حضور الأندلس في الأدب الفلسطيني الحديث





د. حمد عبدالله الجعيدي [1]

من مظاهر التواصل الحضاري لعروبة فلسطين تمسك أدباء هذا البلد ـ مسلمين ومسيحيين ـ بتراثهم العربي والإسلامي [2] ، حيث تشكل الأندلس واحدة من الحلقات المهمة في هذا التراث ، بما قدمته للحضارة الإنسانية من معارف وتجارب إنسانية غنية للتعايش العرقي والتسامح المذهبي في ظل السيادة العربية الإسلامية ، إلى ان جنت عليها أيد إسبان نصارى متعصبين في غفلة من حكام تنازعوا فذهبت ريحهم وآل ذلك الصرح الحضاري العظيم إلى مصيره المحتوم .

وقد تراوح حضور الأندلس في الأدب الفلسطيني بين صورة الأندلس الفاتح المتفتح ، مدعاة الفخر ،متمثلة في عملية الفتح ذاتها ( 92هـ ـ 711م ) وفي بناء صرح الحضارة في قرطبة وإشبيلية وغرناطة . .  . وما قدمته هذه البلاد في ظل السيادة العربية الإسلامية من علماء ومفكرين و أدباء وساسة وقواد ، وبين صورة الأندلس المفكك المغلوب على أمره إلى أنْتَ تمكنت الممالك الإسبانية النصرانية ومن ورائها أوروبا ، من الاستيلاء على آخر معقل للعرب المسلمين بشبه الجزيرة الإيبيرية سنة 879هـ /1492م . وثمة صورة ثالثة لهذا الحضور تمثلت في طبيعة الأندلس الجميلة : " جنة الله على الأرض "  في ظل العرب المسلمين ، و"الفردوس المفقود" بعد غروب شمس الإسلام والعروبة عنه .

وقد تمكنت صورة الأندلس من نفوس الأدباء الفلسطينيين حتى أصبحت مصدر إلهام لهم ، منه يستدعون انتصارات طارق بن زياد أحد أشهر القادة العسكريين في عصره  [3]، وقوة عزيمة عبد الرحمن الداخل وحنين ابن حمديس الصقلي إلى وطنه ، وشموخ الحضارة الأندلسية ومصيرها المأساوي عبر جسر ( زمكاني ) يربطهم بواقعهم الفلسطيني المؤلم في ظل واقع عربي لا يقل مأساوية ـ إن لم يزد ـ في ظروفه عن تلك الظروف التي أدت إلى "غروب شمس العرب عن الأندلس ".

وقد استدعى الأديب الفلسطيني الأندلس إلى واقعه عبر مسافة زمانية اتسعت لتشمل التاريخ العربي الإسلامي بأكمله ، ومسافة أخرى مكانية امتدت لتضم ضفتي البحر الأبيض المتوسط . وقد يكون محمود صبح قد شعر بهذا الامتداد عندما حصر إهداء ديوانه " كتاب لقيثارتين " في عبارة : "إلى ضفتي بحري ".

وسوف نتابع هذا الحضورـ بعد التعري بمصادره وتحديد إطاره ـ عبر عناصره التي استدعاها الأدباء الفلسطينيون في إطار مكونات عملهم الأدبي .

ومصادر البحث هي مصادر الأدب الفلسطيني منذ أواخر العقد الأول من هذا القرن حتى اليوم ."وعند الحديث عن الأدب الفلسطيني يتوجب التمييز بينه وبين الموضوع الفلسطيني في الأدب . . . فالأدب الفلسطيني هو الأدب الذي كتبه فلسطينيون أينما وجدوا ، ومهما اختلفت جنسيات جوازات السفر التي يحملونها لأجل الوصول إلى لقمة العيش ،وكروافد للأدب الفلسطيني تعتبر تلك الدراسات التي دارت حول هذا الأدب مهما اختلفت جنسية مؤلفيها .

ونحن إذ نصر هنا على فرزما هو فلسطيني عما هو عربي غير فلسطيني فإننا لا نجد أي مبرر لانتهاج النهج نفسه فيما يخص أقطارا عربية أخرى غير فلسطين، حتى ولو كان ذلك بحسن نية ،وذلك لأن الوطن العربي اليوم ،أرضا وشعبا وثقافة وفكرا أحوج من أي وقت مضى لاختفاء هذه النعرات القبلية ، إلا فيما يتعلق بفلسطين ،فإنه يتوجب التأكيد على صفتها الذاتية المحلية ، لأن هذه الصفة الذاتية المحلية هي المستهدفة اليوم ،واسمها هو المطلوب حيا أو ميتا لدى الاستعمار والصهيونية وبعض الأنظمة المحلية الدائرة في فلكها .ففلسطين اليوم هي أشبه ما تكون بعضو الجسم الذي يلدغه ثعبان مفرغا فيه كل سمومه فيأتي الطبيب ليشد الضماد عليه مانعا من ان يتسرب منه واليه حتى لا ينتقل السم إلى سائر الجسد .وعند ما يتم التطهير ويتخلص العضو من السموم الغازية ، فلا بأس من ان تفك الضمادة كي يعود العضو إلى الجسم دون ان يضر به . . . هكذا يتوجب علينا ان نضمد الجرح ، ونشد ضماد التحرير حول فلسطين بحدودها الإقليمية من النهر إلى البحر ، ومن الرأس إلى الخليج حتى تتطهر من سموم الاحتلال ،وعندها تعود إلى الوطن الأم ،ويسقط كل مبرر لوجود هذه الصفة الإقليمية " [4].

ويشمل الإطار الزمني للبحث القرون الثمانية لتاريخ الأندلس والقرن العشرين من تاريخنا الحديث . أما الإطار المكاني فيشمل المساحة الجغرافية للأندلس ( العربية المسلمة ) والوطن العربي . ومن هنا تخرج من هذا البحث الإشارات كلها التي تشير إلى المدن الأندلسية أو إلى الأندلس ( كإقليم في إسبانيا المسيحية ) في فترات تخرج عن إطار القرون الثمانية .

وقد خرجنا من قراءة ما توفر لدينا  من مصادر الادب الفلسطيني بنتيجة تتمثل في ندرة استدعاء كتاب النثر الفلسطيني للأندلس حيث تكاد تنحصر محاولاتهم فيما قام به خليل بيدس [5] ومحمد نفاع وخضر زهران ونجاتي صدقي و إبراهيم الشنطي وهي على أي حال إشارات ليس بإمكانها منافسة مثيلاتها عند الشعراء الفلسطينيين ، في الكلم أو في الكيف  [6].

ويمكننا تصنيف عناصر حضور الأندلس في الأدب الفلسطيني في حضور الأمكنة وفي استدعاء الشخصيات التاريخية والأدبية .

أما الشخصيات التاريخية فقد استدعى الأديب الفلسطيني منها تلك التي قامت ـ إيجابا أو سلبا ـ بدور مهم في تاريخ الأندلس و تغيير مجراه ،ومنها شخصية طارق بن زياد فاتح الأندلس وصاحب الخطبة المشهورة ، فقد استدعى الأديب الفلسطيني هذه الشخصية وشكلها وفق حاجته الا بداعية ،وخدمة للفكرة التي يود توصيلها محاولا خلق نوع من التوازن بين الإبداع والالتزام ، من هنا جاءت شخصية طارق بن زياد وانتصارها البارع رغم ضعف العدد والعدة ،محفزا للخروج من الواقع المتردي وتجاوز الهزيمة  [7].

في قصيدة "لا مفر "من ديوان "سفينة الغضب "يخاطب هارون هاشم رشيد أبناء شعبه المشردين ،متقمصا شخصية طارق بن زياد ،ومتخذا من عبارات خطبته المشهورة محورا لقصيدته مع شيء من التحرير في عبارات الخطبة ،وتلك ضرورة سعى إليها الشاعر للوصول إلى أكبر قدر ممكن من الصدق في نقل واقع المأساة التي يعيشها شعبه :

أحبتي . . .

فاليوم . . . يومكم

فالبحر من ورائكم

والخصم من أمامكم

فما لكم . . .

والله حتى الصبر

ولالكم . . .

والله حتى القبر [8]

فشخصية طارق التي تقصها الشاعر تحصر معاني خطبتها في الواقع الفلسطيني ، حيث تمتلئ الخنادق قبل بالجثث قبل القتال ،وهذه إشارة إلى الحروب الشكلية ذات النتائج المدمرة التي خاضتها الأنظمة زورا باسم فلسطين . كما يتوقف الشاعر في منتصب القصيدة ليعيدنا إلى خلاصة الرسالة التي يحملها وهي التعريف بالواقع الفلسطيني وذلك بإعادة الحوار إلى الشخصية المستدعاة والنقل عنها :

تاريخكم . . .

ومجدكم . . .

مغارب مشارق

يهدر في آذانكم

كالرعد كالصوا عق

بمثل ماقد قالها

للفاتحين طارق :

. . .  . . .  . . .

ولتهدر الجبال

في القدس  .. .

في نابلس . .  .

في جرزيم . . .

في عيبال . .  .

الثورة .  ..

. .. ..  . . .

يا رجال . . .  [9]

وفي إطار الواقع المعاش تتخذ صورة طارق عند محمد عز الدين المناصرة طابع التملص من المسؤولية والهروب من الواقع ومن المواجهة ، حيث نجد طارق بن زياد في "غيمة ساحلية " يتسكع في المقاهي ليشارك المغلوبين على أمرهم رحلة الهروب من المواجهة ، وبهذا تتدرج الشخصية المستدعاة بسلبيتها في إطار السلبية العامة التي يعيشها الواقع العربي المعاصر .

سأذهب إلى مقهى الأندلس

وأدق كأسي بكأس طارق بن زياد

وأقول اتبعيني أيتها المدينة [10]

لكن صاحب "الكنعانياذا " ـ وهو واحد من أكثر شعرائنا الفلسطينيين استخذا ما للمادة التراثية ـ يدرك ان الهروب من المواجهة هو ضرب من العبث فيضع له حدا ويغوص ـ من جديد ـ في التاريخ العربي ليستدعى شخصيات منها :" ابن زريف الشامي "و" على الجهم الدامي " و" دليلة الغزاوية " وكلها أسماء تعبر عن انتصار الارادة ومنها يستمد المناصرة العزم على التمسك بأصوله الكنعانية حتى إنه "يمط " هذه الكلمة تأكيدا على هذه الهوية الوطنية التي فيها خلاصه :

وأقول هذه حيفا

أو أفعل كما فعل أبو محجن الثقفي [11]

فالشاعر يريد وضع حد لواقع التردد والهروب من المواجهة تماما كما وضع أبو محجن الثقفي حدا لقيده وشارك في معركة القادسية ضد الفرس ، إلى ان انتصر الفاتحون المسلمون .

ويعود المناصرة في "يا أخضر "من ديوان "لن يفهمني أحد غير الزيتون " ليغمس شخصية طارق بعد استدعائها في جدلية الواقع المعاش ،وليتقمصها وينطق باسمها أو ينطقها باسمه :

بيت قرب الفاشست يطل على البحر ، يعانق أشجار الأرز

ويحميني من زخات المطر ومن دقات الشرطة فوق الأبواب البيضاء

الجبل أمامي والبحر ورائي ، والفرس الخضرا بين الأحراش الزرقاء

هل أكتب ان المنطقة العليا تعني المنطقة السفلى ،هل أكتب

ان القمح رماد ،ان الماء دم وان الضحك بكاء؟‍‍ ‍‍‍‍!! [12]‍

وفي أطار هذه الجدلية يستدعي معين بسيسو في "قصيدة من فصل واحد " شخصية طارق في صورة سجين عصرنا حيث يصلي الجواسيس خلف علي ، ويسألون الطعام من يد معاوية حتى يتد حرج رأس الشاعر الجاسوس على ربابته بعد ان يسعى لدى الخليفة للنيل من الشعراء الشرفاء :

و"طارق "في الزنزانة

"طارق " فتح الأندلس

وفتح خليفتنا الزنزانة  [13]

ويقترن اسم طارق هذه المرة أيضا بأسماء أخرى من التراث العربي انعكس عليها الواقع المعاصر فاختلفت  دلالتها باختلاف واقعنا اليوم عن واقعها بالأمس ، فجاءت موازية لدلالة طارق ، قائد الأمس ،سجين اليوم ، حتى يصبح "سيف الدولة "عينا للروم ، ويغني " عنترة " انتهاك "أنو شروان " لعرض "عبلة " . . .

وتحدث المفارقة بين التاريخ والجغرافيا عندما يجمع ناهض منير الريس بين شخصية طارق رمز الكرامة والنصر ،وبين صورة حكامنا اليوم كرمز نقيض ،حيث مضيق جبل طارق ومضايق تيران قطبان لجدلية مأساوية تبدأ بالفتح في الأندلس المسلمة ، وتقف عند الاحتلال الأجنبي لأراضينا العربية اليوم :

إني أعود من جرائد المساء خالي الوفاض

أدخل قمرتي ،

وأفرد الخرائط التي وجدتها

في غرفة الزيت وأبدأ المسير

هذا المضيق ما اسمه ؟

وطارق . .  .

هل زار شرم الشيخ أو تيران ؟.

لكن بحر الصين في مكانه يبدأ من إيلات  [14]

وتنتقل شخصية طارق بن زياد في "مسرحية الزنج " من موقع الانا إلى موقع الأنت ، وهي نقلة نوعية تتمشى مع محاولة الشاعر الانتقال إلى مواقع أكثر تقدما في  معركة الخلاص الفلسطيني ، حيث ينقل معين بسيسو عملية تقمص الشخصية من الأنا الى الأنتم فيصبح طارق مدعوا للجهاد والخلاص لا داعيا لهما ،ويتم هذا الاستدعاء ـ كما في مناسبات أخرى ـ في إطار شخصيات تراثية أخرى حققت أيضا الانتصارات :

مكبر الصوت رقم :

نحن العرب . . .

لهب . . . لهب . . . لهب . . .

غضب . . . غضب . . . غضب . . .

نحن العرب . . .

مكبر الصوت رقم :

انهض يا عنترة العبسي . . .

واصهل في نافذة القدس . . .

اشعل يا طارق . . .

سفنك بركان حرائق . . .

مكبر الصوت رقم :

( ينطلق صوت محمد عبد الوهاب في المقطع الأول من نشيد )

أخي جاوز الظالمون المدى . . . فحق الجهاد وحق الفدى . . .

( مكبرات الصوت كلها تنطلق مرة واحدة وتردد )

لهب . . . لهب  . . . لهب . .  .

غضب  . . . غضب . . . غضب . . .

نحن العرب . . .  [15]

وتستمد الرغبة في الخلاص عنفوانها من المأزق الراهن ، من رصيد الماضي الزاهر للعرب ثقافة وجهاداً، فيصبح جبل طارق ملجأ من الواقع المتردي، به يحتمي الشاعر، وعلى نجوة منه ينتظر طارق اليوم ليحرق واقع الذل والهوان الذي تتخبط فيه امته، وربما كانت هذه اوضح اشارة في اندلسيات فاروق مواسي، تربط واقعنا اليوم بمأساة الاندلس.

اود ان اصعد الجبل

لأرتقي قلعة "طارق"

فهي من مخمل يبعث الدفء

بهجته متوثبة

اود أنْ اخطو في ظل "طريف"

بصحبة امواج من الآيات

البحر من ورائيه

و"طارق" يحرق السفن

حتما هنا، ربما هناك [16]

لكن هذا الحلم في الخلاص سيظل غير قابل للتحقيق ما دمنا لا نتعلم دروس التاريخ من مأساة الاندلس، ولهذا يعود الشاعر لوضع الاصبع على الجرح المفتوح.

ايها  البطل  الذي انكره " موسى بن نصير "  [17]

فأنكر الخليفة  موسى بن  نصير

وانكر بعضنا  بعضا

حتى صرنا

موتا  ممتدا

لهبا  ممتدا

فأعادونا من نفس المضيق  [18].

فالأندلس  وطارق بن زياد  كلاهما ظاهرة تاريخية  كالأحداث  القديمة  المعروفة  الأخرى  لا حقيقة  لها في الواقع  العربي . ولا قيمة  لها تاريخيا ان لم تخرج الى حيز  التأثير في الواقع  فما لم تكن  تجارب العرب  المتقدمين  مرايا للمتأخرين  فهي عدم .  لذلك يشكل الشاعر العربي المعاصر  في الماضي  وفي  امجاده  بناء على معطيات الواقع الراهن ، فلا الجيش  العربي اليوم  جيش  ، ولا الحاكم  العربي حاكم  ، ولا العدة العربية  عدة  .لذلك  لا غرابة ان تنهار المدن العربية  وا ن تسقط  الأندلس  . . . كما  سقطت  ( سابقا)  [19].

اما ثاني  الشخصيات  التاريخية  التي استدعاها الأديب  الفلسطيني  فهي شخصية  عبد الرحمن الداخل  التي وجد فيها صورة  لكفاحه وللظروف المحيطة  به  الشبيهه بالظروف التي احاطت بعبد  الرحمن قبل  قرون .ومن القواسم  المشتركة  التي دفعت الأديب الفلسطيني  لاستدعاء  شخصية  عبد الرحمن  [20]:

ـ ان عبد الحرمن رزىء في أهله وشرد من  وطنه حاملا على عاتقه  مهمة النجاة  بالنفس  اولا . ثم استرجاع مجد الأمويين ثانيا . حيث  لاحقته خيل العباسيين  في مخبئه على ضفاف  الفرات  فاجتاز  النهر والجند  يقطعون رأس أخيه  يحيى ذي الثلاثة  عشر عاما . أمام ناظريه  .

ـ ان عبد الرحمن  توجه الى فلسطين  واختبأ بها  حتى ادركه فيها مولاه بدر  وابو الشجاع  مولى أخته ام  الاصبح . ومن فلسطين  شرع عبد الرحمن  ـ متخفياً  ـ في  رحلة الخلاص  الى الأندلس  عبر الساحل  الافريقي .

ـ ان عبد الرحمن قد  لاقى في رحلة الخلاص ضروبا من  العذاب  والتنكيل  . حيث نجا باعجوبة  من براين عبد الرحمن  بن حبيب  القهري   . والى افريقيا راح  ـ كم يحدثنا  ابن عذاري في بيانه  المغرب  ـ يقتل الواصلين  اليه من الامويين ويجردهم من اموالهم  . خوفا  من خطرهم على طموحاته  في الأنفصال  بولايته  عند الخلافة .

ـ ان معاناة  عبد الرحمن  قد انتهت  بتحقيق الغاية . حيث اجتاز  مضيق جبل طارق سنة 138 هـ / 756  م . واستولى   على قرطبة وبنى بشمالها   الغربي  قصرا أسماه  الرصافة تيمنا بقصر جد هشام قرب دمشق . وجعله مقرا للامارة  كما طور قرطبة لتكون  حاضرة الأمويين بعد سقوط  دمشق .  وبنى مسجد قرطبة الجامع على طراز الجامع الأموي بها .

ـ بعد تمكن عبد الرحمن من اقامة امارة وراثية   للأمويين بالأندلس  اكتفى  بلقب أمير تأدبا  في حق الخلافة  . وتجنب  الرد على تحرشا العباسيين  حفاظا على وحدة الأمة وسمعتها ، ولم يكن ذلك  عن ضعف فيه ا انه لم يتردد  في تلقين المنصور الدرس  الذي يستحقه  في حينه حتى جعله يحمد الله  الذي جعل بينه وبين عبد الرحمن  البحر مانعاً . وحارب  نظام عبد  الرحمن القبلية والعصبية  ، وفتح  الطريق للأندلسية الحقة .وق توفي عبد الرحمن  بعد ان حقق اكثر مما يريد  [21] .

ـ ان عبد الرحمن  لم ينس  وطنه وأهله  ، وظل  يرى الأشياء  في الأندلس  من منظور  شامي :

أيها  الراكب الميمم ارضي          أقر من بعضي السلام  لبعض

ان جسمي  كما علمت بأرض       وفؤادي  ومالكيه بارض

قدر البين بيننا فافترقنا            وطوى البين عن جفوني غمضي

قد قضى الله بالفراق علينا         فعسى باجتماعنا  سوف  يقضي [22]

وقد استدعى شخصية عبد الرحمن الداخل شعراء منهم : سميح القاسم وفاروق  مواسي  وخالد  أو بخالد وعلي  الحسيني  استدعاء تقمصيا ، بينا اضفى ناهض منير الريس  معاني شخصية   عبد الرحمن على شخصيات معاصرة  ، حيث استلهم لقب الداخل  : " صقر قريش "  وعنون  به قصيدة " صقر المثلث " في رثاء  الفدائي الشهيد عبد الرحيم  الحاج محمد  الذي قارع سلطات الاحتلال  البريطاني في منطقة  المثلث  بشمال  فلسطين  . ويعارض ناهض في عنوان قصيدته لقب الداخل  ، وهو يدرك اختلاف مهمة  الرجلين ، وأسباب  هذه المهمة  ونتائجها  . فالقاسم  المشترك  بينهما هو ارادة  الفداء اللا محدود تطلعا  لتحقيق الغايات ، فقد ضحى  صقر قريش  في سبيل الوصول  الى الأندلس  نجاة النفس  من الموت المحقق ،  وطمعا في اعادة بناء مجدا الأمويين ، أما  عبد الرحيم  الحاج محمد  ( صقر المثلث )  فقد ضحى لانقاذ  وطنه فلسطين  من أطماع الغزو  الصهيوني  ، وهيمنة  الانتداب  البريطاني :

عبد الرحيم  أجل وانك أهلها    هي ثورة مشبوبة  بضرام

اما ركبت  المخاطر لم تسل      ووقيت شر الشح  والاحجام

هل كان بعد الانتداب ونحسه   غير الجراد الجائع الحوام

صهيون  في التاريخ  مصاص  الدماء

                      فاجعل  له بالنار شر فطام  [23]

في قصيدة " قرطبة  في هجرة صقر قريش  " يستحضر  خالد  ابو  خالد ـ  في اطار ديوانه " وشاهراً سلاسلي  اجيء " ـ رحلة  الفلسطيني  من المنفى عائدا الى الوطن المحتل نجاة بالنفس  من غدر من  يلاحقونه . وهنا على وضوح الاختلاف  بين الرحلتين  يستحضر  رحلة صقر  قريش الى الأندلس  خدمة لهدفه المنشود في ديوانه  المذكور ،  حيث يتقمص  شخصية  عبد الرحمن  ويتوجه  الى قرطبة  ( القدس)  :

مسكينة  . . .  هربت شارتي

لهثت تتمنى  علي الرحيل  اليك

وتتذرني أنهم يتبعون خطاي

يسدون كل الدروب  التي انفتحت بغتة

قرطبة آه . . .  [24]

ويربط أبو خالد  بين اسباب الرحلتين  وبين مأساة البطلين  ورحلة العذاب التي تجشماها في الوصول  الى قرطبة  ( القدس) :

. . . والمدن  العربية تغطس  في الدم

لكن وجهك كان حبيبا

وكان بعيدا . . . كما  الشمس

كان قريبا

فلوحني وجهها في الصحاري

التي أودعتني الى النهر

كانت يدي تستطيل اصابعها

في الفضاء  الَّذي  بيننا  كنت أهوي [25]

والشاعر في  القصيدة يصب  تجربته الشخصية في أحداث  أيلول  الأسود سنة 1970 م ، حيث كان أحد  المسؤولين عن ميليشيات المقاومة  بالأردن  . فهو  يستحضر  رحلة  عبد الرحمن الى قرطبة لشبهها في كثير من الوجوه  برحلة  الفلسطيني  ( الشاعر نفسه )  عندما ضاق عليه حاصر قوات البادية  ـ ضيق حصار  جند العباسيين على عبد الرحمن على ضفة الفرات الشرقية ـ  فألقى  بنفسه في نهر  الأردن وصولا الى غاية  الاستشهاد على ارض الوطن .

وينهض  تشرين بوابتين الى القدس واحدة

واليك . . . اليك

فلسطين  تنصب في داخلي

امطرت

والرذاذ  المورد يغرق  ناصيتي

وعيوني

ومتعبة رئتي

فالحصار شديد

هنا زمني . . . قرطبة

لا تلومي الرياح التي حملت  جسدي

لكنني اذ تلوح على الأفق  عيناك

أربح معركة  بالمسير

ولو خطوتين

بدون الجيوش التي ذبحتني

وراحت  تطارد  راسي بأعلامها  السود  [26]

وان كانت قرطبة الأندلس  في القصيدة  هير رمز  تحقيق الغايات عند عبد الرحمن الداخل  فانها ليست أكثر  من رمز  يستعين به الفلسطيني  في عليه الأبداعي  لتصوير واقعه ، اذ ان الشاعر يدرك ان قرطبة هي القدس  . أما  ان حالت الظروف المحيطة  دون وصول الشاعر  الى قدسه ،  واضطر  الى التوجه  الى قرطبة  فمعنى ذلك مسيرته قد  توقفت عند حدود العمل الابداعي  ، و ظلت حلما لا سبيل الى تحقيقه ، وهو الانطباع  الذي تتركه  في النفس جملة  " هل تصيرين لي وطنا"  الفاقدة لعلامة الاستفهام والظروف  الثلاثة ( بعد ، قبل ، في ) في قوله :

ان خذلتني  دمشق

توجهت نحوك  بعد فلسطين . . .

قبل فلسطين

فيها .

. . .    . . .     . . .

واني بصير بأنك منفاي . . .

قرطبة . . .

هل تصيرين لي وطنا  [27]

ويؤكد الشاعر على هذا الاستخدام  الفني  لقرطبة ولشخصية الداخل من خلال  الفصل  المتواصل ـ على صعيد الحقيقة  ـ بين حضور الرمز  التاريخي ،  وبين الواقع المعاش ، بين الانتصار  المحقق  والهزيمة  المفروضة  ، حيث يتوجه الى قرطبة  عاصمة الأندلس :

كيف

لي وطن تعرفين مذابحه . . .

حيث أهلي

وامي تحمل جدائلها

وتغني لصقر قريش

وتبكي عتابا

لكن الذين

يعيشون  حبا

يموتون فاجعة

. . . وطني . . .

امتلأ الكأس

اشرب نخبك  [28]

. . .    . . .  . . .

وصلت

فها قدمي تتلمس درب فلسطين

فهو يضيء . . .

أواصل . . .

كل الدروب  اليها تمر على شاطىء  الأندلس [29]

اما سميح القاسم فيستدعي .  في "دمي علي كفي " شخصية  " صقر قريش "  في مشهد توديعه  أهله نجاة بالنفس  ، وبحثا عن المجد في جو من الحنين والاصرار  على العودة  فالشاعر  باستدعائه  لهذه الشخصية  التاريخية يهدف الى تعميق الوعي بمأساة شعبه التي تشبه  في كثير من مظاهرها مأساة  عبد الرحمن  الداخل .

ونفسي يا ذوي  القربى

ينازعها ـ وان شيدت ملك الله في الغربة ـ

ينازعها حنين السفر للأوبه

ونفسي رغم دهر البين

رغم الريح والمنفى

ورغم مرارة التشريد،

تدرك . . .  تدرك  الدربا  !!. . .  [30]

وقد يتمثل  ادق حضور في التفاصيل لشخصية عبد الرحمن  في قصيدة  " سفر عبد الرحمن  الداخل "  حيث  يستدعي علي الحسيني  هذه الشخصية  فيتقمصها حينا ليتحدث  بضمير المتكلم  ،ويحاوره حينا آخر عندما  يشعر بالحاجة  الى قوة  الدفع للخروج بخلاصة أو عبرة ز تسير القصيدة  مع  رحلة الداخل متخفيا  صحبة  مولاه بدر ، حالما بالعرش  والمجد حتى تصل  في مقطعها الخامس للكشف  عن  الغاية  التي من اجلها  استحضرت  الشخصية  :

فانا ياقدس  حزين

اذا أتبعد الليلة  عنك . . .

للقدس مذاق نعرفه . نتبينه من بين

مئات المدن المأسورة والمسحورة  [31]

يستدعي الحسيني شخصية  عبد الرحمن ،ويصحبها  في رحلتها من ضفاف الفرات الى ضفاف الوادي الكبير  ، صحبة المبدع  القادر على تحويل  المادة الخام ( المعلومات  التاريخية )  الى أداة  نافعة تتمشى مع الذوق  العام  المعاصر ، وبهذا يبدو صقر قريش فلسطينيا  تتآمر عليه السياسات  حتى تدفعه  الى الرحيل  عن الوطن نجاة بالنفس  .

سرقوا  كأسك

وسقوك الخمر  المر طويلا

سدوا في وجهك ضوء الشمس

فقم شد العزم اصيلا

وارحل

البس اردية التاجر يوما

والبس أردية  الصوفي غدا

وتنقل في الأمصار . . .

فالقدر الماضي أمضى من حد السيف

والقدر القادم لا يعرف  غير الله  [32]

وكلما سرنا  مع القصيدة زادت الطوابع  الفلسطينية  لهذا العبد الرحمن  القادم  من القرن الثاني  الهجري  ليصحب  الفلسطيني  في رحلة الخلاص

صَلِ  يا عبد الرحمن  كثيرا ،  واسترجع

ماضيك ،خطيئة بعض  الحكام : يرون

العالم من زاوية  العينين  وينسون

حقائق تعمل  في السر وفي  صمت

الكون . . .

ادفن حبك فالشام  ابتعدت  عنك

وعينا  من تهوى أضحت عينين  لجارية  في قصر

لا يسكنه الفتيان العشاق . . .  ترفق

بالخادم يا عبد الرحمن  ، فقد صار صديقا

ونديما  تتنفسه في الرئتين [33]

وتظل الطوابع  الفلسطينية  تزاداد في شخصية  عبد الرحمن  حتى يفصح  الشاعر من  غايته  من استخدام  الشخصية  التاريخية  بتوجهه نحو الهدف  المنشود  مخاطبا القدس  :

ضميني  بين الصدر وبين  الحاجب

والعينين  وبين اللهب

واسيني فأواسيك

فأنا  ياقدس  حزين

اذا أبتعد الليلة عنك

. . .    . . .  وانر : أنت

غريب فاصنع  مجدك في ظل  الأحزان

انت العربي القادم من الشرق

او الغرب

وأنت اللهب الكامن في أهليها [34]

وثالث الشخصيات السياسية الأندلسية الحاضرة في الأدب الفلسطيني هي شخصية عبد الرحمن الناصر لدين الله ( 278هـ / 890م ـ 350 / 961 ) الذي تولى أمر الاندلس بعد وفاة جده الأمير عبد الله سنة 300/912 ، وكانت أطراف الإمارة الأموية نهبا للطامحين والطامعين من عرب وبربر وإسبان حيث كادت الثورات الداخلية والتهديدات الخارجية تذهب بالأمارة الأموية ، وربما بالحكم الأسلامي أيضا ، فقد استقل لبت حجاج بإشبيلية وابن جودي بغرناطة وابن حفصون ببشتر ( مالقة ) وظلت طليطلة عصية على التطويع ، فوحد الناصر الأندلس بالقوة ،وأدب الممالك الإسبانية في الشمال ،وفرض هيبته واحترامه على الفاطميين الذين انطلقوا من عاصمتهم القيروان ، واستولوا على شمال إفريقية وطردوا منه الحكام الموالين للناصر . ولما استتب الأمر أعلن الخلافة سنة 316هـ / 929م ،وشرع في بناء مدينة الزهراء سنة 325/ 936.

في "بكاء على أطلال مدينة الزهراء "من "كتاب القيثارتين " يستدعي الشاعر محمود صبح شخصية الخليفة الناصر فتبدو له متجسدة في النسر الذي يحط على شجرة سرو ،هي جسد الشاعر الذي يهتف ( بالاسبانية ):

أيها الناصر القادر

سند أمية الراسخ

أستغيث بذكراك الزاهرة

التي مازالت بين الخرائب الكئيبة

لأؤكد على أملي

الذي تحاصره آلام الاحتضار

لأن القدس ليست هي القدس

ولا دمشق هي دمشق

ولا القاهرة هي القاهرة

فالعربي ليس عربيا ولا أرض العرب عربية [35]

فاستدعاء الشاعر لشخصية الناصر تأتي في الإطار العام لاستدعاء الشخصيات التاريخية في الأدب الفلسطيني ،دون ان يتطرق لخصوصية لها معناها في علاقة الفطميين بالأندلس وبفلسطين التي تميزت بالعدوانية تجاههما ،وتمكن الفلسطينيون من إقامة سلطة فلسطينية مستقلة عن الفاطميين في القرن العاشر الميلادي  [36].

وتتمثل خامس الاشارات الى الشخصيات التاريخية  الأندلسية في الأدب الفلسطيني في استدعاء ملوك الطوائف ( 422/ 1031 ) بهذا المفهوم الجماعي أو استدعائهم فرادى . والأدب الفلسطيني يستدعي هذه الشخصيات لما تحمله من صفات لها مثيلها في واقعنا المعاصر .فقد سعى الإسبان الشماليون ، ومن ورائهم أوروبا " للدس والوقيعة بين مختلف زعماء القبائل العربية ومختلف ملوكها ، واعتمدت في الوقت نفسه التغلال دول شمال إفريقيا الإسلامية الحانقة على الدولة الأموية العربية في إسبانيا . . . فتحوا في الصفوف العربية ثغرات من التفرقة الخطيرة ، أخذت تتسع وتتسع حتى تبلورت في . . . ملوك الطوائف :إذ كان هؤلاء في الأعم الأغلب صنائع اليد الأجنبية التي كانت تحركها من الخلف ،أو تدفعها للانفصال ،وتغريها بشتى الإعانات لإضعاف معنوية الدولة المركزية "  [37].

وفي هذا الإطار يتحدث محمود درويش في رسالة كتبها لسميح القاسم في 5/ 8/ 1989 بعنوان "طائر على حجر " عن المهمة الصعبة للكاتب الملتزم في عصرنا :

"نعم لقد اخترنا ان نكون أو لا نكون ،وان نشرب الكأس ،كأسنا حتى الثمالة على مرأى من ملوك الطوائف المتحالفين مع ملوك الخرافة في حراسة القدس من قلوب تشرئب على الأسوار شجرا وحصى وأناشيد . . . " [38].

فقد ضعف الأندلس طوال القرن الخامس الهجري ،وراحت تغشي سماءه سحب الويل والخراب منذ ان انقسم الى أندلسات ودويلات زاد عددها على العشرين دويلة ، يحكمها ملوك وأمراء عشائريون [39] مثل : بني جهور في قرطبة ، وبني عباد في إشبيلية ،وبني هود في سرقسطة ،وبني ذي النون في طليطلة ، وبني الأفطس في بطليوس ،وغيرهم في مناطق شتى من شبه الجزيرة ، حتى أنهى وضع التشتت هذا يوسف بن تاشفين بقضائه على ملوك الطوائف ، وتوحيده العدوتين ( الأندلس والمغرب ).

وإن ازدهرت الحضارة والثقافة الى حد كبير في ظل سخاء بعض ملوك الطوائف وتنافسهم في الانفاق عليهما إسرافا و بذخا ،فإن الشعر الذي يرثي بعض هذه الممالك أو ملوكها بمرارة ،لايمكننا فهمه على أنه رثاء شخصي لهؤلاء الملوك ،وإنما هو رثاء لممالك وأمجاد ساهموا هم في ضياعها ،فهو تقريع لهم وبكاء لضياع الوطن ،وبالتالي فمراثي مدن الأندلس وممالكها يتوجب النظر إليها من منظور آخر ودراستها في إطار أوسع أفقا من حدود الممالك المتصارعة ،وأشمل مفهوما من مفهوم رثاء الأسر الحاكمة أو بعض رموزها ، نحتاج الى دراسة هذه النصوص وفهمها في ظل السياسات الخاطئة التي أدت الى تساقط المدن الأندلسية كأوراق الخريف في يد ملوك الشمال الإسبان المعروفين بتعصبهم الديني ،ومحقهم لكل ما يواجههم من بشر وحضارة لا لشيء إلا لأنه مختلف عما يريدون .

ويواصل محمود استدعاء صورة الأندلس وقد مزقه حكامه إربا ،لالقاء مزيد من الأضواء على وضعنا الحالي :"يرتدي الملوك بدلات الكاكي للتمويه ،ويتنكر البوليس برداء القسيس للترفيه ، ألستم أنتم الجواب ؟ معاهدات سرية أو علنية ،خرائط محفوظة في الخزائن أم مطبقة على الأرض .ألستم أنتم الجواب ؟

خناجر الإخوة الأعداء واضحة . . . ألستم أنتم الجواب ؟ وليتحالف الطائفيون مع الصليبيين، ألستم أنتم الجواب ؟

يسرقون الدم واللسان ،يبعدون المقاتلين عن حدود الأرض ،وينهبون الأرض من الشعب . ألستم أنتم الجواب ؟ ألستم شعبا في أرض وأرضا في شعب ، ألستم أنتم الجواب ؟" [40].

وإسقاط الواقع المعاش على الشخصية المستدعاة هو عصب الحضور ، فبعد ان يؤكد معين بسيسو في "القصيدة" على ان بيروت ليست قرطبة ،وان الوطن العربي أو فلسطين ليسا أندلسا رغم الواقع المتردي المعاش سياسيا ، يستحضر عهد ملوك الطوائف ليضع أمامنا خلاصة خطابه ككاتب ملتزم ، لما بين العصرين من تشابه مأساوي:

وسيف الدولة العربي ؟

إذا جئناه معتصما

وجدناه أبا لهب ؟

وخذ ماشئت من حمالة الحطب . . .

عصر هو العجب

ولا عجب

فشرطي له أسماؤه العربية الحسنى

على كرباجه الحرباء

تشرب من دمي لونا فبوركت الزنازين التي صارت

لنا وطنا [41]

يعيش الإنسان العربي اليوم أسوا مراحله التاريخية ،وأردأ أزمانه ، ومنها زمن زهوة الذي يسعى لأن يحل محل زمن الانتفاضة وزمن الادعاء بالانتساب للنبي (ص) ، زمن الحكم بكتاب الله وسنته على الشعب ، والحكم على كتاب الله وسنته من قبل السلطة . زمن استرضاء عدو الأمس  [42]، والفتك بالأهل وبذوي القربى ،"زمن المحنة العربية : الدولة ضد الأمة " [43] . إنه زمن انعدام الوزن العربي معنويا وقيميا وقوميا ووطنيا واقتصاديا ، فالذي حدث وما زال يحدث هو ان "القادة " شغلوا أنفسهم بكيفية إيجاد طرق يفرضون بها على الناس "أنساق الأفكار التي يحملونها في عقولهم . . . وفي ضوء ذلك تحولت الأيديولوجيا في مجتمعات ما بعد الاستعمار ،إلى شكل من أشكال الديانة السياسية " [44].

هم العرب

ولاعرب

وقلبي في يدي جرس يدق

فيعلن العسس

انقلابا اسمه القدس

ومعتمد و معتضد و القاب و أندلس

ولا قدس

هم العسس [45]

هم العسس

فمثال لملوك الطوائف المعتضد بن عباد ( 433ـ 461) صاحب إشبيلية الذي بذل جهودا كبيرة في ضم إمارات غرب الأندلس إلى مملكته ، لم يتحقق له الا بعضها حتى وصفه ابن بسام في ذخيرته بأنه "قطب رحى الفتنة ومنتهى غاية المحنة "  [46]فقد أهدر المعتضد موارد مملكته في محاربة إخوانه بينما نجده يخضع لفرناندو الأول ملك قشتالة طالبا إليه الصلح ، ومتعهدا بدفع المال إليه و تنفيذ مطالبه ،وهي السياسة الطائفية التي أدت الى سقوط طليطلة في يد ألفونصو السادس بن فرناندو الأول سنة 478/1085 ، وهو الأمر الذي دفع المعتمد بن المعتضد بن عباد لطلب النجدة من أمير المرابطين يوسف بن تاشفين الذي دخل الأندلس ،ووضع حدا لملوك الطوائف ولذلهم معا .

ويبدو ان أبيات ابن رشيق القيرواني ( 390هـ / 999م ـ 463/ 1071 ) في وصف ملوك الأندلس كانت حاضرة في ذهن معين بسيسو :

مما يزهدني في أرض أندلس             أسماء معتمد فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها          كالهر يحكي انتقاخا صورة الأسد  [47]

فقد عاصر الشاعر أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني ملوك الطوائف معاصرة معين بسيسو للحكام العرب اليوم .ومن المعروف ان الأندلس قد عاشت تحت هوان ملوك الطوائف عصرين ،فصل بينها عصر المرابطين والموحدين .فقد صمدت الأندلس بعد سقوط طليطلة في وجه الإفرنج بفضل اتحادها مع المغرب في ظل دولة المرابطين ( 484هـ 1099م ـ 539 / 1144) ثم دولة الموحدين ( 541هـ / 1146م ـ 620/ 1223) التي خلفتهم ،إلا ان الفتنة عادت سنة 620هـ الى المغرب فانقلب على الموحدين ،وتبعته أقاليم الأندلس ، فعادت الطائفية تمزقها ، وعادت المصالح الشخصية تفتك بالدولة وجيشها ، وتنال من هيبتها وصمودها حتى طمع فيها الإفرنج فتهاوت مدائنها وممالكها الطائفية ، ولم ينج من هذا المصير الأسود الى حين ، إلا غرناطة التي استطاع بنو الأحمر تأخير وقوع مأساتها لقرنين ونصف من الزمان ( 692 هـ / 1231م ـ 898/ 1492) حتى اضطروا كارهين لتسليم مفاتيحها لفرناندو وزوجته إزابل ،ملكي إسبانيا والبرتغال . وبهذا أسدل الستار على آخر فصول هذه المأساة المروعة المخضبة بالدماء فما أغنى عن العرب في الأندلس عطاؤهم وتسامحهم وما كسبوا بتنازعهم وتفرقهم .فما أشبه اليوم بالبارحة !

أما الشخصيات الأدبية فقد استدعي منها الأديب الفلسطيني تلك التي عاشت ظروفا مشابهة لظروفه أو مباينة لها تكشف عنها بالمفارقة في مغزاها .وأولى هذه الشخصيات هي شخصية علم الشعر الأندلسي أبي الوليد أحمد بن زيدون ( 394 / 1003ـ 463/ 1071) التي استدعاها إبراهيم طوقان في "غادة إشبيلية "مصحوبة بشخصية ولادة بنت المستكفي ( المتوفاة سنة 484/1091) حيث يتقمص ابراهيم شخصية ابن زيدون وعلاقته الغرامية بولادة لإقامة جسر زمني يربط الماضي بالحاضر .واستخدام ابراهيم لشخصية ابن زيدون يأتي في الإطار الرومانسي الذي رسمته الذاكرة الجماعية العربية للأندلس العربية المسلمة ،فقد قال ابراهيم قصيدته في فتاة إسبانية من مدينة إشبيلية وفراقه عنها، وفي المقطع الثاني يجرفه الشوق الى تلك الفتاة الى استدعاء صورة الأندلس المسلمة المرهفة الناعمة ،ورمزها علاقة ابن زيدون الغرامية بولادة :

يا أعصر الأندلس الخاليات                    قد فاز من عاش بتلك الربوع

أهكذا كانت هناك الحياة                     مترفة الأيام ملء الضلوع

أهكذا الفتنة في الغانيات                     ونشوة الوصل وحر الضلوع

لئن مضى عهد ذوينا وفات                 ولم يعد من أمل في الرجوع

فذمتي بعهد هم موفية                       أرد ما فيهم ببذل الشباب

أنا ( ابن زيدون ) وتصبوليه                 (ولادة ) في دمها والإهاب [48]

أما ناهض منير الريس فيستدعي الشخصيتين الأدبيتين نفسيهما ليكشف عن المفارقة بين نهجين في الحب ونهجين في الحياة ،في عصرين كل منهما محكوم بظروفه التاريخية ، حيث ناهض في "القصيدة النووية " شريد عبر الحدود العربية يحمل رسائل من يحب ،تطارده السلطات في حبه لوطنه وذويه :

يا ساريا خلفت يثرب للشام بلا جواز

خذني ،وجنبني وحوش البر

وسلطة الأختام والأقسام

والتدقيق والتحقيق . . .

فخذني أيها الساري

فإن معي رسائل لم يسلمها البريد لمن أحب

أريد أحملها وآتي الى الدار

وكانت داره خلف البحار

وخلفها نجم ومئذنة

ونخل في حديقتها وفسقية. . .

وما أنا بابن زيدون

ولا اسم حبيبتي ولادة الأحلام

ولكني سعيت الى لميس

قل : أتعرفها ؟

أتعرف تل زعترها ؟

وما بال البريد أعاد لي كتبي

بأختام الرجوع وشؤم مظهرها

فخذني للبحار السبع أبحث في فم القرصان

عن حبي [49]

وثاني الشخصيات الأدبية الأندلسية حضورا في الأدب الفلسطيني هي شخصية أبو محمد عبد الجبار بن حمد الصقلي ( سرقوسة 447/ 1055ـ ميورقة 528/ 1133) الذي لجأ الى الأندلس إثر تغلب النورمانديين واستيلائهم على مسقط رأسه سنة 484هـ / 1091م  [50]، مجتازا شمال إفريقيا ،حيث لجأ الى بلاط المعتمد بن عباد الذي كان منتدى للشعراء من جميع أنحاء الأندلس ، وملاذ شعراء شردوا من أوطانهم نتيجة احتلال الفرنح لها وطردهم منها ، أو نتيجة الفتن والاقتتال الداخلي ، مثل ابن شرف القيرواني ، كتب ابن حمديس كغيره من هؤلاء الشعراء شعرا مفعما بالحنين الى وطنه "جنة المباهج " والى خمور صقلية ورياضها اليانعة ،كما ان شعره يعكس كذلك كراهيته للبرابرة ( النورمانديين ) الذين غزوا وطنه وحلوا محل بني قومه فيه  [51]. في "ابن حمديس الفلسطيني " يستدعي محمد عز الدين المناصرة شخصية ابن حمديس بكل ما يجمعها بالفلسطيني في منفاه

من مشاعر وعذابات . والشاعر يتقمص الشخصية في عنوان قصيدته تأكيدا على أوجه الشبه بين الاثنين وبخاصة ان الشاعر يكتب قصيدته في يونيو 1970م يوم بلغت المكيدة ضد المقاومة الفلسطينية المسلحة أوجها واتضحت نوايا النظام الملكي في القضاء على الثورة ، والقضاء على الهوية الفلسطينية تحت غطاء عربي رسمي :

أتيتك من سفري في البلاد

وجوعي على باب أحرارها

أطوف قصور المجوس ولامن يعين على ثارها

وأسكب في القلب مر الكؤوس

وألعن أيام أخيارها

مدائن نامت بنوم الرؤوس

وقلبي على نار ثوارها  [52]

نلاحظ في قصيدة المناصرة روح شعر ابن حمديس في غضبه ونقمته على الواقع ومسببيه . وهي روح حاضرة في الأدب الفلسطيني بعامة ،وشعر المناصرة بخاصة ،لهذا ولغيره من الأسباب ظل شعر ابن حمديس وشخصية حاضرين في ذهن الأديب الفلسطيني الذي مهما ضاق الوقت بقراءته فانه يتسع لقراءة قصائد من شعر هذا الشاعر ، فيؤكد محمود درويش في رسالة بعثها الى سميح القاسم في 24/5/ 1988م على هذه الحقيقة : " أصابني ما أصابك من جفاف في الشهية الشعرية ،لم أقرأ من الشعر في الآونة الأخيرة غير ديوان طرفة بن العبد وقصائد للصقلي ابن حمديس " [53].

ويقدم محمود درويش ـ في ذكره واستدعائه  لشخصية ابن حمديس ـ لقب الشاعر المنسوب للمكان على اسمه تأكيدا منه على قوة الانتماء للوطن ،وهو شعور درويش نفسه وشعور ابن حمديس المعروف بشدة تعلقه بوطنه لدرجة تقديمه الانتهاء للوطن على الانتماء القلب [54]ي . فقد عانى وطن ابن حمديس في فترة من تاريخه عقوق حكامه وتنكرهم لمسؤولياتهم ، إذا استدعى ابن الثمنة حاكم سرقوسة وقطانية ـ إثر الحروب بينه وبين ابن الحواس ـ النورمانديين  لتسليمهم الجزيرة  ،  ولما جاء  هؤلاء سنة1061 م غازين لم يجدوا  فتحها  سهلا ، ولم يستطيعوا  التغلب عليها جميعا ، الا عام 484 هـ / 191 م ، ودامت  سيطرتهم  عليها قرنا من الزمن  [55]،  ومنذ  ان ابتدأ الغزو النوماندري  الى ان انتهى  كان الصقليون يهاجرون  من بلدهم  الى مصر والقيروان والأندلس  .وقد بقي كثير  منهم تحت الاحتلال  يعيشون شبه ارقاء  في وطنهم  حتى مرت  بهم اوقات ـ  حكم خلالها  ملوك غالوا  في كاثولكيتهم ـ طوردوا فيها كما تطارد الوحوش  البرية ، واضطروا  الى الاعتصام  بالجبال . . . وكان  ابن حمديس  يوم فارق  سرقوسة في ريعان  الشباب  ،  وقد اختزنت  ذاكرته  ضروبا من الذكريات  التي ظلت  زادا لنفسه الحالمة  بالعودة ، وظل يحن  الى ذكرياته في وطنه الجميل ذي المناظر  الطبيعية  الخلابة [56]  فما أشبه  اليوم البارحة  !

وتمر في الدرب  الفلسطيني  ـكما هو الحال عند فاروق  مواسي  في " الخروج  من النهر "  ومحمود  صبح  في " كتاب  لقيثارتين "ـ اشارات  سريعة الى شخصيات  تاريخية أندلسية  مثل : موسى بن نصير وعبد الرحمن  الداخل والمنصور  بن أبي  عامر  وطريف بن مالك  بن مالك  وابي عبد الله الصغير  وبني أمية وبني عباد ، وأخرى ادبية مثل : ابن زيدون  وابن قزمان  وابن شهيد والمعتمد بن عباد وغيرها  من الشخصيات  الفلسفية  مل : ابن رشد  وابن ميمون .

كما قد يكون عبد الرحمن الداخل  حاضرا في ذاكرة  الشاعر علي  الحسيني  عند ذكره  النخلة في قصيدة  " شوق " من ديوان  " سفر عبد الرحمن  الداخل " . حيث تخيم  على أبيات القصيدة روح  الأبيات المنسوبة  لعبد الرحمن الداخل  في نخلة الرصافة:

تبدت لنا وسط الرصافة  نخلة        تناءت بارض الغرب  عن وطن النخل

فقلت شبيهي في التغرب والنوى    وطول التنائي عن بني وعن أهلي

نشأت بأرض أنت بها غريبة         فمثلك في الأقضاء  والمنتأى مثلي

سقتك غوادي المزن في المنتأى الذي

                        ينسح ويستمري السماكين  بالويل  [57]

اما عناصر  حضور الأمكنة  في اطار مكونات العمل الأدبي الفلسطيني  فتتمثل في الأندلس  بمفوهها العام  وحواضرها  : قرطبة  توابعها ،  وغرناطة  واشبيلية ومالقة ورندة .

ويعني  مفهوم  الأندلس في الأدب الفلسطيني  معنى الضياع  ، اذ يستحضر محمد القيسي  في الكنعانيون  سيرة ذاتية  للوالدة  ، هذا المفهوم في سادس  مقاطع القصيدة  السبعة  بعد ا يعرج على مأساة  النفي والحنين للوطن  حيث  يقيم "مراسم دفنه  / دون ما قراءة  / من أي  كتاب ، حتى يدعو معاصريه الى خفض الهامة :

ستمر المواكب

مواكب  الكنعانيين  من جديد

في الجميل  الطويل

عن أندلس  الغبطة وممتلكات  المنفى

واركنوا آمنين الى أزرار  المذياع

واركنوا كما لو لم تكونوا في يوم  ما

على صلة ما

بالحرف العربي

او الناقة العربية  [58]

بهذه الأنفاس يحاول  "  مسافر  الغريب "  العودة الى اسباب  الهزيمة  العربية المعاصرة  في فلسطين  وغيرها  من ارجاء الوطن العربي  ،وهي نفسها اسباب  سقوط  الأندلس  ، بل  ان المصير  الواحد  ( في نظر  الشاعر )  للوطنين قد جعله يؤاخي  بينهما ،فالشخصيات  المسؤولة  عن الهزيمة  واستمرارها  ، وان باعدت بينها زمانيا  ستة قرون  ، تقوم بالدور نفسه  عن عمد وسبق اصرار ، مشترية  مصالحها  الشخصية  الآنية بمصالح  الوطن  

"يا  أخت اندلس  تناوشها الردى    اهلوك  واأسفاه  لقد ضاعوا  سدى

فقد ضيعتك طحالب مجنونة         ورمتك في السبي  المعفن  والصدا

اسكندرونة ضيعت في غفلة          وعدا  على القدس  الشريفة ما عدا

متآمر  متوقع متخاذل               باعوا  الكنائس والمساجد  للعدا

للقهقري قد اقسموا وتعاهدوا      ولقتل كل الشعب  قد سلوا  المدى

لا تخزني ضاعت كلابك بعد ان      ضاع الجهاد ومات في العرب الفدا

هل تأملين  مواكب  سعرانة        تغشى  المعامع واللظى  والموقدا

ومن المحيط  الى الخليج غطارها     ( عجبي قد اخنى  الزمان الهجدا)

لا تأملي غوثا فمعتصم قضى        والسيف مات على الصليب  مقددا

وحصانه في القاع يسكر خلسة     ورماحه ذبلت  على رجع  الصدى

ونعاله  اهترات على جمر  اللظى     وصلاح  ضل عن الطريق وما اهتدى

وابن الويد تقاذفته  مكيدة           تركته في السبي المضيع  اجردا

كفي النداء وكفكفي الدمع  الذي   يوشي القلوب مرارة  وتوجدا

لا تصرخي  لا تصرخي لا تصرخي   ( ما في حدا  ما في حدا ما في حدا )  [59]

في " احد عشر كوكبا على أخر المشهد  الأندلسي " نجد محمود درويش في " المساء  الأخيرة على هذه الأرض " يصور  المأساة  والتشريد  من الوطن ، حين المكان يستضيف  الهباء والزمان  القديم يسلم مفاتيح  ابواب الفلسطيني  الزمان  الجديد حتى تتراءى  صورة الأندلس  في عيون فلسطين :

هل كانت الاندلس

ههنا ام هناك ؟ على الأرض . . .  ام في القصيد؟ [60]

ويكتب وصايا  شعبه فوق السحاب  واضعا  اصبعه على الجرح . الا ان اسم غرناطة  يبقى ولخمسة  قرون حيا في وجدانه  وقلبه ، ومصدر الهام باعذب  فنون الغناء واكثرها  مأساوية  . حتى غدت

الكمنجات تبكي  على العرب الخارجين  من الاندلس

الكمنجات  تبكي  مع الغجر الذاهبين الى الأندلس  [61]

حتى يمر  الغريب " حاملا سبعمائة  عام من الخيل "  ويخرج آدم  الجنتين من جنتيه مرتين ويخرج من تجاعيد وقته " غريبا  عن الشام الأندلس " حتى  لم يبق منه غير مخطوطة لابن  رشد ،وطوق الحمامة  والترجمات  . . .  [62]

وتتكشف المأساة  في نفس الشاعر فيجمع بين الاندلسين  في جدلية تكشف عن تناقض الواقع العربي  الحاضر ومأساويته :

كن لجيتارتي وترا أيها  الماء لا مصر في مصر  ، لا

فاس  في فاس  ، والشام تنأى. ولا صقر في راية الاهل  . لا نهر شرق النخيل  المحاصر  

بخيول المغول  السريعة  .في أي اندلس انتهي ؟ ههنا

ام هناك ؟ سأعرف اني هلكت واني تركت  هنا

خر مافي : ماضي . لم يبق  لي غير جيتارتي

كن لجيتارتي  وترا ايها الماء . قد ذهب الفاتحون واتى الفاتحون . . .  [63]

وتلازم فكرة  الضياع مفهوم  الأندلس عند محمود درويش في " رباعيات "  عندما " يرى  ما يريد "  فيبدوا له هبوب  النوارس  من البحر عند الغروب  ، وعندما يغمض عينيه يرى ان :

هذا الضياع يؤدي  الى اندلس

وهذا الشراع صلاة الحمام  علي  [64]

لكن هذا الربط  عند الأدباء الفلسطينيين لا يعني بأي حال من الأحوال  انهم يربطون مصير فلسطين  بمصير الأندلس  لأن غزاة فلسطين " جيتاراتهم  فرس واندلس  على قدمي  "وهو تأكيد سابق للشاعر  نفسه في " مأساة  النرجس ملهاة الفضة  ، حيث " الأرض  / تورث /  كاللغة [65] كما هو ايضا تأكيد لاحق يؤكد  فيه على ان المكان " يستضيف الهباء . . .  ويبدل زواره "  [66].

فالعلاقة بين الأندلس  ، الفردوس المفقود ، وبين فلسطين  المغتصبة  عند محمود  درويش واضحة  ،وليس بالأمكان  الجمع بين المأساتين في اطار المقارنة  الكاملة  ، في هناك . . .  شجرة خروب " يذكر  محمود  درويش سميح القاسم بأيام الطفولة  وحنينه لقريته  البروة التي بن  اليهود على أنقاضها  كيبوتس " يسعور " لايواء المهاجرين  اليهود  من شتى انحاء العالم  الى فلسطين  .وفي محاولة  لاعادة  تركيب الواقع  المهلهل لا يرى غير الشعر  وسيلة لذلك ، فيستدعي  المعلقات  السبع وخلاصات  المتنبي ورهافة  الاندلسيين ورخاوة  المهجريين . وفي اطار المأساة  يكشف محمود  عن طبيعة  كل من الكارثتين :

"كنا نخدع أنفسنا في سبق  البحث عن اختلاف  يتقمص صعاليك  وخوارج  وبكل ما يبدو لنا انه خروج عن المؤسسة  . لم يكن اختلافنا كله في تاريخنا  لأن هذا الاستيطان  الصليبي يعارض كل تاريخنا . لذلك لم نجد  النموذج الجاهز  في مرحلة وعي اكثر تطورا وتشكلا  . كان علينا ان نبحث  عن أصفارنا وكان علينا ان نخطى . اذ ليس لمصيرنا  ومفارقتنا الانسانية وماساتنا من اطار  مرجعي  ، وليس لنا  من معبر . وليس لنا ان نستعير  دموع عاشق أندلسي يبكي الخروج . ليس وطننا  اندلسيا  الا في الجمال  والأندلس  ليس لنا .

إذا كان بد من أندلس بتداعياتها الجمالية ، فإنه فلسطين هي الأندلس القابلة للاستعادة "  [67].

وتظل فكرة قبول الاستعادة متوطنة في ضمير الأديب الفلسطيني ، حتى من دون حضور الأندلس أو أي من عناصرها في عمله الأدبي ، في "اشرح لهم صبرك "يعود محمود ليكتب لسميح عن الانتقاضة الشعبية في فلسطين ، وفيها "ان فلسطين كانت دائما أغنيتنا المنشودة وجنتنا المفقودة . تتقدم الآن منا وطنا ملموسا قابلا للاستعادة ، لها ولمعناها المتحرر والحر في وطننا الكبير وللعلاقة الاحتفالية بين حرية الإبداع وبين إبداع الحرية " [68].

وفي إطار معنى الضياع يتخذ مفهوم الاندلس حضورا إنسانيا بناء في ملحمة " الحرب العالمية الثانية "لإسكندر الخوري البيتجالي عندما ينتقل من وصف أهوال الحرب الى تذكير اليهود بدورهم الانتهازي الغادر في فلسطين ،ويحيلهم على الأندلس لتذكيرهم بنموذج التعايش العرقي والديني في ظل السيادة العربية الأسلامية :

يامن تخذناهم الأخوان في بلد                            بالمال والروح نفديه ويفدينا

لا تنبشوا الأحقاد ثانية                                 ولا تعيدوا الذي يقصي تآخينا

سعيا لأيامنا في أرض أندلس                           كنتم وكنا كما نرجو وترجونا

واليوم أمارة بالسوء تدفعكم                           الى الذي ليس يرضاه المحبونا

أتستسيغون هضم العرب حقهم                        في مهد عيسى ومسرى النبيينا

وتطلبون جلاء عن مواطننا                            وان نبيعكم خضرا أراضينا

وان يكون لكم جيش ومملكة                         لجمع شتات الموسيينا

هيهات تحقيق هذا الحلم ما ارتفعت                  فوق المآذن أصوات المحبينا  [69]

وليس غريبا ان يزداد حضور الأندلس عند شعراء الأربعينيات في فلسطين ، فهذا أمر طبيعي دفعهم إليه حزنهم وتوقعهم نزول الكارثة ،فقد راحت أشباح الضياع والمجد المفقود تتبدى لهم في المصير المحتوم الذي كان ينحدر إليه بسرعة مذهلة وطنهم ، فعادوا بخواطرهم الى الأندلس بصورته المرسومة في الذاكرة الجماعية العربية المعاصرة ، وتمثلوا فيه الكارثة قبل وقوعها ،و"أصبحت الأندلس موضوعا شعريا يتناوله الشعراء حتى  ولو لم يروا  الأندلس  . . . وانما  هم يتمثلونها  من واقعهم  . . . ومن  قراءاتهم ومطالعتهم  في ( رحلة الى بلاد المجد  المفقود ) وفي ( رحلتي فالى الأندلس  ) " [70] .وراح الشعراء  يعارضون  المراثي الأندلسية  موضوعاً وقافية  كما في قصيدة  "المجد المضاع " من ديوان ألأصائل والأسحار  " الغزلي لحسن البحيري  :

خطرات منها تصدع  نفسي      ضاع  صبري بها وبان التأسي

كلما عاود الفؤاد  عهيد         من رؤاها على الزمان المنسي

هاج كلم الأسى  فغي رشيدي   بينحر الجوى واطياف  هجسي

يا زمانا مضى وعهدا  تولى       في ليال  خلت كلذة  خلس

أي تلك المنى بلاسم برء         لجراح الجوى وتطبيب نطس [71]

ويعارض فاروق مواسي في قصيدته  " نفح من الطيب " سينية ابن الخطيب معارضة  تحملنا  الى واقع  التحدي والمقاومة  الذي يعيشه اهلنا من 1948 تحت حراب  الدولة الصهيونية  ، حيث التأكيد على الهوية القومية ورصيدها  الثقافي  في وجه الاستلاب  القومي ، والامل  في الخلاص مهما  طال نفق الاحتلال  .

جادني الدمع اذا الدمع شجا     يا زمان المجد في الأندلس

لم يكن روضك  الا ارجا        يعربيا عابقا  في النفس

فتغنت دمعتي في عبق           وتلظى فرحي في الآلم

. . .   . . .   . . .

فاذا الخط تبقى  ونجا    وان العمران  ضوء الغلس [72]

ونجد مسحة  الحزن  الذي يخشى وقوع الكارثة  عند شعراء  آخرين مثل برهان  الدين العبوشي  في " كان مستعد " من ديوانه " جبل  النار  التي قالها في بغداد  بع فراقه وطنه سنة 1940 م رغم ثورية  العنوان وتمرده  ، وعند  محمود سليم الحوت  واسكندر  الخوري البيتجالي وغيرهم  [73].

وان كان  الشعور بوقوع الكارثة  قد حضر باصرار في الأربعينات فان جذوره في الأدب  الفلسطيني تعود الى  اوائل  هذا القرن مع صدور بلفور  المشؤوم في 2 نوفمبر  1917 م .ومن صور حضوره  المشهورة تلك القصيدة  التي استقبل  بها عبد الرحيم محمود   ( استشهد  في معركة  البقاء  على ارض الوطن  سنة 1948 م )  الأمير  سعود  بنعبد العزيز  اثناءه زيارته  لعنبتا ـ نابلس  في 4 / 8 / 1932 م بعنوان  " نجم السعود  " ومنها :

المسجد الأقصى  اجئت  تزوره     ام جئت  من قبل الضياع تودعه

حرم تباح لكل  اوكع  ايق         افاق شريد اربعه [74]

ونجد  مسحة الحزن الذي يخشى  وقوع الكارثة  مقرونا  بالحث  على العمل والجهاد لتجنب ما يمكن ان تؤول اليه الاحوال  لو استمرت  على حالها .  ولكن صرخاتهم  ضاعت كلها في  فراغ  فحدثت الكارثة . ومس فلسطين  ما مس الأندلس واكثر :

ما مس اندلسا  يمسك مثله     فابذله له تلحقه  قبل ذهابه [75]

فقد سبق الشعر الأندلسي الشعر الفلسطيني من تصوير صراخ  اهل الأندلس  الذي لم ينقطع  يوما ، طالبين النجدة من الدول التي قامت  على أنقاض  دولة الموحدين  في المغرب . أو من الممالك  الأسلامية اينما  وجدت حتى بحث الأصوات  ، واتسع الخرق  واعضل الداء ، وما زالوا على ما عاهدوا  الله عليه حتى ضاقت  بهم الأرض  بما  رحبت ، واكل الثور الأبيض  " فما أشبه  اليوم بالبارحة !

ويستدعي  ابراهيم طوقان  مفهوم الأندلس  المرهفة  ما ترسمها  الذاكرة  الجماعية  العربية في قصيدة  " غادة  اشبيلية  " فينهي القصيدة بالتفجع على فقدان ذلك الفردوس ، وهي نهاية  رومانسية تخيم عليها  اجواء قصائد [76]  ابن زيدون  الغزلية  ، وكان شاعر  فلسطين  مولعا بابن زيدون وشعره . وحتى احمد شوقي  ـ المعجب بابن زيدون ن والمعارض  لثلاث  من قصائده  ـ فهو سيد المكان  في قلب  شاعر فلسطين  ابراهيم  طوقان الذي عارضه  في مناسبات منها قصيدته "  " الشاعر  المعلم " .

ففي  المقطع الثاني وحتى منتصف الثالث يواصل  ابراهيم  طوقان  التغزل بمفاتن  الفتاة الاشبيلية ليختم القصيدة باستحضار  الأندلس المفقود :

لا بد لي  ان عشت ان اعطفا     على  ربي الأندلس  الناصره

واجتلي  اشباح عهد الصفا       راقصة  فتانة ، ساحره

هناك لا املك  ان اذرف         دمعي علي ايامنا  الغابره

عساك  يا دمع محب وفي          ترد حبات المنة زاهره

يومئذ القى على عوديه          لحن الهوى  امزجه  بالعتاب

افدي  بروحي غير اشبيلية        لحن اذقن  القلب صاب العذاب [77]

وهذه النظرة  الرومانسية للغادة  الاشبيلية منبعها  احساس عميق لدى ابراهيم طوقان  تجاه كارثة هذا الفرودس المفقود  . فغادة  اشبيلية  ، اندلسية  كانت  في بيروت نظم فيها ابراهيم  فيما نظم  من شعر غزلي في ذلك الحين قصائد عدة  ، وهو يعترف  بان انجذابه  لهذا الغادة  قد لا يكون  بدافع جمالها  ، وخضة روحها بمقدار  ما كان يقرا  في خلقتها من الدم  العربي ، وما كان يلاحظه من الفن العربي في ثيابها  ورقصاتها [78] .

وتظل فكرة جريان الدم العربي  في عروق اندلسيي اسبانيا تعيش  في اللاوعي العربي  ،وتلح على الشعراء ، فعندما  يزور فاروق مواسي  قصر  الحمراء وتسمعه  فتاة  " غرناطية  " يترنم  بموشحه لأبن الخطيب  تتشد الى اصولها وتلتقي  الجذور ،  فتاربك  الطبييعة لم  الشمل .

فاذا اسبانية

لحظت طربى وغناءه

رقصت " فلا منكو "


View shamasnah's Full Portfolio