الفصل الثالث
توأم الروح
"١"
جاءتْ ريتا إلى مرسمي ذات نيسان دون موعد مسبق..
هلّتْ كنسمة ربيعية وكرفيف الفراشات في محفل النور وكانبثاق الينبوع رسولاً للنماء.
انتظرتْ ريثما تفرّغتُ لها وانتهيتُ من مروري على كلّ طلّاب دورة الرسم المسائية، لإعطائهم ملاحظاتي المبدئية والمباشرة برسم ما اخترتُه لهم ذلك المساء.
كنتُ أظنّها جاءتْ برفقة أحد أعضاء الدورة، فدعوتها بلطف للجلوس، ولم يخطر ببالي أبداً أن تلك الأمسية ستكون فيصلاً في حياتي وتاريخاً لا ينسى.
"ريتا"..... قدّمتْ لي نفسها بابتسامة عذبة وحياء آسر، فإذا بي أرنّمه في سرّي كأنّه تعويذة أو مانترا تكنس من الذاكرة العلائق والعوالق ليبقى معناه شعشعان ألق.
ومعناه عندي، تلك السنين المتأجّجة التي كان فيها محمود درويش نبيّ الثورة الأوحد،
"أنا أحمد العربي فليأت الحصار.. وأنا حدود النار".
سألتُها بعينيّ: هل كلّ ريتا تُختصر مثلك ومثل ريتا درويش "بإلهٍ في العيون العسليّة؟!"
لكنّ عينيها بأهدابها المسبلة لم تحر جواباً.
للأسماء سحر وسرّ
فإن قلنا ريتا حضر محمود درويش وإن قلنا مالينا تثنّت مونيكا ببلوتشي، وإن ذُكرتْ كوزيت حضر ربّ البؤساء.. فيكتور هيجو.
لا أحد يعرف كيف ولمَ يُختصر المبدع باسم رغم غزارة أعماله، أو كيف يخلّده اسم في ذاكرة الجمع لأجيال!
وفيما كنتُ غارقاً في غبطة تداعياتي، كانتْ ريتا تلملم ارتباكها لتشرح لي سبب زيارتها لمرسمي..
أما القدر فكان يحيك على مهل فتحاً جديداً بقصّة حبّ قلبتْ كياني وأولوياتي وأفكاري وتركتني نهب رياحها هباءً منثوراً.
ومن يدري.......
لعلّه سطّر خطوطها مذ كنّا في ضمير الغيب فكرة.
البحث عن أجوبة لأسئلة مراوغة مشاكسة تضييع للفرص ولفتنة اللحظة.
وأنا كنتُ في تلك اللحظة بالذات تحت سطوة فتنة اسمها وعينيها.... ريتا.
بادرتُها قائلاً:
-
أشعر أني أعرفك، وجهك أليف جدّاً بالنسبة لي، أكيد تقابلنا من قبل.. ولكن أين.. أين؟؟
أجابتْ بحياء:
-
لا أظنّ.. فأنا لستُ من سكّان هذه المنطقة، لقد اضطررتُ وأهلي للهجرة من مدينتنا وتركنا منزلنا بكلّ ما فيه في صباح ماطر عقب احتجاز دام لأسابيع وتحت نيران القصف التي لا يمكن ان تخمّن أكانتْ نيران عدوّ أم صديق! في وقت تختلط فيه الأوراق ولا جهة تتولّى نصرتك كفرد من سواد هذا الشعب، وبحثنا عن أكثر منطقة آمنة.. فقادنا حظّنا الطيّب لهذه البلدة الهادئة".
أبديتُ أسفي الشديد وحزني للحال الذي شمل الكثير من العائلات في ظلّ حرب لا ترحم..
قاطعتِ المشهد الدرامي الذي كان على وشك التحكّم بمشاعرنا معاً، بأن أخرجتْ بعناية من كيس كبير تحمله لوحتين مرسومتين على قماش أبيض بدون إطار وضعتهما على المنضدة وهي تقول:
"هل أطمح أن تعرض لي هاتين اللوحتين للبيع.. لا أعرف لمن اتّجه بطلب كهذا، وقد اقترحتْ عليّ صديقة عزيزة أن أقصد مرسمك لعلّ لوحاتي تنال حظّ عرضها للبيع عندك".
تأمّلتُ كلّ لوحة على حدة باستغراق وطفتْ على وجهي سعادة غير مصطنعة، أحسستُ بأن الألوان أضواء تغمرني بالنشوة وتناهى لسمعي لحن موغل في القدم ينبعث من تناغمها معاً ورأيتُ كأنّ الخطوط فيهما لغة سماويّة التكوين قابلة رغم بساطتها لفسحة التأويل.
أيقظني صوتها العذب من استغراقي، ولا أدري إن كانتْ قد لاحظتْ لمعان عينيّ أمام إبداعها:
-
هل أعجبك رسمي.. وهل آمل خيراً بشأن البيع؟!
لم يكن الظرف مناسباً لأخبرها ما فعلته بي لوحتاها، أو بتعبير أصدق وأدقّ.. روحها، إذ كان عليّ أن أعود لطلّابي وأتابع ما رسمه كلّ منهم.
لذلك طلبتُ منها أن تترك اللوحتين وتمّر عليّ لنتحدّث بذلك الأمر في وقت اتّفقنا عليه يناسب كلينا، ثمّ ودّعتها وأنا لا أزال في حالة من السُّكر والذهول.. وكأنّي أودّع روحي.
قضيتُ تلك الليلة أفكّر بريتا، أستحضر ملامحها القريبة الأليفة، أحاول أن أفهم ما حدث لي من لقاء عابر لا يتجاوز عشر دقائق مع أنثى لا أعرف عنها إلا رؤوس أقلام لا تكفي للحكم عليها أو التعلّق بها!
ثمّ ما يدريني إن كانت متزوجة.. مخطوبة.. أو مرتبطة بعلاقة حبّ!
وسألتُ نفسي وأنا أهوّم مع طيفها أهذا ما يدعونه صعقة الحبّ، وهل تحدث هذه الصعقة في عمر كعمري، بعد أن ولّى عمر الرغبات المتأجّجة وأحلام اليقظة في سنين المراهقة؟!
في قلبي غليان لا يصغي لمنطق عقلي واضطرابي يزيد كلما تذكّرتُ ما أراه في أحلامي منذ سنوات.. امرأة تلازمني كظلّ أبيض بلا ملامح.. ضبابيّة الحضور، تضمّني في ضعفي أو تنتشلني من ضيق، تظهر فجأة وتغيب بغرابة حضورها كإلهة جميلة.
قلبي يقول أن ريتا هي امرأة الحلم.. حبيبتي وقدري المكتوب، وعقلي كالعادة يعارض جنونه وهلوساته، ويسخر من أحوال الفنّانين وشطحهم غير المعقول.
ما الذي يحدث لي.. لم أكن أدري!
فخلال سنوات اغترابي صادفتُ وصادقتُ فتيات بأشكال وأفكار متنوعة، لكن لم تعلق ولا واحدة منهنّ بقلبي ولا خفق شوقاً لرؤياها أو لوعة لفراقها، وكلهنّ عبرن حياتي بخفّة دون أثر.
كما أنّ مرسمي بعد عودتي كان مفتوحاً للرائح والغادي، ويتردّد عليه يومياً الكثير من الوجوه من مختلف الأعمار.. وللفتيات حضور عالٍ ودائم فيه، إمّا للتدريب أو للمشاركة في المعارض التي أقيمها، أو لزيارة تلك المعارض وأحياناً لمرافقة أخ أو ابن أو صديق، لكن لم يحصل أبداً أن فُتنتُ أو جذبتني إحداهنّ بشكل ملفت كما فعلتْ ريتا.
عشتُ عمري يستهويني الجمال بكلّ تجلّياته وأتعبّد في محراب الجمال الطبيعي ومحاولات الإنسان عبر الفنون والآداب خلق عالم موازٍ له، وكثيراً ما كنت أتأمل جمال المرأة بهالتها النورانيّة وتضاريس تكوينها وكأنني أمام لوحة ساحرة لا تنازعني في تأمّلي شهوة أو رغبة بالتملّك ولم يحدث مرّة أن تعلّقتُ أو أحسستُ بأنثى على أنها مرآة روحي تتجلّى أناي بها رغم أنها كينونة مستقلّة بذاتها.
وكلّ النساء العاريات في لوحاتي كنّ مقدّسات في عيني ولم أقصد بعريهنّ إلا الوجه السافر للخلق قبل التشويه والتجميل، وكلّ منهنّ عشتار أو إيزيس أو فينوس.. تجلّ للخصب والأمومة وأنوثة الوجود.
بالأمس كنتُ أقول لنفسي في جلسة مكاشفة أني ممتلئ بإحساس الاستغناء وعدم الحاجة، وأن الفنّ يشبع كلّ فراغاتي ونقصي، فكيف يسخر القدر من ادّعاءاتي ويأتي بريتا من وراء سجف الغياب، مسلّطاً الضوء عليها وخالعاً عن مشاعري ثوب اللا مبالاة وكذبة أنّ النساء آخر همّي؟!
أم تراه حنيني هو من جذبها من ثنايا لا وعيي، حيث كنتُ أنتظرها حتى أثناء عدم انتظاري لأي شيء، وربما كنتُ أناديها في وحدتي ووحشتي وأنا أستأنس بتجلياتها كلّما رفّت فرشاتي على بياض اللوحة، فأتت في وقتها كما يأتي الربيع، أم أننا كثيراً ما نتوهّم أموراً ويريحنا ويسعدنا أن نعتبرها حقيقة ويقيناً، لتعرّينا الحياة غير آبهة بما نثرثر ونعتقد.
قلبي ملتاع منذ أوّل حبّ وأوّل خيبة أثناء مراهقتي، قبل سفري أو فراري.. حين فضّلتْ من أحببتها زميلنا الثريّ الذي يحضره والده كلّ صباح إلى المدرسة بسيارة فارهة.
كانتْ تلك أول صدمة عاطفية في حياتي، أنا الذي تصوّرتُ الحياة كما قرأتُ عنها في الروايات أو شاهدتها في الأفلام، ينتصر فيها الحبّ في النهاية رغم كلّ العراقيل.
وما كان بحسباني أنّ الرسائل القليلة التي تبادلناها سرّاً لم تكن إلا حبراً على ورق، وكل تلك العهود فيها قبض ريح، فكأن القدر شاء أن تكون أنثى جهنّمي وأخرى جنّتي.
ثمّ أنه من البديهيّ وجود امرأة أو أكثر في حياة إنسان فنان مرهف الإحساس شفيف الرؤى مثلي يكون لها دور في تغيير أو قلب حياته، أو أن تكون وحيه ومصدر إلهامه، فليس كالحبّ طاقة كونيّة تفجر الإبداع وتكون مدّاً ومدداً، فحتى الأنبياء والأولياء كان في حياة كلّ منهم امرأة ملهمة تآزر وتساند، لا لتكمل نقصها بالعشق، بل هو عناق كينونتين كاملتين كغيمتين بين أخذ وعطاء لانهمار الغيث.
فهل أنا جذبتها فأتتْ، أم هي قد فعلتْ، أم كلانا على مسرح عرائس الدنيا دميتان، تحرّكهما يد كتبتِ النصّ ووزّعتِ الأدوار وأوهمتنا أننا من اختار!