"٢"
فارقتُ وطني وأهلي وأصدقائي وكلّ مألوفاتي التي أحببتها وتعلّقتُ بها، وكان بي توق كبير لمرحلة جديدة من حياتي مستقّلاً حاملاً مسؤوليّة هذا الاستقلال، وقد خالط توقي خوف من المجهول في بيئة أجهل كلّ شيء عنها.. ابتداء باللغة وانتهاء بسياستها، إلّا ما قرأتُه في سنّ مبكرة لأدبائها وأعجبتُ به جدّاً وأسرني بإنسانيته، فكم مرّة أعدتُ قراءة السفينة البيضاء.. شجيرتي في منديل أحمر.. المعلّم الأول.. المعطف.. لمن أشكو كآبتي.. وغيرها من روائع الأدب الرّوسي بنفس الدهشة وخفقان القلب، كأنّني أقرأها للمرّة الأولى.
ثم ابتدأ الإحساس بالفقد وراحتْ سوسة الحنين تنخر قلبي وأنا أعاني من صعوبة تعلّم هذه اللغة الجديدة والثقيلة على لساني، وتعثّر انسجامي مع كلّ ما حولي، وما أكثر ما كنتُ أبكي حين أضع رأسي على الوسادة وأغمره بالغطاء فلا يلاحظ رفيقاي اللذان يشاركاني الغرفة ضعفي وقهري، وأغلب الظنّ أنّهما أيضاً عانيا ما عانيتُ، وكثيراً ما كنت أتّصل في الشهور الأولى بآنا ونتحادث عبر الهاتف أو نخرج لنمشي أو نجلس في حديقة أو مطعم فيطمئنّ قلبي، لكن آنا عادتْ بعد انتهاء إجازتها وشعرتُ بعد سفرها بالفقد والحاجة ومعنى الغربة والوحدة، رغم أن الأستاذ فائق لم يتخلّف أبداً عن التواصل معي عبر الهاتف، ولا أنسى مواقفه الرجولية معي حتى لحظتي الأخيرة في تلك البلاد.
مضى العام الأول بطيئاً، وأنا أتحدّى نفسي أنّني سأغدو أقوى من كلّ ما قد يعرقل وصولي لتحقيق حلمي، ثمّ شيئاً فشيئاً بدأتُ أعتاد العالم الجديد وأحبّه، فقد خلقتُ لي أجواء شفّافة من الجمال عبر حضور المعارض والاطلاع على تجارب أعظم فنّاني العالم، بكلّ المدارس الفنيّة على تباين أنواعها، وأطرب لثناء أساتذتي على بصمتي الخاصّة في الفنّ، وتوقّعهم لي مستقبلاً مشرقاً إن حافظتُ على طاقتي الإبداعية فيما لو تغيّرتِ الظروف، وتفجير طاقاتٍ جديدة كامنة لو حالفني الحظّ.
ورحتُ بكلّ طيبتي وتلقائيتي أتواصل إنسانياً مع مختلف الجنسيّاتِ والعروق لإيماني بالجوهر الجميل الواحد الذي يجمعنا، وأحاول ان أتجنّب الحواراتِ التي قد تثير حساسيّة عند الطرف الآخر، فلا أمسّ لأحد معتقداً ولا انتماء وأتجنّب أن أُستفزّ إن حاولوا المساس بأموري الشخصيّة، وأكتفي بمتعة التناغم الفنّي والأدبي مع أصدقائي، وغالباً ما أحرف مثل تلك الحواراتِ إلى حيث أريد، أو أنسحب منها بكلّ هدوء، مع أنّي كنتُ في بلد الحرّيات وحقّ التعبير شرط ألا تمسّ أمن البلد الذي أنت في ضيافته.
لقد ساعد على ذلك بالتأكيد أنّي نشأتُ في بلدة كأسرتي معتدلة مناخاً وفكراً، وقد كانتْ حقّاً منطقة وسطى كما تمّ تقسيمها جغرافياً، فقد حوتْ خليطاً عجيباً من الأديان والمذاهب والأحزاب، لم يوحِ بأنّ هذا الانسجام كان ينتظر شرارة صغيرة ليبدأ الانكماش وعملية شدّ الحبل كلّ حسب انتمائه، بينما يضيع صوت اللا منتمي وسط كلّ ذلك الضجيج.
بعد أقلّ من عام على سفري، اندلعتْ أوّل شرارة في الشارع العربي وفي تونس تحديداً تطالب بالتغيير، فالمواطن العربيّ في كلّ بقاع الوطن كانت له نفس المطالب رغم تباين الأولويّاتِ، ثمّ بدأتِ الشرارة تمتدّ من شارع لشارع ومن مدينة لأخرى، حتى وصلتْ لبلدي.
أحرق الشاب التونسي محمد البوعزيزي نفسه في مدينة سيدي بوزيد في أواخر عام ٢٠١٠ وتحديداً في السابع عشر من كانون الأول، احتجاجاً على الشرطيّة التي صفعته أمام الملأ لأنه رفض أن يغادر مع عربته المحمّلة بالفواكه والخضار والتي كان يعتاش منها، وبعد ثمانية عشر يوماُ توفّي متأثّراً بحروقه، فكانتْ هذه الحادثة فتيل اندلاع الثوراتِ التي انتقلتْ من بلد لآخر كنار في الهشيم.
لم يعد عبد الرحيم هو نفسه الذي عهدته فرحاً ضحوكاً متحفّزاً، انطفأتْ ضحكته وتحوّلتْ لنقمة وسيل من الشتائم وصار يقضي وقتاً طويلاً يتابع ما يجري ويشعر بالعجز والتقصير لأنه لا يشارك رفاقه ثورتهم على الظلم والاستبداد.
ولن أنسى أبداً صباحاً استيقظنا فيه على صوت عبد الرحيم يودّعنا فيه لأنه قرّر أن يعود لتونس ملغياً منحته الدراسية ولم نفلح أبداً في إقناعه بالعدول عن قراره، كان قد وضع روحه على كفّه وقرّر أن يشارك أيضاً كباقي شباب بلده في إسقاط النظام، لولا أن عرف أن الرئيس قد سقط فعلاً بعد حوالي شهر، فاحتفلنا معه بهذه المناسبة وبمناسبة إلغاء فكرة سفره.
في كلّ اتصال مع أسرتي للاطمئنان كان يصلني خبر ما عن أحد أعرفه استشهد أو اعتقل أو صار "معفّشاً" وهو المصلح الشعبيّ لمن ينهب البيوت التي خلتْ من سكّانها نتيجة الحرب، ومع كلّ اتّصال أسمع دعاء أمّي وهي تحمد الله على أني لم أبق بالبلد ولم أسمع منها يوم ترجّتني ألّا أسافر.
يمكن القول أن بلدتي كانتِ الأقل تضرّراً إذ لم تتعرّض للقصف أو للدمار، وظلّتْ بمنأى عن الانشقاقات التي ولّدتْ حركات دينية متطرّفة ولكن الوضع عموماً كان مأساوياً بامتياز، وقد دفع بالكثير من أبنائها للهجرة وتسليم أنفسهم للبحر والمتاجرين بالبشر، والذي تحتاج البشرية لكتب ومجلّدات لكتابة تفاصيل من بقي ومن هاجر ومن مات.
لكنّ أولويّة أنني ببلد أجنبي وعليّ أن أدرس ولا أعرّض نفسي لأيّ أذى ولو عبر حوار، جعلتني أقصي نفسي حتى عن صفحاتِ الانترنيت لأني لم أشأ أن أُحسب ولو عبر كلمة على أيّ طرف من الأطراف ليستخدمني لتعزيز موقفه، بعد أن امتلأتِ السجون بالمعتقلين، ونشأتْ حركات دينية متطرّفة تدعمها دول خارجية اتّخذتِ الجهاد في سبيل الله عنواناً لنشاطها وأفلتتِ الأمور من زمامها لتصبح بيد تجّار الأزمة.
كان وجه أبي يلوح لي فجأة وأسمع صوته كأنه حقيقة يسرّ لي:
-
كلّ ما رُسم لدمار هذا البلد تحقّق بالحرف، وما كان الشارع الهادر الذي يحلم بالعدل والحرية والمساواة إلا أداة محلّية لتنفيذ المخطّط العالمي، خاصة بعد مدّه بالسلاح...
لو أنك ما زلتَ هنا، ربما منعتك بالقوّة من أن تشارك فيما كنتُ أرى نهايته!
ويختفي وجه أبي ويخفت صوته بغرابة حضورهما، أما أثره فباق كالوشم بي، ويمكنني اليوم أن أتفهّم خوفه عليّ أكثر، وأرى كم كان به من الحكمة، وأستذكر ما كان يسرّه لي مؤكّداً أنّ لكلّ مواطن عربيّ مواطناً آخر يتبعه كظلّه ليرصد تحرّكاته ويكتب حتى نوبات غضبه واعتراضه ويقدّم تقريراً عنه ثمّ يقبض ثمن مهمّته في حماية الوطن.
او حين يعيد قصّ حكاياه بنفس المرارة وكأنه يخاف عليّ من ذات المصير:
- آه لو تدري يا بنيّ ما فعلوا ويفعلون بكلّ من يخالف ما تعارفوا عليه حتى صارت مخالفته تعني الكفر الصريح، والخيانة العظمى، والشذوذ الواضح، في ذلك الثالوث الخطير".
تدمع عيناه وهو يتخيّل ويجعلني أتخيّل معه ما فعلوه وما يمكن أن يفعلوه بكلّ مخالف أو خارج عن النّسق يرون به موقظ للفتنة.. مخرّب للوطن.. مدمرّ للأخلاق ومحرّض على الفساد.
يصمت فأقرأ في صمته صرخة مخنوقة وأستشعر شوكاً عالقاً في حنجرته.
بينما تحدّثني دموعه وهو يقرأ القرآن أو الإنجيل أو المخطوطات القديمة الصفراء التي انطفأتْ عيناه وهو يبحر في لجّتها سابراً أغوارها محلّقا في سماواتها.. كم عاش من القهر الوجوديّ وكم حلم بالإنسان خليفة الله على الأرض وكم حلّق فكره بأمدية من الحرّية، في غد لا تكمّ فيه الأفواه فحقّ الاختلاف بدهيّة وجوديّة تكرّم الإنسان بدل أن تجعله عبداً لمن يعتلون المنابر ويجلسون على الكراسي، في سلطة التخويف بدل تكريث مفهوم الرحمة في الاختلاف، ولم يجد لأحلامه ظلّاً على الأرض إلّا السراب.
أتأمل اليوم الفرق بين الحكمة والخوف مادام كلاهما يجعلنا نحجم عن أمر ونحن نرى العاقبة لو فعلناه، فأرى أن الامتناع عن أمر بدافع الخوف يكون بسبب توهّم أشياء غير موجودة أو تضخيمها لضعف في بناء الشخصية، أما الحكمة فتستشفّ ما يمكن أن يحدث وفقاً لمعطيات الواقع والتجربة التي يحكمها العقل، فتنتهي النفس عن أمر لأنّها ترى سلفاً النتائج المترتّبة عن القول أو الفعل، وعبر العين الثالثة ترى ما لا يرى وتكبح جموح الهوى والاندفاع.
وها أنا اليوم أردّد ما كان أبي يقوله لي، ويبدو أني كنت أحتاج أن أبتعد وأنضج لأفهم أن:
"الحياة أثمن بكثير من كلمة تعبير، تراها من حقّك لكنها قد تدقّ عنقك".