الفصل الثاني / ما بين هنا وهناك ٣

 

"٣"


 

في تلك البلاد الباردة.. احترق قلبي.

هناك.. تجرّعتُ أولى كؤوس القهر بعد الدلال الذي عشته في كنف أسرتي، وهناك حيث ظننتُ أنّي سأحيا حلمي بالعدالة والحرّية علمتُ أنّ الأرض سجن كبير، والحرّية ما هي إلّا حلم الشعراء والفنانين السذّج أمثالي لا غير.

هناك.. بين ليلة وضحاها وجدتني مرميّاً في زنزانة كأيّ مجرم خطير، بلا إثم ولا ذنب سوى عشقي للجمال والخير والمحبّة والسلام.

هناك أيضاً.. إن كان للأماكن ذاكرة لتشهد، كانت المرّة الأولى التي أجدّف فيها على السماء، وكأن الحصاة في فمي تكاد تخنقني، أكفر وأسخر وأنا في ذروة الضّيق، دون خوف من ربّ يراني ولا أراه، أصرخ في أوج بلائي.. قل لي بماذا تفرق عنهم ما دمتَ لا تتدخّل، وأين أنتَ من كلّ هذا الظلم والتجنّي؟!
يا لقسوة تلك الأيام، رحلتْ مع عذاباتها تاركة ندبة في القلب وتشويشاً في الإدراك والعجز عن الفهم.
كنتُ آنذاك في سنتي الدراسيّة الأخيرة، مشغولاً بالتّحضير لأطروحة التخرّج التي أردتها أن تكون حول "دور الفنّ في حركة التغيير".

رغم كلّ سلامي الداخليّ الذي كنت أحياه، وكمن وجد نفسه بقلب كابوس مرعب ولا يقوى على الاستيقاظ وجدتني بين يوم وليلة محشوراً في زنزانة ضيّقة مع جنسيّات مختلفة، تمرّ عليّ الأيام ولا أدري ما تهمتي، والهواجس تنخر رأسي وألف احتمال يراودني....
هل يكتبون التقارير هنا كما عندنا بخطوط أنيقة منمّقة؟!
هل يرشّون البهارات على جملة قيلتْ بلا قصد لتغدو طعاماً مسموماً بنظرهم؟!
هل أبناء بلدي حملوا معهم غلّهم وغيرتهم إلى هنا للخلاص منّي بأيد نظيفة.
ومن له تصفية حساب مع شاب خجول مسالم مثلي، لا يشكّل خطراً حتى على نملة؟!
وهكذا تمرّ الأيام والليالي في محاولات التخمين وتذكّر أحداث وأحاديث أيام ما قبل السجن.. فلا أجد فيها ما يريب، ما خلا تفجير أحد الملاهي في موسكو من قبل جماعات إرهابية كما ذكرتِ الأخبار.
كان المحقّق الذي لا يفتأ يستدعيني ليسمع كلّ مرّة اعترافاتي كما يتوقّع بحنكة وذكاء عشرات العقول مجتمعة.
فالسؤال ذاته يتكرّر بألف صيغة فيما عيناه تسبران أقصى نقطة بمن يحقّق معه.
الذي عليه في قمّة خوفه وعجزه.. سواء كان متّهماً أو بريئاً  أن يوحّد إجابته مهما تقلّب السؤال.
ولأنّي عشت كصفحة بيضاء، بلا أيّ تجربة أو خلفيّة أو حقد تجاه مخلوق، بلا أيّ انتماء رغم إعجابي برموز الثورة الاشتراكية، كانتْ أجوبتي متلعثمة مرتجفة لكنّها حتماً صادقة.
وهكذا بدأ ذهني يتفتّق عن ألف سؤال ولا أجد له إجابة، تتمحور حول العدالة والظلم والجدوى والعبث، وكم استحضرتُ أبي من خلف المسافات لأسأله.. أن يخبرني كيف انتهى الحال بي هنا مع المجرمين طالما التزمتُ بعدم تجاوز الخطوط الحمراء التي نهاني عنها؟!

 ثمّ وجدتني أتجرّأ على السماء، أقف أمامها كندّ أو خصم وأطالبها بأن تشرح لي ما أعجز عن استيعابه، وأبكي في أسري بدمع مالح وغصّة مرّة مستدرّاً عطف الله كصعلوك متمرّد بقهري السافر:
"
لو كنتَ موجوداً أرني قدرتك، وأنت الغنيّ عن دعائي تراني ولا أراك!".

كان في ضآلتي وهول قهري وألمي محاولة استفزاز نومه ليصحو، علّ عين رحمته تقع عليّ بين الزحام الذي خلقه وانشغل عنه، وأعرض أمامه تاريخي الطيّب منبتاً وتربية وحتى نيّة كأنه لا يعرفه، ثمّ أذكّره بصفاء سريرتي ومساعدتي للآخرين ومسامحتي لمن أساء وكأنّه ينسى.
وحين لا يأتي منه ردّ ويقابلني بالصّمت أو التجاهل، أصرخ بكلّ عجزي وأركل الجدران.
لا أدري بأيّ لغة كنتُ أجدّف وأكفر في سرّي، هل بلغتي الأمّ أم بلغة البلد المضيف أم من غير لغة؟!
كلّ ما أدريه أنني صرتُ أتلمّس السواد الذي امتدّ على مرآتي الصافية، والخراب الذي طال أفكاري المنضّدة، والسكينة التي خسف أرضها زلزال غير متوقّع.
رغم تشوّش حواسي واختلال توازني أثناء التحقيق المتكرّر كنتُ ألحظ كيف يشدّد المحقق أثناء استجوابي على  كلمة الإرهاب، وكنتُ أمام هذا المصطلح الرهيب كصعلوك أو ككائن ضئيل همّه أن يحيا في الظلّ بعيداً عن العنف والأذى ولو عبر الكلمات.

كيف استقام للمحقّق مثلاً أن يساوي بيني وبين من يفجّر نفسه نصرة لفكرة عشّشت في أوهامه حتى صارت حقيقة، وعلى ماذا اعتمد لأكون في نظره إرهابياً!!؟؟

ليته عاش معنا في بيتنا الأشبه بمناخ خطّ الاستواء من حيث الاعتدال، ليته فحص حليب أمي النقيّ الطاهر الذي رضعناه صغاراً ورأى سلام أبي الداخلي الذي حافظ عليه في أشدّ الظروف اضطراباً.

لكنّ المحقّق يثق بالورق أكثر من خرافات قصصي عن بيتنا الهادئ الحنون.. والله وحده يعلم ما كتب ضدّي في هذا الورق، أم لعلّه تشابه أسماء.. كيف لي أن أعلم؟!

كان ألمي في ذلك العمر كحصرمٍ لم تعتّقه شمس التجربة بعد، وحيد في بلاد الصقيع، غنيّ بثقافتها الاشتراكية، ممتلئ بفلسفة لينين وماركس، لكنّ كلّ ذلك الإعجاب لم يشفع لي أمام هويّتي العربية المغضوب عليها.
لا حفظي لأشعار عرّابها الخالد بوشكين ولا صور عظمائها على جدران غرفتي.. جعلت المحقّق يقتنع بصدقي وبراءتي واستنكاري لتهمة ملفّقة.

 فنظرته لي لم تتغيّر عبر كلّ جلسات التحقيق، نظرة تعتبرني مجرماً مخرّباً جاء يخلّ بأمن دولة هادئة ويروّج لنشر الإسلام، بل ويربطني بتنظيم أتّبع تعليماته بدقّة موعوداً بالجنان والحوريّات الحسان.

كيف.. ومتى.. وأين وكلّ أدوات الاستفهام التي خطرت ببالي لم أجد لها جواباً يريحني لأعرف جريمتي، وعلى أي أسس بُني هذا الاتهام الذي لا يشبهني؟!

ثمّ بعد سجني لشهور حسبتها دهوراً، اليد التي أدخلتني ذلك الدهليز المظلم المغلق، هي ذاتها أخرجتني منه، دون أن أعلم لماذا دخلتُ وكيف خرجتُ.
الإله الذي جدّفتُ عليه بكلّ جهلي وحزني وعجزي يتولّاني حين تخلّت عني حتى حكومة بلدي، فالسّياسة لا تكترث للأفراد وما يحدث معهم، ومباحثات الدول بين بعضها عامّة وتخصّ مصالح البلدين ولا تعنى بمواطن هنا او هناك، أقُتل أم ظُلم أو حتى انتحر إفلاساً من العدالة؟؟!!

هكذا يتدخّل اللطف الخفيّ، يفتح كوّة في النفق المظلم ويسحبني كشعرة من العجين، وسط ذهولي الذي لبس منذ ذلك اليوم ثوب التُّقى.. وكأنّي أقرّ من خلال زهدي وتصوّفي بأنّي ربما لم أعرف الكبير بعين العقل لكنّي رأيته بعين القلب، حين سُدّتْ سبل الخلاص الدنيويّ وأفلستُ من كلّ حول وقوّة، رأيته يتجلّى لي طاقة فوق الحواس والمعقول، فصرتُ كالممسوس أردّد: هوْ.. هوْ....  وأعذر كلّ مجاذيب العشق الذين أحبّوه لا رغباً ولا رهباً ولكن لأنه أهل لذاك.

هي ليلة لا أنساها.. كنتُ فيها  أتكوّر كجنين في رحم ظلمتي، قانطاً من أيّ فرج محتمل، سمعتُ حارس المهجع ينادي باسمي فنهضتُ مفزوعاً إلى مصيري، لكنّه لم يأخذني لغرفة التحقيق بل لمدير السجن الذي أعاد لي هاتفي المحمول وما كان في جيوبي من بطاقات ومال ومفاتيح، وختم ورقة إخلاء السبيل مع صكّ براءتي من أيّ جرم دون أيّ توضيح!
فخرجتُ مذهولاً غير مصدّق أنّي حقّاً استعدتُ حرّيتي، مع نتيجة توصّلتُ لها بعد هذه التجربة المريرة في عمر لم يزل غضّاً أن لا حرية مطلقة أو دائمة، ورحتُ أستشعر في ضعفي قوّة، وفي ادّعاء معرفتي جهل، وضاعتْ مني كلّ التعريفات بين الأضداد كالإيمان والكفر، لكنّ مرحلة جديدة بدأتْ في حياتي، لعلّها الرؤية بعد عمىً، أنّ الوجود الذي نجهل كلّ شيء عنه قد يسكن قلوبنا دون أن تعنيه ثرثراتنا بين تأييد واعتراض، وأنّ فركة أذن صغيرة  قد تكون إشارة منه لنكون حيث يجب أن نكون.. بآدميّتنا الحقّة.
حينها صار همّي استدراك ما فاتني لإكمال رسالة التخرّج والعودة إلى بلدي، مع فارق واضح بين ما كنته قبل هذه التجربة المريرة وما صرتُ عليه...

"فكلّ خبرة هي ولادة جديدة، وما الحياة الحقّة إلّا حيّة، تسلخ جلدها كلما أعاق نمو باطنها".

 

 

 

 

 

 

 

View thanaa_darwish's Full Portfolio