الفصل الرابع / ومن الحب ما اكتمل ٥

 

 

"٥"

 

هي النهاية إذاً.....

لم أصدّق لحظةً أن تصدق ريتا وعيدها بهجري الذي يعقب كلّ نوبة غضب وغيرة، كنتُ مؤمناً بل موقناً بأنّ عشقها كعشقي محال أن يصبح قبض ريح إثر خلاف غير منطقيّ بيننا، يستند أساساً على خيوط الأوهام الواهية لعنكبوت الشكّ.

كانت تردّد كلّ مرّة وهي تصرخ وتبكي:

-       

لن أسمح للحبّ أن يضعفني، ومحال أن أستمرّ في الحياة مع نيران الشكّ والغيرة مهما بلغ حبّي وتعلّقي.

وحين أحاول أن أشرح لها وأبرّئ نفسي مما لا يليق بمحبّ يعشق الهواء الذي تتنفّسه والتراب الذي تطأه، تجهش من جديد بالبكاء وتصرخ:

-       

دعنا نفترق، أو اختر.. أنا أو معجباتك.

-       

أنت معبودتي الأولى والأخيرة، ولا تغريني نساء الأرض قاطبة أو أجد بإحداهنّ بديلاً، أرجوك اهدأي وقدّري ظروف عملي كفنّان، واضطراري للمجاملة والملاطفة الذي تحسبينه غزلاً، وتتصوّرين أن الغزل يستبطن علاقة ما.

-       

جواد.. رأيتكما بعيني ولم يخبرني أحد! قل لي ما معنى أن تبقى تلك الفتاة معك في المرسم بعد أن غادر الجميع؟! أنا لا أشكّ فيك لكني لا أثق بأن نواياها بريئة، خاصّة وهي ترتدي ذلك القميص المفتوح عند الصدر، وتتعمّد أن تنحني على الطاولة بينكما.

كنتُ أعذر ريتا بغيرتها عليّ، لأني أعلم أن الغيرة مصدرها القلب، القلب الذي أحبّني ولا يزال، لكنّي لم أعذرها أن تخرب حياتنا بخيالاتها وتصوّراتها وتحوّل حياتنا لجحيم، ثمّ ما الذي يمكن أن أفعله لترضى، هل أفتح مرسمي للمعجبين فقط وأمنع حضور المعجبات!

أمسكتْ هاتفي المحمول وهي تقول بانفعال وتوتّر عالٍ:

-       

افتح على آخر محادثة بينكما، واقرأها لي.

خرجتُ عن طوري ووجدتُ صوتي يعلو وأنا اقول:

-       

هل تتجسّسين عليّ، أم تختبرين وفائي؟!

-       

لا.. فقط هو الفضول الذي يحرقني كي أعرف ما يبقيك سهراناً لساعة متأخرة من الليل؟! ومع من تتحدّث إن لم يكن معها؟!

-       

حبيبتي ريتا.. هي كلمة واحدة أريد أن أسمعها منك.. الآن.. هل تثقين بي أم لا؟!

-       

أثق يا حبيبي .. والله أثق.. ولا يمكن أن أتصوّر ولو للحظة أن تخونني، ولكن قل لي ما أفعل بهذه النار التي تأكلني، كلما رأيتُ إحداهنّ تتمادى معك في غنجها أو إغوائها؟

مسحتُ دمعها مطمئناً، وضممتها لساعات إلى صدري حتى أغفتْ كطفل صغير، ثم نمتُ وأنا أحسّ بضيق في الصدر لعجزي عن التعامل مع فعل لا إرادي قلبيّ.

وحين استيقظتُ صباحاً، لم أجد ريتا قربي في السرير، بينما ميلاد لا يزال نائماً كالملاك.

ناديتها ردّ الصدى أن لا أحد، بحثتُ عنها كالمجنون في غرف البيت، فلم أجد إلّا الفراغ الفاغر فمه لابتلاعي، فتحتُ الهاتف وبي أمل يراودني أن تكون قد تركتْ لي رسالة ولو على سبيل التطمين، لكنّ الهاتف كان أصمَّ أبكماً بلا أيّ إحساس أو تعاطف، وهاتفها أيضاً مغلق لا يجيب.

لو كان من عادتها أن تخرج يوم العطلة باكراً ما كنتُ استغربتُ، لكنها بالكاد تغادر المنزل وإن حدث فمعي، ومحال أن تكون عند أهلي، لأنها تخبرني قبل ذلك، لذلك لم أسألهم وأشغل بالهم في هذا الصباح الباكر.

تهاويتُ على السرير غير مصدّق، وكأنّي في قلب كابوس سأصحو منه حتماً بعد قليل، ولا أدري كم من الوقت مرّ عليّ وأنا على هذه الحال مسلماً نفسي لتداعيات الذاكرة تعيدني لتفاصيل قصّة حبّنا، واستحالة أن تتصرّف ريتا برعونة، ولن تفعل إلا ما يمليه عليه قلبها وحبّها.

عادتْ ريتا بعد حوالي ساعتين، بدتْ متعبة وعيناها حمراوان.

أسرعتُ إليها أضمّها وأنا اسألها:

-       

يا مجنونة هل ستفقدينني عقلي.. أين كنتِ؟!

-       

خرجتُ أمشي قليلاً، وأراجع تصرّفاتي غير العاقلة في الآونة الأخيرة.. آسفة حبيبي جواد لخروج انفعالاتي عن السيطرة.

-       

بل أنا الذي علي أن أتأسّف لأني لم أهتد بعد لطريقة تجعل نيران قلبك برداً وسلاماً تجاهي.

ثمّ مازحتها قائلاً:

-       

هل تقبلين أن تستلمي إدارة المرسم، وتسمحي لمن تشائين بالدخول.. وتمنعين من تشائين؟

حبيبتي.. من تلك التي تستطيع أن تنافسك ولو بخصلة من خصالك، ومن لها مثل روحك يا روحي، ثم هل تظنّين أن عيني ترى أجسادهن المعروضة وعندي كنوز سليمان؟!

إنك تملئينني الى الحدّ الذي ليس هناك فراغ لسواك.

دفنتْ رأسها في صدري، وهي تردّد.. أحبّك جدّاً.

ذلك لا يعني طبعاً أنها كفّتْ عن الغيرة، لكنها اطمأنتْ أكثر ولم تعد تحاصرني، وشغلتنا الحياة ومسؤوليتنا المشتركة تجاه ميلاد عن قصص الشكّ والغيرة، خاصّة بعد أن أخبرتني أن طفلاً آخر غافلنا ويصرّ على القدوم للدنيا رغم الحذر والمنع، ولم يكن أمامنا إلّا التسليم بما شاء الله لنا.

 

View thanaa_darwish's Full Portfolio