"٣"
يمضي بنا الطريق... وأنا أحيا يوميّاتِ ريتا لحظة بلحظة، واضعاً يدي على قلبي، كأنّي أهوّن عليها كلّ هذا الألم ما دامتْ وحدها تسكنه، أو أعبّر عن إعجابي بإرادتها وقوّتها، مستحضراً أيام سجني وتجديفي على الله، وأرى كم تفوقني صبراً وإيماناً وثقة بالله والإنسان، مستغرباً أن توحّدنا التجربة كما وحّدتنا الأفكار والمشاعر والصفات، وقد خطر لي أن خطّ ريتا وليس لغتها فحسب هو كائن حيّ، وأن سطورها حيناً تموج باضطراب وتتداخل الحروف، فأحضن الدفتر كأني أضمّها لتسكن وتهدأ وأنا أهمس: "يا روحي"، وحيناً أراها تنساب في نعومة خيط الحرير الذي لا يمكن قطعه فأمتلئ فرحاً بأن هذه السطور روح حبيبتي.
أغلقتُ الدفتر محبوس الأنفاس، ثمّ أمسكتُ بالهاتف لأطمئن على ريتا التي رافقتني بروحها بينما تركتها مريضة.
-
حبيبتي ريتا، طمنيني كيف حالك؟
يأتيني صوتها واهناً وهي تقول:
-
اشتقتُ لك.. أنا بخير.. لا تقلق عليّ فأنا الآن في بيت أهلي.. أين صرتما؟
-
على مشارف العاصمة.
-
الحمد لله.. طمّني حين تصلا لبيتنا.
-
بالتأكيد حبيبتي، أرجوك استرخي ولا داعي للتوتّر، ولطف الله دوماً معنا.
-
بأمان الله حبيبي.
-
بأمان الله يا روحي.
العاصمة هي العاصمة، كآخر مرّة رأيتها بها قبل سفري، ما تغيّر فيها هو الازدحام الذي لا يطاق والسيارات التي تفوق عدد السكان، فقد برعتِ الحرب بإساءة توزيع البشر بشكل غير منطقي على المناطق، وكان نصيب العاصمة الحظّ الأوفر سواء من المناطق المحيطة بها أو من المحافظات الأخرى، كذلك أصبحتْ هجيناً عجيباً من اللهجات والمستويات المعيشية وتبدو للناظر من بعيد كطاحون لا تهدأ ما بين طحين وقشّ تذروه رياح الأقوى.
نزلنا من الحافلة وتوجّهنا نحو كراج السيارات التي توصل لمدينة زوجتي، كانتْ هناك واحدة على وشك الانطلاق فحمدنا الله لأن الحرّ كان ساعتها لا يطاق، وقد بدا التعب على عمّي بشكل واضح، فتوسّلتُ أن يكون البيت بحال يسمح بالراحة أو نجد فندقاً ما زال مفتوحاً للعائدين.
رغم أن عمّي كان قد هيّأ نفسه مسبقاً لأسوأ احتمال، وهو أن يكون بيته كبعض البيوت التي رأيناها بعد دخولنا المدينة وقد ساوتْ بقضّها وقضيضها الأرض، إلا أنه لم يحتمل ما رآه مجرّد دخولنا من الباب المخلوع للشقّة، وراح ينتقل واجماً في شبه ذهول من غرفة لأخرى يعاين الخراب والدمار الحاصل، وكنتُ مثله عاجزاً عن استيعاب المشهد وما يمكن أن أقوله لريتا لو اتّصلتْ تستعجلني إخبارها بحال البيت.
أأخبرها أن قذيفة اختارتْ غرفتها تحديداً واخترقتْ أحد جدرانها ليهوي معظمه على سريرها ويحيله قطعاً مهشّمة من الخشب؟!
أم أصف لها حال لوحاتها التي علّقتها على الجدران في كلّ ركن، وقد تحطّمتْ أو تمزّقتْ بفعل فاعل انتقاماً من الفنّ؟!
أم أصوّر لها مكتبة أبيها الضخمة التي أمضى عمره يجمع على رفوفها قطوف الحكمة والشعر والفلسفة قد صارت مداساً على الأرض، تئنّ مزقاً في صمت العاجز كما يئنّ صاحبها مربّي الأجيال.. عمّي الفاضل النبيل.. وهو يتأمّل أنهم لم يروا بينها طبعاتٍ بحجوم مختلفة للقرآن الكريم؟!
أم أقول لها لم تبق نافذة لم تفغر فمها على اتساعه، وقد صار زجاجها شظايا متناثرة في كلّ مكان، بينما يغطّي الغبار المشهد كلّه؟!
هل أحدّثها عمّا نُهب من ملابس وأغطية وأدوات كهربائية، أو أعدّد لها ما بقي من أثاث لم يُترك تعفّفاً وإنما لصعوبة نقله؟!
لا.. لن أخبرها بأيّ تفصيل يزعجها، وسأكون كما ينبغي للحبّ أن يكون، قوّة بناء وخلق في وجه أعداء الإنسانية ومعرقلي النماء وحاملي راية الموت، وسيعود هذا البيت عامراً بمحبّة أهله وأنا منهم...
فتحتُ هاتفي المحمول وكتبتُ لريتا أخبرها بوصولنا وأطمئنها ان البيت والحمد لله بحالة جيدة مقارنة مع سواه، هو فقط يحتاج لبعض الترميم، ووعدتها أن أتّصل بها بعد أن نرتاح لأوافيها بكلّ التفاصيل.
وراح ذهني يرتّب بسرعة فائقة ما علينا فعله خطوة بخطوة حسب الأولويّة، وكان أهمّها بداية أن نتناول الطعام ونستريح قليلاً من عناء السفر لنقوى على العمل، وتناقشتُ مع عمّي حول توزيع المهام وخاصّة أنه ابن المنطقة ويعرف من أين يأتي بما يلزمنا للإصلاح والترميم، وفيما كنتُ أمسح الغبار عن الطاولة وأنظّف كرسيين للجلوس، وأضع ما جلبناه من طعام، كان قد أخرج من حقيبته قفلاً جديداً للباب المخلوع مع مفكّات للبراغي، فرحتُ أمازحه للتخفيف عنه:
-
عمّي العظيم.. الذي لديه لكلّ مقام مقال، إن مجرّد فكرة إحضار القفل معك تعني طاقة إيجابية مسبقة بأننا سنلقى البيت سليماً أو قابلاً للترميم.
يبتسم عمّي ويواصل تركيب القفل وهو يقول:
-
نعمة أن خزّان الماء بخير.. ونعمة أكبر استمرار وصول الماء للبيت كما هو واضح، رغم التقنين الذي يسري على مدينتنا كغيرها من المدن، سأتفقّد خطوط الكهرباء بعد أن نأكل وأصلح أيّ قطع من خطوطها.
لم تنسَ ريتا أن تزوّدنا بماء للشرب وكاسات وصحون بلاستيكية وملاءتين للأسرّة مع غطاءين للوسائد، فقلتُ في سرّي كأني أغازلها: "من شابهت أباها ما ظلمت!".
كانتْ غرفة نوم الصغيرتين هي الأقل تضرّراً، فباشرتُ بتثبيت خشب السريرين جيداً وشددتُ براغي كلّ منهما، ثمّ نفضت الغبار عن الفراشين وغطّيتهما بالملاءتين وغلّفتُ الوسادتين، واستلقينا في انهاك لنغرق خلال دقائق في نوم عميق، أيقظنا منه بعد حوالي ساعتين طرق على الباب.
كان الطارق أحد الجيران الذي سبقنا بالعودة إلى منزله بمدّة، لعجزه عن الاستمرار بدفع أجور السكن حيث أقام بعد النزوح، وقد جاء يسلّم علينا حاملاً طبقاً من الطعام وأرغفة من الخبز، وحلّفنا أن نطلب أي شيء نحتاجه بلا تردّد، وأن نبات عنده تلك الليلة، وكان صوت عمّي بادي التأثر وهو يشكره ويقول لي بعد أن أغلق الباب:
-
تأبى الإنسانية إلا أن تنتصر على العنف، كما تصرّ الحياة أن تسود على الموت.
هؤلاء الجيران قرّبتْ بيننا أسابيع الاحتجاز بشكل لافت، وقد ساعدت ريتا زوجته وأطفاله، أما هو فكان يعتبرني كسائر الجيران مرجعية في الكثير من الأمور ويقول لي أنت عقلنا المدبّر يا أستاذ منيف.
-
لا شيء يضيع يا عمّي، وللحياة سبلها العجيبة في ردّ كلّ ما نفعله إلينا ولو بعد حين، سواء كان خيراً أو شرّاً.
-
تعجبني العين التي ترى بها الحياة رغم صغر سنّك ابني جواد، وإني ممتنّ لها إذ وفّقتْ ريتا لتقترن بزوج عاقل ومحبّ مثلك.
-
بل أنا من عليّ أن أفخر بك، وأشكر القدر الذي جمعني بريتا، وكأنه يكافئني على نواياي الصافية تجاه البشر، حتى مع من أذاني أو أعماه الحقد عن رؤية قلبي.
قلتُ ما قلتُ وأنا أستحضر وجه ريتا وعينيها فيغلبني الشوق إليها، أداريه بطلبي من عمّي أن نباشر بتنظيف البيت من الأنقاض:
-
علينا أن نُنهي اليوم هذه المسألة...
أنت تعبّئ الردم بالأكياس وأنا أنقله خارجاً، وسنحتاج لكلّ ما تجده خلال ذلك من براغي ومفاصل وقطع خشب أو حديد.
أقبل جار ثانٍ وثالث، وراحوا يتبادلون التهنئة بالنجاة ويحمدون الله على السلامة فرحين بالعودة إلى بيوتهم، مع قهر واضح لحجم الخسارة، والمعاناة النفسية والمادية التي تكبّدوها، وبدأتْ حملة مساعدة اختصرتِ الزمن اللازم لإنجاز هذه المرحلة للربع، وأثناء ذلك جاء معلّم تركيب الزجاج والألمنيوم بعد أن اتّصل به عمّي وأخذ قياساتِ النوافذ والأبواب المتضرّرة، ووعد بتركيبها في اليوم التالي، فهي الخطوة الثانية المهمّة لحماية البيت.
نظّفنا البيت بعد ترحيل الأنقاض، واغتسلنا من الغبار ثم دعانا جارنا لنشرب الشاي عنده، وقد لاحظتُ كم رفعتْ مساعدة الجيران لنا من معنويات عمّي وعزّزتِ الطاقة الإيجابية فيه، وراح يثني بين الحين والآخر عليّ أمامه وكأنني ابن من صلبه حقاً، والجار يؤكّد على أن ابنة مثل ريتا تستحقّ خير الدنيا كلّه، ثمّ حمّلنا غطاءين وغازاً صغيراً ونحن نغادر ريثما نتدبّر أمورنا.
جاءتِ الكهرباء حوالي الثامنة تقريباً ضمن برنامج التقنين، فشحنّا هاتفينا، ثمّ كأن عمّي قد تذكّر أمراً، فنزل إلى القبو وكان قد أقفل بابه الحديدي بقفل يصعب كسره، مما جعل ما فيه ينجو من السرقة، ورجع وهو يقول: أي شيء مهما زهدتْ قيمته سنحتاجه حتما في الأيام القادمة!
بعد انقضاء عشرة أيام، وقبل أن أغادر عائداً إلى بلدتي وإلى حبيبتي التي اشتقتُ، والتي كان حضورها بداخلي الدافع الأقوى لأتحمّل كلّ هذا التعب، جلستُ أتأمّل ما أنجزتُ تغمرني سعادة الإحساس بقوّة الحبّ وإرادة الحياة.
كانت عيناي تعاينان كلّ ركن في البيت...
الجدار الذي أعدنا بناءه..
البيت الذي دهنّاه بالكلس كأرخص نوع للدهان..
الخزائن التي أصلحناها..
الستائر التي غسلناها وعلّقناها..
وتفاصيل صغيرة لن تبدو لعين الناظر بشمول، لكنها أخذتْ من روحي وجهدي وجُبلتْ بعرقي حتى لكأنّي أراها تهمس لي.. ما أبدعك.
لم يخطر لي أبداً أن خبرتي في ترميم بيت جدّي وجعله مرسماً لي ستساعدني بهذا القدر في أن أكون عوناً لأسرتي الثانية، وأن أجسّد الحبّ الذي تملّكني سلوكاً حيّاً وناطقاً، كما حلمتُ دوماً وهيّأتِ السماء الظروف ليتحقّق هذا الحلم.
ودّعتُ عمّي الذي اختار أن يبقى ريثما يستكمل الترميم مستعيناً بما يتوافر في المدينة من خدمات ليكمل ما بدأناه، وأبديتُ له مشاعري الصادقة بأني كنت أتمنّى أن أبقى معه لآخر مراحل الترميم لولا الدورات الصيفية للرسم التي ستبدأ قريباً، أما السبب الأقوى لعودتي فلم أخبره به، رغم أني لا أشكّ أبداً ببصيرة عمّي في أن يرى شوقي لريتا في لمعان عينيّ وشرودي الذي بدا واضحاً.
غادرتُ المدينة وأنا أفكّر كيف ستعود الأسر قريباً إلى المدن التي نزحتْ بالإكراه منها، وكم سيعاني أفرادها ريثما يبنون أو يرمّمون ويعيدون تأثيث منازلهم، وكم ندبة ستكون في قلب كلّ منهم مع ذاكرة مثقلة بالفقد والألم، وفكّرتُ كذلك بمن سيختارون عدم العودة لأنه لم يبق لهم ما يعودون إليه ولا يملكون قدرة الإعمار من جديد، بينما صور الماضي الجميل العالقة في البال تزيدهم وجعاً.
سيلتحق التلاميذ والطلبة بمدارسهم ويكملون تعليمهم، ولكن هل حقّاً سينسون الجريمة التي حدثتْ بحقّ طفولتهم، وهل سيحيون حاضراً أجمل يكون قادراً على جعلهم ينشغلون به عن الالتفات للوراء؟!.
ومن يقدر أن يحزر كيف سيكون الجيل الجديد، جيل ما بعد الحرب.. ما سماته وأخلاقه وتطلّعاته؟؟!!
هي البداية من جديد بوطن تغيّرت ملامحه...
ولا نملك أمام البدايات بكلّ ما تحمله من صعوباتٍ، إلا أن نراها تحمل أيضاً معنىً عظيم يقول:
"أن الحياة أقوى وأبقى".