الفصل الخامس / أما بعد ٢

 


"٢"


أيتها "النيرس".. يا ملاك الرحمة.. يا وجه أمّي الراحل ويا قلبها.. يا لمسة الكفّ الحنون أحسّه ميزان حرارة على جبهتي المحمومة على الدوام، استحلفتك بأغلى من عندك.. طفلك الذي تعلّقين صورته في عنقك كتعويذة شافية حامية، هلّا زدتِ جرعة المورفين التي تحقنينها في دمي، فقد تجاوزتُ عتبة الألم بسبعٍ طباق... وصوتي الخارج من حنجرتي لم يعد صراخاً آدميّاً، صار زئير أسد جريح حبيس القضبان.
ولطفاً يا أمومة هذا الكون، قولي للطبيب المناوب أن يخلع خارجاً نظرة الشفقة قبل الدخول اليّ لا بعد الخروج، ولست أدين نظرته المشفقة التي صارت اعتياداً ككلّ تفاصيل هذه المهنة، ولا رنين سؤاله المعدني : "كيفك اليوم يا بطل؟"، لكنني مللتُ السؤال العقيم بل إنني وصلتُ لأكثر من الملل.. لقد قرفتُ منه.
منذ مدّة لم أعد أسأله كم بقي في عدّاد الأيام كي لا أسمع زنبلك حباله الصوتية يكرّر: "الأعمار بيد الله".

الرحمة عند البشر قوالب وجمل حرفيّة لا تنحرف لأجل راحة مخلوق ما دامت تخالف الشريعة، وليتها حقّاً تنهي ألمي بوخزة إبرة صغيرة، لتحقيق ما يدعى "الموت الرحيم".

الألم الجبّار يوصلني لعتبة نتائج رهيبة لا تشبه حتماً كشوفاتي أيّام الزهد، فأمزّق في هذياني نصوصاً مقدّسة تحرّم الانتحار وأقهقه كالمجنون لحبكة القصّة من المؤلف الأكبر العبقريّ.
ثمّ أتذكّر أمّي الصابرة التي كرّمتها السماء برفعها قبل أن تشهد عذابي، وتطوف حكاياها لي قبل النوم حول سريري عن قصص الأنبياء ومعاناتهم وخاصّة أيوب....
سامحك الله يا أمّي، ليتك قصصتِ عليّ حقيقة جحيم رحلتنا على هذه الأرض منذ الولادة إلى لحظة إسراع أقرب الناس إلينا بدفننا قبل أن  تفوح رائحتنا الكريهة بدل طيبنا المعهود سنين حياتنا.
يا لسذاجة الأطفال كم يصدّقون الخرافات، حتى تصبح هذه الخرافات معتقداً تدور حوله طاحون حياتهم، وبهذه الخرافات يحكمون ويحاكمون أنفسهم والآخرين، وقد يدفعون حياتهم ثمناً لها،
بل أكثر من ذلك، فقد يقتلون ويذبحون.. وتكون السكّين فكرة أو اعتقاداً بيد من اعتبر نفسه الوكيل الحصريّ للسماء، وأنّه حامي الدين والمكلّف بالدفاع عنه.

لم يعد يشغلني أنني سأترك إن متّ زوجتي الحبيبة التي ترعاني بدموع العين وابتسامة داعمة ولا بطفليّ الفرح الوحيد الحقيقي بحياتي، اللذين لا يزالان بأوج حاجتهما لي كسند معنويّ وماديّ.

حتى الأسئلة الوجودية لم تعد تلحّ عليّ، كأن اسأل بقهر كما كنتُ أفعل في بدء إصابتي بالمرض: لماذا أنا يا ربّي.. وأيّ ذنب اقترفتُ.. ولماذا هذا المرض بالذات.. وأيّ قلب لك لتتحمّل كلّ هذا العذاب وترقبه بصمت دون ايّ ردّة فعل؟!

حتى شعري الذي تساقط بعد الجرعات الاولى صار آخر همّي وكففتُ عن النظر للمرآة لأرى أيّ أمرد صرتُه.. أو أتحسّر على زمن ورثتُ فيه كثافة شعر أمّي ولون شعر أبي.

صار هاجسي الوحيد أن تنتهي هذه القصّة بسرعة وأرتاح، وأعترف أنني بطريقة تفكيري تلك كنت تجسيداً حقيقياً للأنانية بل كنتُ ربّها الأعلى، كلّ رغبة بالحياة واستمرارها صار عبثياً ومضحكاً، ومشاعر كلّ الذين سيفتقدونني إن رحلتُ  تضاءلتْ بعيني أمام سطوة الرغبة بالخلاص.

كنتُ أرى ما يفعله الدواء بجسمي وكيف يفتك بالخلايا الحية السليمة والمريضة على حدّ سواء وأحس بفظاعة هذه الحرب داخلي ومناعتي التي انخفضتْ لدرجة التلاشي رغم كلّ المقوّيات والوجبات الداعمة الصحية التي أرهقتُ زوجتي بإعدادها.. ثم آلام الاستفراغ بعد كلّ جرعة وروحي التي كانت تنشلع من جسدي كلّ مرة ثم تعود في عذاب سرمدي لا ينتهي، عذاب لم أعد أسأل بسذاجة إن كان طهوراً أو قصاصاً.

وما بين الصحو والغفوة، ما بين الحقيقة والمنام ورغم دويّ هلوساتي سرّاً وجهراً، يصلني من الغرفة المجاورة حيث جاري المريض الملازم منذ شهور صوت آليّ يقول كأنه يتلو تقريراً أخبارياً: "خذوه إلى البرّاد لحين استلام "الجثّة".

ثمّ يتعالى النشيج ليصبح صرخات مكتومة من ذويه، لا يعني لنا نحن نزلاء الغرف المجاورة إلا احتمال أن يكون أحدنا هو اللاحق قريباً.. قريباً جدّاً.

هنيئاً لك يا أخي الذي جمعني به الألم القاهر ولعلّها الأخوّة الوحيدة الصادقة، لقد فعلتها وسبقتني في الانعتاق ، أقرّ بفوزك عليّ فيما أنا لم أزل عالقاً في برزخي بين الموت والحياة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

View thanaa_darwish's Full Portfolio