الفصل الرابع / ومن الحب ما اكتمل ٢

"٢"

 

 

·      

اليوم الأول

لا أصدّق ما يحدث... أكبر من استيعابي ما قلب حياتنا رأساً على عقب وأدار دفّة المصير بالسلاح والقوّة، وجعل الجميع في حالة من الذهول ووجع السؤال!

استيقظتُ كعادتي باكراً ونهضتُ من فراشي مقاومة دفء الفراش الذي يغريني بالبقاء فيه في هذا الصباح الماطر من كانون الأوّل، فمحاضراتي في كلّية الحقوق لهذا اليوم تبدأ عند الساعة الثامنة، وأنا حريصة على ألّا يفوتني أيّ درس، بعد أن تحقّق طموحي بالالتحاق بكلّية الحقوق كما حلمتُ دوماً.

وفيما أنا أزيح ستائر نافذة غرفتي التي تطلّ على الشارع الرئيسي لأتيح للضوء أن يتسلّل عبر الزجاج، رنّ هاتفي المحمول وجاءني صوت صديقتي سميّة مفزوعاً من غير استهلال بعبارة "صباح الخير":

-       

ريتا.. انظرني من النافذة..

وأجهشتْ بالبكاء وهي تكمل بجمل غير مترابطة:

-       

لا جامعة بعد اليوم ولا من يحزنون.. راحتْ علينا وعلى أهالينا.. ويا عالِم إن كنا سنبقى أحياء.

ثم أنهتْ الاتصال بينما رحتُ أمسح الشارع بعينيّ عبر النافذة لمدى بعيد، فهالني وجود رجال مسلّحين وقد توزّعوا حتّى في الشوارع الفرعية، كانوا يرتدون لباساً عسكرياً غريباً، ويركبون سيّارات مصفّحة لم أر مثلها من قبل، فعرفتُ أن مدينتي قد استبيح أمانها وأننا منذ اللحظة أصبحنا محتجزين.

ما أشدّ غفلتي حين كنتُ أحسب أننا بمنأى عما يجري بباقي المدن، ما دامتْ مدينتنا تشكيلة من الطوائف، وسكّانها يعيشون بسلام مشغولين بأعمالهم وحياتهم الأسرية عن كلّ ما يشهده الوطن من نزاعات.

ذهبتُ إلى الصالون فوجدتُ أبي الذي كان أيضاً على وشك الذهاب للعمل، قد فتح التلفاز وجلس يتابع الأخبار، عبر محطّاتِ التلفزيون على اختلاف توجّهاتها، بينما أمّي تحضن أختيّ اللتين ارتديتا لباس المدرسة وتبكي بصمت يحرق القلب.

مضى الوقت ونحن لا نزال في حالة ذهول وعجز عن استشفاف الخطّة المرسومة لنا أو ماذا يُراد منا ومن مدينتنا التي تمّ الاستيلاء عليها بسهولة لعدم وجود مقاومة وسلاح بأيدي المواطنين، ثمّ رنّ الجرس بقوة وبشكل متواصل، فوجف قلبي وأحسستُ بخوف هائل، بينما أشار أبي أن نبقى في الداخل مع أمّي، ثم فتح الباب ليجد شابين مسلّحين راحا يسألانه بالتفصيل عن عدد افراد الأسرة، وإن كان يوجد رجل غيره في البيت، وعن عمله، ثمّ طلبوا هويّته وأعادوها له، وبدا واضحاً أن اسمه ليس ضمن القائمة التي يستهدفونها. تكرّر الأمر مساء إنما عن طريق شابين آخرين، دخلا وبدءا يفتّشان البيت بطريقة عشوائية، ونظر أحدهما نحوي نظرة أحسست معها أني سأكون سبيّة خلال لحظات، لكنهما غادرانا، وبقيتُ أرتجف رغم أن أبي طمأنني أننا لسنا المعنيين بعملية "التفييش" التي يجرونها.

-       

سننام الليلة جميعاً في هذه الغرفة الصغيرة وسط البيت بعيداً عن الشرفات والنوافذ، خوفاً من القذائف والرصاص.

قالها أبي وهو يساعد أمّي في تهيئة الغرفة لمنامنا، محافظاً على هدوئه وتماسكه، لأنه يعلم جيداً أنه عمود البيت الذي ما تداعى انهرنا جميعاً.

خطر لي قبل أن أحاول النوم أن أدوّن على هذا الدفتر يومياتي، وأنا أختبر لأول مرّة في حياتي مشاعر ومفاهيم مثل الخوف.. الظلم.. الطائفية.. الانتظار.. والوقوف وجهاً لوجه أمام الموت.. ورحتُ أتلو بسرّي المعوذّات وقصار السِّور وصلاة حفظتها من صديقتي المسيحية كنت أحس بطمأنينة عند تلاوتها:

"ربنا الذي في السماء.. لتكن مشيئتك"

 

·      

اليوم الثاني

لم أتوقّع يوماً أن يكون الموت بهذه البشاعة، فصوت إطلاق النار الذي أيقظنا جميعاً فجر هذا اليوم أسفر الصباح عن ضحاياه، ثلاث جثث ملقاة عند مدخل البناء المقابل لبنائنا، كانتْ إلى ما قبل ساعات تضجّ بالحياة وتحلم بالمستقبل.

اليوم أرى مسلّماتي تتساقط أمام عيني واحدة إثر أخرى، كبدهيّة أن للموت حرمة، وكانت نظرة خاطفة من شرفة المنزل كافية كي تجعلني أنهار وأدخل في نوبة من البكاء الهستيري لعجزي عن الفهم، مما جعل أبي يصعّد نبرة صوته محذّراً إياي من الخروج للشرفة أو النظر من النافذة، ثم لانتْ لهجته وراح يحاول تهدئتي مشيراً إلى أنه يعتمد علي بإلهاء شقيقتيّ عما يدور في الخارج سواء باللعب أو قراءة القصص أو مشاهدة التلفاز.

ثم ذهب ليتّصل عبر الهاتف إمّا استطلاعاً ليعرف مستجدّات الأمور أو اطمئناناً على معارفنا وتطميناً لأقاربنا خارج المدينة، وسمعته يقول لأمي:

-       

لقد خرّبوا المقسم، وقطعوا الاتّصالاتِ الهاتفية، وعلينا أن نتهيّأ نفسياً لما هو أعظم.

 

·      

اليوم الثالث

كان أبي محقّاً باستباقه الأمور، فقد نزل مساء أمس إلى قبو المنزل وهيّأه لأيّ ظرف طارئ نضطرّ معه للّجوء أو الاختباء فيه، وصدق حدسه بأسرع ممّا توقّعنا، حين علتْ مكبّراتُ الصوت ظهيرة هذا اليوم تطلب من السكّان جميعاً إخلاء البيوت والنزول إلى الأقبية، بعد أن قطعوا صباحاً الكهرباء عن المدينة.

وأن يقطعوا الكهرباء يعني أن يحكموا علينا بالشلل والظلام ومن ثمّ عزلنا تماماً عن سوانا سواء داخل المدينة أو خارجها، لأن هواتفنا المحمولة ستفرغ من شحنها خلال أقلّ من يومين، وهذا وحده كفيل بجعل كلّ فرد فينا كجزيرة منفيّة وسط البحر، مع إحساس يتفاقم بالوحشة والخوف.

أنزلنا معنا إلى القبو كحال سائر الجيران ما يلزم من فرش ووسائد وأغطية وماء وطعام وبيل للإضاءة وما توافر عنا من شموع، ولم أنسَ اصطحاب هذا الدفتر معي فهو أنيسي والشاهد على ما يجري...

كما لم تنسَ أمّي القرآن وثياب الصلاة، وأختيّ ألعابهما، وأبي.... حمل همّنا الكبير.

 

·      

اليوم الرابع.. من الأسبوع الثاني

أعتذر منك يا دفتري الحبيب لأني انشغلتُ عنك في الأيام الماضية، فقد حصلتْ تطوّراتٌ كثيرة وخاصّة بالنسبة لي.

بدأ التغيّر حين غفوتُ لأوّل ليلة بعيداً عن دفء سريري وأمان بيتنا في هذا القبو الرطب الضيّق المظلم الأشبه بزنزانة، فقد تقلّبتُ كثيراً وأنا أفكّر فيما كنا عليه وما إلنا إليه، وأكاد أكفر بكلّ القيم الإنسانية التي تربّيتُ عليها.

وفجأة من قلب السواد.. لمعتْ بقلبي بارقة نور خاطفة، وصوت لم أدر هل هبط عليّ أم صعد مني يقول بنبرة جلّية:

"فكّري جيداً.. هل دراستك للحقوق محض صدفة .. أم أن لك حقاً دوراً في كلّ ما يجري ولو بدا بسيطاً؟"

استويتُ على فراشي وكأن يداً نبّهتني، وبدأتْ أفكاري تتّجه بعيداً عن سوداويّة المشهد، ورحتُ أرتّب في ذهني ما عليّ فعله خلال الأيام القادمة، ورأيتُ حواسي كلّها تُساق نحو الأطفال الذين سيكبرون إذا قُدّر لنا أن نخرج من هنا، وعلى هذه الأيام السوداء ألّا تترك لعنتها في ذواكرهم، بابتداع أفكار مسلّية وبنفس الوقت تحمل قيماً إيجابية وروحا تعاونية، إضافة لتعزيز الأمل والقوّة عند المحتجزين، وتخفيف معاناة وألم المرضى، ومساعدة الحوامل والمرضعات، وأنا بكلّ عمل أقوم به، أشعر بطاقة التحدّي في داخلي تكبر ويزداد إيماني بالإنسان.

 

·      

النزوح

نفذتْ مؤونة الطعام في كلّ بيوت المدينة، رغم الخطّة الاقتصادية التي اعتمدها الجميع ليكفيهم ما تبقّى منه أطول زمن ممكن، بتقليل عدد الوجبات وكميّة كلّ وجبة، ورغم تقاسمهم ما في بيوتهم من زاد حتى آخر لقمة، فكأنّ المصير المشترك يجعل البشر أكثر قرباً وتآلفاً وتشاركاً، ويسفر عن الجوهر الإنساني الواحد فينا

 حوانيت المدينة خاوية منذ اليوم الأول لاحتجازنا، بعد أن أُفرغتْ وتمّ ترحيل ما فيها، وما من معونات تأتينا من الخارج رغم الأخبار التي تؤكّد أن ما ترسله الأمم المتحدة يكفي أضعاف عدد سكّان مدينتنا، فالكلّ يتاجر بنا وآخر همّه حياتنا، بينما وضع المرضى يزداد سوءاً لأن الصيدليات أيضاً تمّ الاستيلاء على ما فيها من أدوية، وأمام هذا الوضع الجديد، خرج جميع المحتجزين إلى الشوارع يطالبون بالغذاء والدواء، فلم تر القياداتُ بدّاً من ترحيلنا على دفعات من جهاتٍ حدّدتها لنا وفرضتها علينا.

إنها لحظة الخلاص، لحظة لن تستطيع أبجديات العالم كلّها أن تصفها..

عند باب البيت نقف قبل أن نسلم أنفسنا للمجهول الذي ينتظرنا، التفاتة أخيرة نحو بيتنا وتفاصيل ذكرياتنا التي لا نملك الوقت لاستحضارها، يحمل أبي الحقيبة الكبرى على ظهره، بينما أمّي وأنا نحمل الحقائب الصغيرة ونمضي سيراً على الأقدام  ريثما نصل للطريق العام، في دروب غير معبّدة تنغمس أرجلنا في الطين فنضطر لخلع أحذيتنا، فيستغرق قطع الطريق النهار كلّه على قصر المسافة.

كنت طوال المسير أردّد بيني وبين نفسي: (هذا الوقت أيضاً سيمضي)، فما من قوّة في هذه اللحظات إلا التي يستنهضها كلّ منا من داخله ليقوى على كلّ خطوة بالكاد صار بمقدوره نقلها، فيما قلبي ينفطر على أختيّ الصغيرتين وعلى كلّ الأطفال في تغريبتنا السورية، وعيناي معلّقتان على آلاف النازحين على مدّ النظر، وحّدتنا جميعاً على اختلاف مذاهبنا وأعمارنا وأعمالنا المعاناة والمشاعر، في حرب حتّى المنتصر فيها خاسر.

 

·      

بداية جديدة

تبدو هذه البلدة هادئة وسكّانها طيّبين، ولعلّ هذا ما نحتاج إليه حالياً لننسى، اخترناها بناء على نصيحة خالتي التي نزحتْ إليها قبلنا من الشمال، لبعدها عن الخطر والمشاكل، ورخص الأجور والمعيشة.

استأجرنا بيتاً صغيراً وتدبّرنا فرشه بمساعدة أهالي البلدة لنا ووصول بعض المعونات من أغذية وأغطية، وشراء اللوازم الضرورية المستعملة.

لم يكن الأمر سهلاً، فبعد أيام العزّ والاكتفاء نحيا على صدقات الآخرين، وما تمنّ علينا به الجمعيات الخيرية من مواد غذائية تتناقص شهراً بعد شهر، لكن دموعي التي انهمرتْ لأوّل وهلة ونحن نبدو كالشحّاذين تعلّمتُ كيف أحبسها كي لا تتأثّر بها أمّي وشقيقتاي، والأحلام الوردية التي طالما داعبتْ خيالي سأطلقها كطيور في الفضاء كي لا تختنق معي في هذا الوطن البائس، ومن يدري قد تعود لي يوماً ما ولو بعد حين، فقلبي يصرّ على أنّ "ما من حال يدوم"

غدا سأباشر عملي عند محام بأجر زهيد لكنه حتماً سيساعد في دعم تقاعد أبي، لن تنغلق جميع الأبواب رغم قسوة ما حدث، فحيثما كنتَ ستلقى يداً ممدودة نحوك لتنهض من جديد، ثق بالحياة وبنفسك وبالمحبة ثم.. دعِ الله يعمل.

نسيت أن أختم مذكّراتي بما يدور بخلدي تعبيراً عن إيماني بالحياة..

أفكر جدّياً بمعاودة الرسم، ففي داخلي اكتظاظ أفكار مما رأيتُ واختبرتُ وما أتطلّع إليه، وأحتاج لفسحة من البياض أتنفّس من خلالها، وأحلّق من خلالها بعيداً.. بعيداً.

آه أيها الدفتر الحبيب... آه لو يدري البشر.. أن لا خلاص إلا بالمحبة، بها نقوى على الألم ونقاوم الشرّ، ولولا كنّا قلباً واحداً ما كنا الآن أحراراً، حتى ولو تكاثف ضباب الغد القادم!

 

 

 

 

View thanaa_darwish's Full Portfolio