزمن  
10  الفيل  
11  ذكريات للبيع  
12  نافذة من القلب  
13  قضبان من ذهب  
14  الموعد  
15  ترنيمة أجراس  
16  جائزة نوبل  
17  لوحة الغروب  
18  الاعتراف  


الكاتبة في سطور

 كُليزار أنور
- مواليد العراق.
 _ عضو في الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق .
 _ تنشر في الصحف والمجلات العراقية والعربية .
 _ صدر لها :
 (( بئر البنفسج )) . مجموعة قصصية . صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد / 1999 .
 (( عجلة النار )) . رواية . صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد / 2003 .
- زوجة القاص محمد الأحمد.

www.postpoems.com/members/gulizaranwar