الفصل الخامس /أما بعد ٣

"٣"

 

بعد أقلّ من شهر من تجديفي على الكبير، أو بتعبير أدقّ تجديف الألم الخارج عن تأهيل قلبي وعقلي وتربيتي وترشيدي، خرجتُ من المشفى سالماً معافىً، كأنني ما قضيتُ كلّ ذلك الوقت على شفير الموت.

الطبيب المشرف على حالتي المستعصية.. وقف مذهولاً يراجع للمرّة العاشرة الصور والتحاليل يكاد لا يصدّق معجزة الشفاء.

خطر لي في نوبة الفرح الصاعق التي اعترتني أن أضعف من جديد أمام الرؤى التي لاحقتني زماناً، وأقصّ عليه ما رأيتُ في نومي، قبل مرضي بكثير.. رؤيا غريبة ظلّت عالقة في ذهني ولم تطفُ على سطح الذاكرة إلا الآن.

رأيتُ فيما يرى النائم أنّ يداً خفيّة تجري لي عملية في بطني ثمّ تخرج منه شيئاً لم أره أو اتبيّن ما هو، ثم تعيد إغلاق الجرح بلا أثر.

لو قصصتُ عليه رؤياي بشغف المؤمن الذي كنته، لاصطنع اهتماماً لبرهة مشاركاً إياي سعادتي المباغتة، ثمّ غادرني ملبّياً نداء الممرّضة المستعجل.

يخطر لي أن الأطباء في ضوء ما يشهدونه من نتائج تخالف توقّعاتهم على قلّتها عليهم أن يكونوا أكثر الناس إيماناً بالغيب وقصصه المدهشة التي تخالف المنطق العلميّ والاستقراء العقليّ، ووفق ذلك يمكنهم منح المريض فرصة الشفاء عبر الإيمان ولو بالوهم، فمن يستطيع ان يجزم بحقيقة قاطعة مهما كانت المعطيات واضحة.

لكنّ للطبيب لغة علمية تعتمد على الحواس الظاهرة يقودها المنطق، ولا يمكنه أن يُسلم مصير مريضه للتكهّن ولمعجزة قد لا تأتي، خاصّة في حالة ميؤوس من شفائها كحالتي.

وهكذا كُتب لي بعد مرضي العضال عمر آخر لم أدر هل سيقصر أم يطول، وكنت قد رأيتُ الموت ولامسته، وعانقني حتى حسبتني صرتُ وإيّاه واحداً.

ثم فجأة غيّر رأيه، نظر بعينيّ مليّاً وغادرني إلى سواي.

وبجهلي المطلق رحتُ أثرثر كعادتي مع نفسي ساخراً وأنا وسط ذهولي وفرحتي بالنجاة: "ربما يصحّ أحيانا ما جاء في الخبر.. أن اطلبِ الموت توهب لك الحياة".. فكم اشتهيتُ الخلاص من رحلتي من الألم الذي لا يطاق ومتوالية الجرعات الكيماويّة التي يشبه كلّ منها النزع الأخير، ثم تساقط الشعر وفقدان المناعة تماماً، في انتظار ملك الموت الذي قد يداهم الجسد الواهن بأيّ لحظة.

لأجدني فجأة قد وُلدتُ من جديد وبُعثتُ من رماد انتهائي حيّاً.

والحقّ أقول، أن صراخي الأخير في وجه الكبير الذي أحببتُ وأخلصتُ له في عشقي لم يكن يشبه هذيان مرحلة الشباب والعنفوان المزيّف.

كنتُ أريد أن أوصل له رسالة من صليل ألمي:

"أنت لم تضحكْ عليّ حين استدرجتني لسماواتك أتصعّدها بالصدر الحرج مداراً إثر آخر، أنا الذي كنتُ أحترق شوقاً للوصول، وأنا من كان شوقي وعشقي براقي إليكَ، فإذا بجنوني يبلغ مداه.

كنتَ تستدرجني ككبش أضحية لعيدك برؤيا تتركني مصعوقاً بعدها ثمّ تسلمني لرؤيا أخرى أشدّ صعقاً.

فبأيّ عين تراك كنت تراني؟!

هل كنتُ عندك وأنا العاشق حامل لواء "لا" بإرادتي التي كرّمتني بها مؤمناً تبتليني أم كافراً تقتصّ مني؟!

وما دمتَ وحدك تعلم الغيب وما تخفي الألسن، إذاً أنت تراني حتماً بعيداً عن طقوس شريعتك أني لم أضمر لمخلوق السوء، وكنتُ السبّاق للخير والحسنى.

ألهذا تدخّلتَ بآخر لحظة وأجّلتَ موتي.. أجّلته لا أكثر.....؟؟!!

الآن وبعد كلّ عرفاني أعترف لك أني أجهلك.

لذلك سأكون بحجمي الطبيعي..

سأكون "كما أردتني" بكلّ نقصي.. إنساناً من طين هذي الأرض، مكرّماً بنفخة الروح فيه.

كانتْ هذه آخر رسالة منّي إليه..

وبداية ولادة جديدة.. لعلّني صرتُ بعدها الرسالة!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

View thanaa_darwish's Full Portfolio