قصص متفرقة

قصتان قصيرتان:

غزل في باص مزدحم



في مقعد الباص الخلفي امرأة تجادل الرجل الذي يجلس معها وكانا ملتحمين الى حد الانصهار، حتى انهما يبدوان شخصا سمينا واحدا لولا رأساهما. ولوهلة قد تظن أنهما توأمان سياميان.



الرجل يضحك باستمرار والمرأة تتحدث اليه بوجه عبوس ونظرات حادة وهو يبادلها بنظرات هادئة، تسمع أحيانا صوتا مرتفعا لكنك لا تستطيع ان تفهمه بسبب الضجيج المنبعث من أنحاء الباص المكتظ بالركاب.



من مقعدي المقابل أرى حركات المرأة العصبية، وتوسلات الرجل الذي يبدو انه يحاول استمالة المرأة اليه، وكسب رضاها.. هي ليست جميلة جدا.. وثيابها بسيطة تبدو كعاملة في مصنع يستغل النساء بأعمال قاسية نظير أجور بسيطة لا يقبل بها العمال الرجال.



الرجل الملاصق للمرأة يبدو انه يغازلها، وهي ترفض مغازلته، آه.. من الباصات وما يحدث فيها.. دائما يقوم الرجال بازعاج النساء لكنني أذكر جيدا تلك المرأة التي كانت تحاول ملامسة الرجل الذي يقف خلفها لتغريه.. مسكين لم يتمالك نفسه فخرج مسرعا في أول موقف فيما وقفت المرأة تلك محتارة تندب حظها التعيس.



اما هذا الرجل فيبدو جريئا، لا يضيع لحظة من دون ان يهز شاربيه ويحرك حواجبه.. ويعدل ربطة عنقه.. والمرأة تبدو أكثر عصبية وغير راضية من هذه الحركات الصبيانية.



جاء قاطع التذاكر فحاول الرجل دفع قيمة التذكرة عن المرأة، لكن المرأة رفضت وأخرجت قطعة نقود ودفعت عن نفسها.



ترى ماذا يظن هذا الرجل نفسه؟! حتى لو كانت امرأة ساقطة هل ستقبل بأن يدفع هذا الرجل مبلغا زهيدا لينال رضاها؟ شيء ساذج حقا ادارت المرأة وجهها نحو النافذة، لم تعد تنظر الى الرجل وهو يحاول مرة أخرى كسب رضاها.



توقف الباص.. وقفت المرأة فبدت سمينة جدا قياسا بالرجل الذي وقف هو أيضا.. حملت المرأة طفلة كانت تجلس بالمقعد المقابل لها مباشرة، ولم يكن ظاهرا لي.. فيما أمسك الرجل بيده طفلا آخر لم انتبه الى وجوده أيضا.. وبيده الأخرى أمسك يد المرأة لتتمكن من الخروج من الباص، وهي تدفع وزنها الثقيل وعصبيتها الزائدة.. وانصرفت ابحث عن وجوه جديدة بين الزحام.



د. طارق البكري



السنديانة



في وسط حديقة بيتها سنديانة.. قالت لزوجها ان السنديانة شاخت وحان وقت اجتثاثها، وعدها ان يقطعها من جذورها عندما يجد وقتا لذلك.



سألته لماذا لا تحضر شخصا يزيلها من مكانها قبل ان تسقط وتؤذي أحدا؟



ضحك الزوج: «منذ متى يا زوجتي العزيزة يسقط السنديان؟» لم تقبل الزوجة بهذه السخرية.. شعرت بالحنق والغضب، حملت فأسا وخرجت لتقطع الشجرة بنفسها.. لكن الزوجة لا تعرف كيف تسقط سنديانة، فسقطت السنديانة عليها، وأصابتها بكسور.



ظل زوجها يضحك ويقول: «ما هكذا يسقط السنديان يا حبيبتي؟».









قصة قصيرة:

القرار الأخير



أسقط سماعة الهاتف على الارض.. قطع السلك الموصل للحرارة، حمل آلة الهاتف.. وضعها في سلة النفايات.. رمى هاتفه النقال من النافذة بعد ان سحب منه بطاقة الهاتف وكسرها.



«لتكن نهاية النهاية.. وختام الخاتمة.. وانقضاء فصول الحياة». قالها بسخرية.



انسحب من العالم بصمت.. شعر انه عاش اكثر مما يستحق، سنوات عمره الاربعون، بدت كافية لتشعل رأسه وقلبه شيبا وشقاوة.. استدرك في النهاية انه يحيا في عالم غرائبي عجيب.. عالم السيد فيه مغرور متملق، والطامع به غبي متسلق.



اكتشف انه يحيا في عالم لا ينتمي اليه.. هو يشبه الناس.. صوته كصوتهم.. لغته كلغتهم.. ثيابه كثيابهم.. مركبه كمركبهم... بيته كبيتهم.. لكنه ليس منهم.. يشبههم ولا يشبههم.



ضيق قدر ما يستطيع مساحة التشارك معهم، بني في داخله مملكة يعيش فيها.. كائن غريب صورته كالبشر، لكنه لا يشعر لحظة انه ينتمي اليهم.



لقد صمم على ذلك.. قرار لا رجوع، ربما هو مخلوق آت من مكان آخر، او نوعية مستنسخة من البشر لكنه بالتأكيد ليس منهم.. تنامت في داخله مشاعر الاغتراب حتى وصل الى قناعة العزلة.. فالعزلة خير من العيش مع مخلوقات لا ينتمي اليها.



قرر ان يشيخ في الظلمة.. قرر ان يسكن العتمة والصمت والسجن.. فلا تلمع بعد الان شيبته.. او بالاحرى صلعته تحت ضوء الشمس ونور القمر «فليكن ما يكون.. وليعلم العالم انني جنس غريب ليس من البشر».



حاول مرات ومرات ان يسقط في عالمهم.. ان يشيد احلاما من خيال، ينسجها خلف الاقنعة المتهاوية مثل المطر.. كان ينصت بسكون لكل الالسنة المتبدلة المتصنعة.. حاول.. لم ينكر انه حاول.. لكنه كان يسقط في كل محاولة.. عند درجاتها الاولى.. فلا ينجح في اثبات ما يريد.. ولا يقوى على تزوير ما لا يريد.. وفي الحالين كانت نصال الخوف والفزع والانكسار تنسل بوحشية ووقاحة.. تنغرز في صدره من دون رحمة..



كان يرى الناس من حوله اقنعة على اقنعة.. على اقنعة..



صائب واحد منهم.. ومنصور.. ورمزي.. وتوفيق.. وهيثم.. وغيرهم كثر. صائب.. مسؤوله المباشر في العمل.. كان يزوِّر حتى نفسه وما ايسر عليه ان يغير في كل يوم مبادئه.



هيثم بدل حتى دينه لينال منصبا تافها اعجبه.. توفيق مستعد ليبيع اولاده ليسود ويترقى.. وكان بينهم - وغيرهم - كطابة تتلاطمها الاقدام، او ورقة صفراء في مهب الربح.



هرب منهم.. ومن غيرهم..



لجأ الى اخرين مغايرين معاكسين.. فلفظوه قبل ان يحيا بينهم.. كشفهم على ما هم عليه من عري مستور قبيح.. حاول ان يكذب على نفسه.. قدم لنفسه تبريرات.. زوَّر.. نعم زوَّر.. مثل كثيرين حوله، لكنه مزور فاشل، لا ينطلي تزويره على احد.. فقذفته الامواج على صخور الجراح.



لم ييأس .. حاول.. مرة جديدة.. مرات جديدة..



ومضى يتصيد الالم حيثما تقلب.. ما هكذا تورد الابل.. تراءت له احلام الشباب كلوحات فسيفسائية متحطمة.. شاهدها على جراحه التي تعفنت من كثرة ما أجَّل المداواة.



لجأ الى بيته.. حتى بيته لم يخل من صياحهم ومزاحمتهم له.. قرر قطع كل ما يمت له بصلة الى البشر.. جمع كل ماله الذي حصده في حياته.. مبلغ لا بأس به، سيضيف اليه مبلغ نهاية الخدمة.. واجرى حسبة بسيطة.. مبلغ جيد، يكفيه ربما 30 سنة آتية، هذا لو كتبت له الحياة طوال هذه المدة.. سيعيش بهذا المبلغ ببساطة.. هو يملك المنزل، ورثه عن والده.. يوجد 3 شقق مستأجرة، لكن ايجارها بسيط لا يكفي ليومين.. قرر ان يعفي المستأجرين من هذا الايجار الذي يبدو له رمزا لتواصله مع البشر.. تنازل ببساطة لكي لا يرى واحدا منهم.



سيخرج مرة واحدة في الشهر فقط.. يشتري ما يحتاجه من طعام ويعود الى بيته.. بل الى سجنه الطوعي.. ويكفي كل هذا الزيف والغرور والتملق.



«لو كنت متزوجا لازدادت حياتي سوءا.. لا ادري ان كان اولادي سيكونون سجناء مثلي.. او مثل هؤلاء الاقنعة..».



«حتى أن نفسي كنت قناعا لنفسي».



«سأتفق مع صاحب الدكان المجاور ليأتيني بالطعام والغذاء الذي احتاجه مرة واحدة في الشهر.. ليضعه خلف الباب.. سأعطيه ما يريده من مال من فتحة الباب السفلي.. هكذا أفضل من الخروج.. لا اريد رؤية الاقنعة المزيفة.. حتى صاحب الدكان يصطنع لكل مشتر قناعا..آآخٍ... لو كان لهذه الاقنعة سوق تباع فيه وتشترى لراجت هذه الاسواق واصبحت مصانع الاقنعة اكثر من المخابز والمطاعم.. ولأصبح اصحابها من اثرى الاثرياء..».



د. طارق البكري











قصص قصيرة جداً

الطفل الذي يلعب



بقلم: د. طارق البكري



الطفل الذي يلعب

حمل الطفل لعبته الممزقة.. رماها تحت آلية عسكرية مجنزرة.. فتفتتت.

حمل لعبة جديدة رآها على زاوية الطريق.. أخذها فرحاً إلى بيته..

في المساء.. لم تجد أسرته لا كفنا ولا تابوتاً.. لفوا جميعا بشراشف تنبعث منها رائحة البارود والدم.. ثم دفنوا في تراب البيت..



مشهد لم ينشر

صاح الجندي..

go out.. go out

لم يخرج أحد..

اشتدت صيحاته وزمجراته.. نادى الجنود.. «أخيراً وجدنا ما نبحث عنه»..

خلعوا الأبواب.. وجدوا الأطفال يرتعدون، يحيطون بشيء ما..

والأم تتصدى لهم بصدرها..

ها.. ماذا تخفين؟!.. ابتعدي..

ضربها أحدهم بكعب البندقية..

ضرب الصغار بحذائه العسكري..

اكتشف أنهم يحمون رضيعاً.. ملفوفاً بخرقة بالية..

لكن هذا المشهد لم يجد طريقه إلى النشر





البوق الحالم

ظل يعزف ألحان النصر والسفينة تغوص في القيعان.. حتى جاء من يخبره بانتهاء الحفلة وانتحار المدعوين، فلم يجد بعدها من ينفخ له موسيقاه.. فادعى أنه العازف الأخير.. فنصبت الخيام واستقدمت الراقصات.. ولكنهم عندما سمعوه اكتشفوا نشازه فقطعوا عنه الهواء وأعادوه الى السفينة التي غرقت.





فاطمة عندما تغضب

فاطمة متوسطة العمر، في حوالي الأربعين من عمرها.. جميلة جدا، لم تزدها السنون إلا إشراقا.. الابتسامة لا تغادر شفتيها.. وشعرها الأشقر المصبوغ ينسدل ناعما وراء ظهرها مثل الشلال، وتتركه حرا يتراقص كسنابل القمح مع النسيم..



فاطمة ابنة رجل ثري جدا.. تزوجت مبكرا.. كان عمرها سبع عشرة سنة، انجبت مرتين، هما الآن في مركزين مرموقين..



تضحك حتى تظن أن الضحكة شيء مخلوق معها.. الابتسامة شكل طبيعي في وجهها..

مرة غضبت.. ومع ذلك ظلت تضحك..

لم تستطع ان تظهر الغضب.. كأن الابتسامة تحجرت فوق شفتيها

مسكينة يا فاطمة.. الضحكة لا تفارقها..





وحيدة رغم كل شيء

هي امرأة مثل النساء.. تعرف كيف تكنس وتمسح وتطبخ وتكوي الثياب وتنجب الأطفال.. ومع ذلك لم تتزوج.. تصرّ أن لا رجلَ يستحق الفناء من أجله.. فالزواج في اعتبارها شيء من الموت.. والعذاب قطعة من الزواج..



فكرة واحدة كانت كفيلة بتغيير رأيها.. بدأت الشيخوخة تزحف نحوها.. حاولت طردها.. لم تستطع، وبعدما كان شباب الحي يحومون حولها تناثروا بعيدا كما تتناثر الديدان فوق الرمال..



«أنا امرأة.. ولا أجد رجلاً يستحق الفناء من أجله»..

تلاشت هذه الجملة في شفتيها..

هي امرأة ولكن.. دون رجل.



قصة قصيرة:

العالم يحتفل بعيد ميلاده!



الضوء يتسلل من تجاويف الخشب العفن.. والصمت بلا حدود..

عندما تمر السيارات تمزق وشاح السكون المنسكب كعباءة شتوية في ليلة اختبأت فيها النجوم..



اليوم يحتفل كل العالم بميلاده.. ولا يدري أهي ليلة نحس، أم سعادة، الكل حول العالم يرقص ويغني.. وهو يقبع في قبوه الذي لا يربطه بسطح الأرض سوى نافذة علوية من الخشب العفن.. نخرها السوس.. قبل سنين طويلة خرج الى الدنيا.. أخبرته أمه أنه ولد في رأس السنة، والده خرج هائما يبحث عن وسيلة نقل تحمل زوجته الى المستشفى.. فدهسته سيارة مسرعة.. لم يعلموا عن موته إلا في اليوم التالي، أما هو فقد ولد على يد جارته العجوز.. وحمل ميلاده هذ التاريخ، واسمته أمه باسم والده..



ابتسم.. هو يبتسم مرة واحدة في كل عام، عندما يتذكر عيد ميلاده، وهل ذلك غريب على رجل جاء الى الحياة على جثة أبيه؟



«كم أكرهك.. لن أدعك تمص ثديي.. لولاك لما مات أبوك»..



رمته كعظمة للكلاب الشاردة..



من يصدق أن أما تكره الأمومة؟.. تحمل رضيعها مسؤولية القتل؟



بل.. منذ متى يحاكم الأطفال؟



بل.. كيف يحاسب إنسان على جريمة لم يقترفها؟



«أكرهك.. أنت مثل جلد حمار نتن.. ألحق بأبيك خير لك»..



الجارة العجوز أم عمّار، هي في الحقيقة ليست أما لعمار ولا لغيره، وهي لم تتزوج في الأصل.. فقد كانت دميمة قبيحة، ولديها تشوهات في يديها، وشفتها العليا تلتصق بأنفها.. وهذا شكلها في سن الصبا.. فتخيل شكلها وهي فوق الستين.



فمن يتزوج مثل هذه المرأة؟ قبح وفقر وتشوّه خلقي.. ما أقسى هذا العالم الذي تحكمه معايير قد يفقد الناس بعضها.. فيصبحون «عظاما للكلاب الشاردة»



أم عمار.. رغم كل بشاعتها.. ورغم هروب الرجال منها وعزوفهم عن الزواج بها اغتصبت أكثر من ثلاث مرات، كان ضعفها، ووحدتها، وعدم وجود من يحميها.. كل ذلك يشكل إغراء لرجال كرهوا دمامتها.. وأفرغوا ـ مع ذلك ـ شهواتهم في جسدها المشوّه.



كان يحدق في المرآة المتصدئة.. والابتسامة الساخرة تلوي شفتيه الى اليمين..



مرة.. وهو في الرابعة أو الخامسة.. شاهد آخر اغتصاب لها.. كما لو كان يحلم بشيء لا يعرفه..



المشهد لايزال ماثلا أمام عينيه.. يراه كشريط سينمائي شديد الجودة.. امرأة فوق الستين.. تفتح شهية لصوص.. لم يجدوا في البيت شيئا سوء هذا اللحم المجعد.. وضعوه أمامهم.. جعلوه يراقب ما يحدث.. كان خائفا.. مرتعدا.. ثم هربوا وتركوها تموت عارية بين يديه..



وماذا يمكن لطفل في الخامسة أن يفعل.. وهو يرى مثل هذا المشهد المأساوي.. الأليم؟.. وماذا يستطيع ان يفعل سوى ان يحفر هذا المشهد في خياله الغض الطري.. وهو لا يعرف غيرها.. ولم يذق غير طعم صدرها الجاف.. ومرارة دمعها الذي كان يسيل في كل حال وحين..



قصيرة قامتها.. ولعله ورث عنها هذه القامة، مع أنها ليست أمه الحقيقية.. التي لا يدري ما اذا كانت لاتزال تعيش حتى اليوم.. وحتى لو كانت حية، هل ستقبل أن يرتمي في أحضانها.. وهو كبير، بعد أن رفضته وهو صغير محتاج لحليبها؟..



من حين لآخر، توقظه المفرقعات التي تتردد احتفاءً بالسنة الجديدة، تنثر خيالاته وتعيده لواقعه.. يبتسم من جديد.. العالم يحتفل بعيد ميلاده.



د. طارق البكري







قصة قصيرة

حساب الزمن



ببطء بالغ النفور، خطت نحو الهاتف لتخرس هذا الرنين الذي لا ينقطع، استجمعت ما تبقى من قوة واهنة ورفعت السماعة.. وخرجت الكلمات من فمها كأسياخ محماة على جمر ملتهب.. «ألو.. نعم».



كان الطرف الآخر قد يئس وأغلق السماعة..



حبست أنفاسها.. مطت شفتها السفلى ساخرة.. بعدما كانت اسرع عداءة من المدرسة حتى الجامعة.. أصبحت الآن لا تقوى على اللحاق بهاتف مجهول، يبدو ان صاحبه أخطأ الرقم.



لم تكن تملك شراء هاتف لاسلكي.. المال لم يعد مشكلة، فلا وجود له اصلاً، كما ان حرارة الهاتف ستنقطع عما قريب.. فالفواتير لا تدفع، والفواتير كثيرة، ثم ما حاجتها إلى الهاتف ومن يريد الاتصال بها؟ هل سيتصدق عليها احد لدفع فاتورة الهاتف كما يدفعون للبقال قيمة اللقيمات التي تتناولها.. بل ماذا تأكل غير خضار، ومن سيطبخ لها؟ وطعامها لا يتجاوز حبة طماطم وخيارة واحدة.. وقطعة جبن.. ومع ذلك يتوهج «السكري» طمعاً بجسدها الواهن.



مسكينة.. امرأة متعففة، قُتلت عائلتها قرب النهر، ولاذت بالفرار، لكن شظايا لعينة سحقت قدميها وأجزاء من جسمها.. وكادت تقضي على روحها «الحية».



«يا ليتي مت معهم»..



هذه أمنيتها القديمة الجديدة.. حاولت قتل نفسها، لكنها وفي كل مرة تنكس رأسها، وترتد خائفة.. «يكفيني ما انا فيه من عذاب..».



امرأة صلبة.. اقوى من جذور شجرة البلح المزروعة من سنين في مدخل بيتها القديم المتهالك.. لكن الجذور تموت ايضاً.



في عينيها الف سؤال.. أقله: «من كان وراء رنين الهاتف الأقرب الى الموت منه الى الحياة؟».. نبضات قلبها تُسمع كرنين الهاتف.. وصوت الآه تجمد حيث التماهي والتوحد.



رأت على النهر بساطاً من الدم.. وأشلاء من اللحم..



«هذه ليست لعبة.. لتكن ما تكون؟».



هذا ما سمعته من جنود لا تعرف هويتهم.. وهي لا تحفل الآن بماض ولا مستقبل تريد الموت لتلحق بمن فقدتهم.



يعود الهاتف ليقطع مشهد الموت المتصل..



«من.. من؟».



ينقطع الاتصال..



هذه المرة أجابت على الفور.. كانت قرب الهاتف مباشرة، لم تكن بعد قد قررت قطع المسافة الشاقة.. «زحفاً» نحو «الرنين»، ومع ذلك لم تظفر بالمتصل.



«لا بأس» يبدو انه يبحث عن صوت جميل عذب.. فماذا يريد بعجوز مثلي؟



علقت مبتسمة للمرة الأولى منذ اشهر طويلة.. ابتسامة ساخرة.. تشبه ابتسامة الموناليزا.. لكن هناك فرقاً وشتان ما بين ابتسامة وابتسامة.



باب البيت يظل مفتوحاً على الدوام..



البقال القريب يأتي من يوم ليوم يحضر بعض الطعام الذي يدفع ثمنه الجيران.. يظن ان العجوز تخفي ثروة.. يبحث بعينيه غالباً.. وبيديه من حين لآخر.. في درج هنا، وكيس هناك، ويحرك برجله أثاثاً متهالكاً.. ربما.. ربما هي تفهم ما يفكر به.. «ومن أين المال؟».



«مسكين هذا الرجل أكثر مني.. وماذا سينفعه المال؟.. لو كان معي هل قبلت من الناس احساناً؟».



لو استطاعت الوصول الى الباب وغلقه الى الأبد لفعلت.. «هو بالتأكيد يستغل طيبة الناس ويأخذ منهم أموالاً مضاعفة ثمناً لحبة طماطم وخيارة واحدة.. وقطعة جبن..».



«الناس طيبون.. لكن من يحميهم من الجشع؟».



«آه لو أموت فسيموت هذا الرجل من غيظه.. بل اظنه هو الذي سيقتلني طمعاً بثروة موهومة لا وجود لها إلا في عقله..».



«النهر الذي شرب دماء الأحبة أخذ معه هذه الثروة.. ومن يقدر على لملمتها من قعر النهر.. ومن بطون السمك؟».



عاد الهاتف يرن..



لكنها لم تأبه به.. ستقطعه هي قبل ان تقطعه مصلحة الهاتف.. هي لا تريد هاتفاً في الأصل..



استجمعت ما تبقى لديها من قوة.. أمسكت بالسلك الرفيع سحبته ببطء بالغ الفتور.. ألغت حرارته الميتة.. سجنت ذلك الرنين الساخر.. فمن يتصل.. في ساعة متأخرة.. وفي وقت متأخر.. خارج حساب الزمن..



د. طارق البكري

View bakri's Full Portfolio