"٤"
خرجتُ من المشفى باحتفال بهيج، فقد كان ذلك اليوم يوم عيد حقيقيّ، ليس لي فقط، بل لزوجتي وأبي وأخوتي وأصدقائي.
اجتمعوا كلّهم ذلك اليوم في بيتي مهنّئين مباركين يحمدون الله على معجزة الشفاء في زمن خلا من المعجزات، وقد أصرّ أبي أن يذبح لأجلي خروفاً ويوزّعه على الفقراء، رغم أني أشفقت على الخروف من جهة وهالني غلاء سعره من جهة أخرى، لكنه كان يؤمن بمدلول الآية الكريمة "وفديناه بذبحٍ عظيم"، وأنا مع ما يملي عليه إيمانه.
كلّ شيء بدا يومها لعيني جميلاً كأنّي أراه للمرّة الأولى..
روح أمّي الراحلة وقد بدت أصغر سنّاً تجلس بيننا كأنها الملاك الحارس تتمتم شفاهها المبتسمة بصلاة لا تنقطع.
زوجتي ريتا توزّع اهتمامها على الجميع ونظراتها معلّقة عليّ في رواحها والإياب كأنها لا تصدّق ما حدث.
وأنا أضمّ ولديّ لحضني وأداري عنهما دمع عيني الذي كان اعتذاري لهما لأني استسلمتُ ليأسي وقنوطي وفكّرتُ بالرحيل عنهما.
أحسستُ بشوق غامر حميميّ لبيتي ولكلّ ركن فيه، ووقفتُ أتأمّل كتبي.. لوحاتي.. وكأني للتوّ امتلكتها وأمرّر أناملي عليها بلهفة عاشق.
ووجدتني أصلّي بكلّ حواسي تعتريني رهبة ورجفة لإله يسكن قلبي كنتُ قبل قليل أجدّف عليه.. لكنه تجديف أيوب الذي هو أقرب للسماء من المتشدّقين الرافلين بثوب الصحّة:
"تمجّدتَ أيها الألم ما أعظمك! وأنت تعيد خلقنا من جديد، وكم نجحد معناك ونكفر بك.
تقدّستِ يا نعمة الحياة وجنة الصحّة بعد السقم، لا يعرفك إلا من فقدك.
لقد مرضتُ من بين الآلاف الأصحّاء..
لكني أيضا شفيتُ من بين الآلاف الذين ماتوا"!
وإن كانت ال "لا أدري" جوابي حول كلّ ما يُطلب رأيي فيه أو أُسأل عنه مثل قصّة القدر والجنة والنار وكلّ الغيبيات..
فإني أقدّس هذه اللا أدري لأنّها نهاية طريق وعر سلكته سنين عمري، وترك آثاره وشماً بروحي وجسدي وحتّى فكري، ليحيلني إلى "أدري" أحبّها.
أدري أنّ لي بالعمر بقيّة..
أدري أنّي الآن بصحّتي..
أدري أني المنعّم بزوجة جميلة قلباً وقالباً وملاكين رائعين..
أدري بأنّي سأرسم أبدع لوحاتي على مساحاتٍ بيضاءَ تغريني وتغويني لألوّنها..
أدري بأنّ هناك على الأرض من يحتاجني..
أدري بأنّي أعشق الحياة بعطر وردة ورفيف فراشة وقيامة ربيع..
أدري أشياء كثيرة، ولكنّها حتماً هنا على الأرض، أما أمور السماء يا إلهي وولهي فأنت وحدك الخبير بخباياها وخفاياها، ومنتهى علمنا بها جهل وعماء".