"٢"
أخيراً.. أزف اليوم الموعود....
لم تتأخّر ريتا عن الموعد كثيراً، رغم ذلك أحسستُ تلك الدقائق المعدودات دهراً..
حاولتُ جاهداً أن أداري لهفتي واضطرابي وأن أبدو طبيعيّاً قدر الإمكان، وأتعامل معها كما أتعامل مع كلّ روّاد مرسمي.. وبدتْ لي هي أيضاً بطبعها قليلة الكلام.. تزن جملها لتخرج بلا زوائد أو فضفضة ربما لأنها غريبة عن البلدة وغريبة أيضاً عنّي..
دعوتها لنجلس في حديقة المرسم الصغيرة في فيء العريشة.. وكانتْ شمس الصباح تبثّ الدفء في كلّ مكان وتنشر أشعتها لتنشّف على مهلها برودة الليل المنصرم.
وكالعادة غالبا ما يكون مفتاح الحديث خاصّة حين يلتقي الغرباء عن الطقس، وقد كان الطقس يومها أجمل ما يمكن أن يكون استهلالاً لأيّ حديث، فنيسان يحمل وعد بعث جديد بطقسه اللطيف المنعش وهوائه المشبع بطيب الزهور.. وصادف أنها من مواليد هذا الشهر الساحر.. والأكثر سحراً وغرابة أنها وُلدتْ في الأوّل منه.
ورأيتها وأنا أعدّ القهوة كيف تنقّل نظرها بمتعة بادية بين أحواض الزهور وأصص الحبق التي وزّعتها بكل أركان الحديقة وحتى في الغرف ووضعتُ أصيصاً صغيراً منها وسط المنضدة، ثم مدّتْ يدها لتتغلغل في أوراق الأصيص وتنشّقتْ كفّها الذي عبق بالطيب بعمق ونشوة فوددتُ لو كنتُ الذي يتنسّم ريحه.
عدتُ أحمل القهوة في فنجانين ولا أدري أيّ خاطر راودني جعلني أفضّ غلاف فناجين جديدة لم يشرب قبلنا أحد منهم كنتُ قد أحضرتهم معي من موسكو وقد أحسستُ بهم ينادونني لشرائهم كتحفة فنية.
سألتها وأنا أقدم لها فنجانها:
-
يبدو أنّك تحبّين الحبق مثلي!
ردّتْ بابتسامة:
-
ومن لا يحب هذا العاطر النضير المتميّز بأنّ طيبه في الورق لا الزهر، أنا أنتظر موسمه من العام للعام.
عبارة بسيطة قالتها بعفوية جعلتني أضيف لصفة فنّانة صفة أخرى هي شاعرة، ورأيتها فيض إحساس رهيف بتفاصيل أنثى.
تحدّثنا بدءاً عن انطباعها عن البلدة ومن تعرف فيها وكم مرّ عليهم وقت وهم هنا.. وسرّني أنها تعرف عدّة أصدقاء مشتركين بيننا.
عرفتُ منها أيضاً أنها كانتْ تدرس الحقوق قبل اندلاع الحرب واضطرتْ لترك دراستها.. وأنها تعمل حالياً سكرتيرة عند محام في البلدة براتب لا يكفي لأيّام، لذلك فكّرتُ ببيع اللوحتين رغم أنهما عزيزتان عليها.
سكبتُ لها المزيد من القهوة وقلتُ:
-
احملي فنجان قهوتك وتعالي أريك المرسم.
أبدتْ ريتا إعجابها بطابع المرسم القديم الذي لم يفقده الترميم هويّته كتراث شرقي.. خاصة الجدران المبنية من الحجر.. والأبواب والنوافذ التي كانتْ بشكل قناطر مزخرفة.
قلتُ لها شارحاً:
-
هذا المرسم هو بيت جدّي الذي طالما لهونا به صغاراً وضمنا حبّاً وحناناً، ورثته أمّي عن أهلها، ويبلغ عمره حوالي مئة عام.
لقد أرهقني وأنا أعيد بثّ الروح فيه فقد بقي مهجوراً زمناً طويلاً وكانتْ فكرة بيعه تراود أبويّ لكنهما عدلا عن الفكرة أمام إصراري على تحويله لمرسم خاصّ بي. وقد حرصتُ أن أحافظ على طابعه أثناء الترميم مع لمسات فنيّة أضفتْ عليه رونقاً جميلاً ومريحاً.
سألتني ونحن ندخل أوّل غرفة مليئة بلوحاتي.. عن تاريخ أول لوحة لي فأشرتُ لورقة من دفتر رسم صنعتُ لها إطاراً ينسجم مع بساطتها وعليه تاريخ قديم لطفل بعمر سبع سنوات احتفظتْ بها أمّي فرحاً بابنها الموهوب.
وتابعتُ:
-
ما زلت أراني في مستهلّ حلمي ذلك الطفل الذي ينقل عوالمه الى القماش أو الورق، وأطمح أن أجعل مرسمي معْلماً حضاريّاً فنيّاً وأدبياًّ رائداً في بلدتي.
قلتُ ذلك وأنا أشير إلى قطعة القماش البيضاء المعلقة على عارضة خشبية والتي لم تنل منها الألوان بعد.
تنقّلتْ ريتا بين اللوحاتِ بصمت أشبه بالخشوع، وفجأة وقفت أمام لوحتي "امرأة الحلم".. تغيّرتْ ملامحها وغابت في أمدية بعيدة كأنها كانت تقرأ روحي.. توقّعتُ أن تسألني من هذه أو ماذا تعني.. لكنها لم تفعل.
خرجنا من الغرفة فيما كنتُ أتابع بشغف ونحن ندخل الغرفة الثانية التي وضعتُ بها مراسم ومقاعد لطلاب دورة الرسم:
-
المرسم عالمي أقضي معظم وقتي فيه بعد عودتي من المدرسة التي أعلّم فيها التلاميذ مادة الفنون.. وكثيراً ما أنام هنا، وأشرتُ للغرفة الثالثة التي وضعتُ فيها سريراً وخزانة صغيرة.
الغرفة الرابعة احتوت مكتبة أغلب كتبها هدايا من أصدقائي روّاد المرسم.. وعلى الجدران لوحات قدّمتْ لي كهدايا أو لأعرضها للبيع.
وقفتْ ريتا تتأمّل كلّ لوحة بصمت، دون أيّ تعليق..
ثم فجأة نظرتْ إليّ بدهشة كبيرة باسمة قبل أن تغرورق عيناها بالدموع حين رأتْ لوحتيها على أحد الجدران وقد أحاط بكلّ واحدة منهما إطار أنيق بسيط ينسجم مع اللوحة ولا يطغى على جمالها.. وعيناي تقول لعينيها:
"لقد اشتريتُ اللوحتين بأيّ سعر تطلبين".
ثمّ أردفتُ رابتاً على كتفها بحنوّ:
-
اعتبريهما عندي أمانة وسأستوفي منك ثمنهما حين يفرجها الله عليك، ولن تجدي كمرسمي مكاناً يقدّر قيمتهما ويحافظ عليهما، وها أنا أعد نفسي بلوحات قادمة وكلّي ثقة بعودة ملائكة الوحي لهذا الخافق النبيل الجميل.
وسيتبارك بيت الفنّ بأن يشهد إبداعك وتجلّياتك وسأفرد لك ركناً خاصّاً بك منذ اللحظة ترسمين به وغداً أعطيك نسخة من المفاتيح فالمكان منذ اللحظة مكانك.
تضرّج وجه ريتا حياء، وخفضتْ رأسها لتهرب من التقاء عيوننا، ثمّ لملمتِ ارتباكها وقالت لي:
-
لا أجيد الشكر كثيراً، ولكني ممتنّة لصديقتي أنها عرّفتني عليك، وجعلتْ مفتاح الفرج بين يديك.
ثم صافحتني وغادرتْ.. بينما بقيتُ لوقت احتضن كفّي الذي صافح كفّها، مواعداً قلبي الذي اضطرب آن الوداع كاضطرابه ساعة اللقاء بمصافحة أخرى قريبة أرقّ وأوثق.