الفصل الثاني
ما بينَ هنا وهناك
"١"
كانتْ تلك المرّة الأولى التي أركب بها المترو، ولم يسبق لي أن رأيته إلا في الأفلام، وبقيتُ مذهولاً أمام هذا الإنجاز الحضاري الهائل وهو يعبر بنا الأنفاق تحت الأرض بسرعة فائقة، جعلتني أستحضر وقوفي لساعات لانتظار الحافلة في بلدي، والاستقتال لأظفر بمقعد خالٍ، عدا عن سيل الشتائم ورائحة العرق من تكدّس الأجساد وتلاحمها، وتساءلتُ بسذاجة كم سنة ضوئية نحتاج لنحقّق إنجازاً كهذا على سبيل المثال، يحكمه النظام التلقائي والطبيعي.
وصلتُ غرفتي في السكن الجامعيّ، لأجد شابين عربيين يشاركاني السكن، قدّم لي كلّ منهما نفسه:
-
عليّ.. من العراق، سنة أولى طبّ.
-
عبد الرحيم.. من تونس، سنة ثالثة رياضيات.
استعصى عليّ فهم اللهجة التونسية ولكن الأمر لم يدم طويلاً إذ أصبحتْ لهجاتنا خليطاً عجيباً مع اللغة الروسية التي كان علينا أن نتكلّم بها لتقوى محادثاتُنا.
كان العراقيّ عليّ وديعاً مسالماً بملامح أقرب للأنثوية لكنّه مغلق على نفسه، ولم ألحظ انفعاله مرّة إلا حين كان يتذكّر أبيه الذي قضى في السجن زهرة شبابه كمعارض شيوعيّ متّهم بالنشاط السياسي لإسقاط النظام، أما عبد الرحيم فكان على العكس تماماً شخصية انفعالية لكنّها تضجّ بحبّ الحياة والإقبال عليها، ورغم أنه لا يشبهني باندفاعه ونهمه وصوته العالي، أحببته وتمنّيتُ في لحظات كثيرة لو أنّ لي صخبه، خاصّة حين كان يرفع صوت أغنية ما من أغاني الراب ويرقص عليها، ويلحّ علينا لنرقص معه، متحمّساً لهذا النوع من الغناء الذي يعتبر المغرب العربيّ انبثاقاً له في تسعينيات القرن الماضي.
كان طيّباً سهل العريكة بملامحه الخشنة وسمرته، خلاف عليّ الذي رغم نعومته وهدوئه بدا لي صندوقاً مغلقاً لا تضمن في أيّ لحظة يمكن أن ينفجر، وأنا كنتُ بينهما ما بين حالين.. الحفاظ على خصوصيتي التي لا أحبّ أن أراها متاحة للآخرين، وانفتاحي عليهما لأنهما يشتركان معي في معظم التفاصيل اليومية الحياتية.
بالتأكيد كانتْ سنتي الجامعية الأولى صعبة جدّاً، وحتى اللحظة كلما تذكّرتها أرى أيّ طفل كنتُ، وكم يلعب الأهل دوراً في مركّباتِ النقص ونقاط الضعف عند أبنائهم دون أن يشعروا وغالباً بدافع الحبّ والحرص فتكون النيّة طيّبة والنتائج سيّئة، بينما يفترض أن تكون التربية خلقاً آخر لا استنساخاً عقيماً، وحينها وعبرها يتمّ بناء المجتمع السليم.
فليس كلّ شابّ قادراً مثلي على قهر ضعف متوارث، أو اتّخاذ قرار الانتصار عليه بالإرادة والاستعداد النفسيّ والعقليّ من جهة وتوافر الظروف المساعدة لذلك من جهة أخرى.
لا.. لم ألُمْ أبويّ يوماً على مخاوفي، فهما أيضاً ضحيّة تربية خاطئة وظروف غير مساعدة، في واقع يجعلك تخاف حتى من نفسك.
بل على العكس أحمد الله الذي جعلني أولد في أسرة طيّبة محبّة ترى أن الدّين لله والوطن للجميع، ومدّني بالطّاقة الكونيّة التي تعهّدتْ بذرة الرفض بوجداني، لأكون متوازناً قدر الإمكان.. ولأنسجم قلباً وعقلاً ونفساً مع الوجود ومع محيطي، وأحيا الانفتاح بعقل واع يوازن دوماً أمام كلّ هوى أو غواية بين الأسباب والنتائج، وكم يحرم العقل صاحبه متعاً آنية ويساوي بين الشّاب والكهل، فيقلّل خيباتِ سنّ الشّباب لكنه يحرمه من توهّج شعلة الفتوّة بما يجب وما لا يجب.
"أن تكون عاقلاً يعني بالمحصّلة ندماً أقلّ.. وفرحاً أقلّ.. مقابل الكثير من الرضا عن الذات"