"٤"
لم تزفّ لي ريتا بشرى حملها فور عودتي، لا بعد حمّامي ونومي ولا على الغداء، ولا حتّى وهي تندسّ قربي في السرير متهيّأة لطيب عناق، كأنها آثرتْ أن تسقيني الشوق صرفاً دون أن يخالطه فرحاً مضافاً، رغم أنها لو أخبرتني مسبقاً ما كان شغلني شاغل عن شغفي بها، وولهي بحرير الحواس وسماوات النعيم وطاقاتها ما فوق البنفسجية وما تحت الحمراء، ولو أني ممن يميلون لاستعراض مفاتن الحبيبة لم يفقني في ذلك شاعر ولا فنّان، لكنّها قدسية الجسد عندي كما الروح، وحرمة الحبيبة عن أن يرى تفاصيلها سواي ولو عبر الكلمات أو ينتشي القارئ بما أصف فكأني أشاركه معبودتي ولو عبر الخيال، فريتا حبيبتي والياء هنا ليست للملكية والاستحواذ بل تعني ما يفعله الحبّ بديع السماوات والأرض بي، وليس عبثاً أن أدعوها بوّابة الربّ لا عن هذيان متعاطٍ للماريغوانا أو ممارسٍ ليوغا التأمّل وواصلٍ لمقام النيرفانا، بل بكامل قواي العقلية الواعية واللا واعية وبتمام حضوري القلبيّ، وما أرى حياتي كلّها بكلّ تفاصيلها إلّا "ممارسة للحبّ"، التي يحصرها الأزواج في غرف النوم لكنّها لا متناهي الصور والتجلّيات والممارسات الحياتية.
قالتْ لي بلا مقدّمات وأنا لا أزال في غيبوبتي على مرمر صدرها ويدها تتغلغل بنعومة في شعري:
-
بعد أشهر سيضاف لأسمائك الحسنى بقلبي اسم جديد هو "الأب".
رفعتُ رأسي ناظراً في عينيها، ورحتُ أضحك بصوت عال، فوضعتْ كفّها على فمي وهي تقول:
-
هسسس.. للحيطان آذان.. وستفضحنا يا مجنون.
-
أضحك ليس فقط فرحاً بهذا الخبر المفاجئ، وإنما لدهشتي من قدرتك على الكتمان يا طفلتي الشقيّة، أخبريني كيف استطعتِ الصبر عن إخباري طوال أيام غيابي وبعدها لساعات ونحن معاً، ثمّ اخترتِ هذه اللحظة بالذات لتتويجٍ جعلني سلطان العشق بحقّ.
-
ذلك أحسنُ وجهٍ لتأويل "إن كيدكنّ عظيم".
-
حبيبتي الماكرة.
توالتْ أشهر الحمل بكلّ ما تحمله من تعب وألم وتقلّب بالمزاج، مع ترقّب ولهفة وعدّ للأيام، ثمّ التحضير للولادة وشراء ملابس المولود مع سريره وعربته. لكن الشعور الأهمّ الطاغي على كلّ ما ذكرتُ كان بالنسبة لي هو إحساسي أني حقاً أحمل مع ريتا طفلنا المنتظر، لدرجة أني كنتُ أشعر بتعبها وألمها في جسمي، فأقول لها مثلاً وفي مداعبتي كلّ الجدّ: "ظهرك يؤلمني"، وحين أتلمّس بيدي حركة الجنين في بطنها تسري حركته في دمي لتصل إلى قلبي فيضطرب، وإن استعصى عليها النوم لضغط الجنين على الرئتين يضيق صدري كحالها وأصاب بعسر التنّفس، دون أن أبدي لها ما يحدث معي كي أخفّف عنها، مساعداً إياها في النهوض أو واضعاً الوسائد وراء ظهرها، وهكذا عشتُ تفاصيل الحمل لحظة بلحظة حتى وأنا في المدرسة أو المرسم، وحين حانتْ ساعة الولادة كنتُ ألد معها، فالصرخات التي راحتْ تطلقها في أقصى درجات الألم كانتْ تخرج من حنجرتي، وانقباضات الرحم التي تتقارب لتدفع بطفلنا للحياة كنت أحسّها تمزّق أحشائي معها!
حقّكم أن تروا أني أبالغ وحقّي أن أقول أنكم لم تجرّبوا الحبّ الحقيقي يوماً...
لكن مهلاً، للحكاية بقية.. فمع كلّ نهاية بداية ما جديدة، والطفل الذي أعطى لحياتنا سعادة مضافة ولحبنا تجسيداً آخر، كشف أيضاً عن ملامح لعلاقتنا لم تكن واضحة من قبل، فكلمة واحدة غير منصفة كافية لتحدث فارقاً في العلاقة، كأن تسمع جملة قاصمة ممن عشقتَ حتى نسيم أنفاسها، وحملتَ وولدتَ وتربّي معها:
-
أنت لا تشعر بي ولا بتعبي.
والحقيقة ليستْ العبارة بالذات ما جعل مشاعري تقف في ذهول وعجز عن الفهم، حتى لفرط ما ألمّ بها من ألم كدتُ أنكر أنها حقاً مشاعري، لأني متأكّد من حبّي لريتا ومن صدق هذا الحبّ وبشكل طبيعي واثق من حبّها لي، لكني لم أتوقع من حبيبتي حين عجزتْ عن استيعاب تفاصيل المسؤولية الجديدة كزوجة وكأمّ أن تتنكّر لما فعلته وأفعله لأجلنا معاً، أو تنعتني بقلّة الإحساس.
بدتْ ريتا بعد الولادة منهكة كأنها تخوض حرباً، وقد بقيتْ أمّها ترعاها لأسابيع، ثم عادتْ إلى مدينتهم بعد أن استقرّ بهم المقام هناك، وقد بذلتُ كلّ طاقتي وجهدي بعد سفر والدتها كي أهبها الراحة والسكينة، وأخذتُ على عاتقي أن أمارس مع طفلي كلّ ما تفعله الأم.. إلا الرضاعة! وكنتُ حريصاً على أن تنام جيداً ولو على حساب راحتي، بأن أسهر مع الصغير لترتاح، ولا أطلب منها أن تلبّي أيّ شيء يخصّني، لأني أساساً لستُ شخصاً متطلّباً.
ومضتْ عدّة شهور.. وانتظم نوم ميلاد وطعامه، لكنّ ريتا لم تعد ريتا...
ريتا التي كانتْ مثالاً للصبر والتعاون والطاقة الإيجابية أثناء الحرب والاحتجاز، صارتْ بعد الإنجاب تغضب بسرعة، وتفرط في البكاء دون سبب واضح، مع تقلّبات مزاجية حادّة.
أعود من المدرسة فأجدها نائمة، وألقى البيت على ما تركته صباحاً من الفوضى، ثم تعتذر عن عدم تجهيز الغداء، وتبدو طوال النهر متعبة وفاقدة للطاقة، مع صعوبة في التركيز وعدم الرغبة بممارسة أيّ نشاط ولو كان مَصدراً للمتعة.
أحاول أن أفهم هذا الانقلاب المفاجئ عند ريتا دون أن أظلمها فأعجز، ولا أعي نوبات الهلع والقلق واليأس عندها، ولا عدم رضاها عن نفسها أو خوفها من أن لا تكون أمّاً جيدة، أو إحساسها بانعدام القيمة وعدم ثقتها بنفسها.
تعتذر لعدم زيارتها لأهلي رغم أن بيننا جدار فقط، وتعترف بإهمالها للتواصل مع الأصدقاء، لكنها لا تبادر بأيّ خطوة بعد ذلك، وقد يتفتّق فجأة حنينها لأسرتها البعيدة، وتتعاظم بعينها المسافة التي تفصلها عنهم.
كنتُ أشحن ذاتي بتفاصيل قصّة حبّنا المختلفة كي لا أتعب أو أنسحب، واستمرّتْ تأكيداتي لها على أني أحبّها كما هي، وأني لا آبه للزيادة الواضحة بوزنها، لولا خوفي على صحّتها، وأشجّعها على العودة للرسم ولو لوقت قصير، وأحثّها على الخروج لقضاء وقت ممتع مع صديقاتها، وأخذ إجازة منّا ولو لساعات، وترك ميلاد بعهدتي في غيابها، وأفاجئها بهدايا تحبّها أو تتمنّاها، وأرسمها في لوحات بتجليات مختلفة، لأنها أساساً ملهمتي ولا ترى عيني أجمل منها، إلا أنها تبدو لي كلّ مرة وكأنها نسيتْ تماماً يوم كانت تقول لي ولو تعليقاً على عبارة تدهشها وهي تغمرني عشقاً:
-
حبيبي الذي لا تنقضي عجائبه.
ولأني أعلم الناس بريتا، رحتُ أستعين بالصبر والعشق، وبقيتُ أرعاها بذات الحنان وأهتمّ بالصغير والبيت، رغم البرود واللا مبالاة الذي تقابل بهما ما أفعله، والجفاف العاطفي الذي أقصي عقلي عن فكرة أن يغدو تصحّراً مع مرور الوقت، لأني كنت مصّراً على أنه عارض وسيمضي.
وفعلاً صدق حدسي....
استغربتُ كثيراً حين جلست بقربي ذات مساء يشابه كلّ الأمسيات الفاترة التي قضيناها بعد الولادة، كان ميلاد يغفو في سريره، وأنا أتأمّل الخالق بوجهه الملائكي ويديه الغضتين، وأشكر ربي بكامل الرضا على نعمته علينا.
أمسكتْ ريتا بيدي وقبّلتْ باطن كفّي بعينين دامعتين وهي تهمس: - شكراً لأنك حبيبي الذي يحتويني بكلّ حالاتي.
ثمّ ناولتني هاتفها المحمول وهي تقول:
-
حبيبي.. من فضلك استمع لهذا اللقاء.
استغربتُ طلب ريتا، لكني كالعادة وبدافع الحبّ فقط، رحت أتابع الفيديو باهتمام.
كان الطبيب يتحدّث عن أعراض "اكتئاب ما بعد الولادة"، التي تنطبق حرفياً على ما تمرّ به ريتا توأم الروح، وقد عبّرتْ ملامح وجهي عن دهشتي وبنفس الوقت عن راحتي، فكلّ ما كانت تمرّ به ريتا كان حالة خارجة عن السيطرة، وحمدتُ الله كثيراً في سرّي حين قال: "إن الاستسلام لفكرة أنه أمر عارض في منتهى الخطورة.. ويحب مراجعة الطبيب فوراً كي لا يتطوّر إلى ذهان ما بعد الولادة".. حمدته لأننا تداركنا الأمر قبل تفاقمه.
كلانا لم يكن يعلم ما الذي يجري، ولا خطرتْ ببالنا أبداً فكرة أن يعقب الولادة اكتئاب، وبالتأكيد كانت شهوراً ثقيلة على حبيبتي التي لم تكن مدركة للتبدّلات النفسية والجسدية التي طرأتْ عليها والشعور الدائم بالذنب والعجز عن الخروج من شرك يلتفّ عليها ولا تفهمه.
أما بالنسبة لي، فكنتُ كلّي إيمان بأنه اختبار لحبّنا الذي يقوى ويثبت مع كلّ ظرف أو مطبّ أنه الخلاص الوحيد، طالما الله معنا وبنا.
بعد جلسات قليلة مع الطبيب، والتزام ريتا بنصائحه وإرشاداته وتناول الأدوية التي وصفها بمواعيدها، مع رعايتي لها وحبّي الذي لم يخذلني لحظة، عادتْ ريتا كما رآها قلبي أوّل مرّة...
وعين القلب لا تكذب أبداً.