الفصل الأول /حصاة تحت لساني ٤

 

"٤"

 


المطار متاهة حقيقية، وأنا كطفل أضاع أمّه في الزحام، أحاول أن أركّز انتباهي جيّداً على اللوحاتِ المضاءة التي تحدّد الرحلة وموعدها، ونوافذ انهاء الأوراق وختم جواز السفر، وشريط الحقائب، الى ما هنالك من تفاصيل تحتاج لخبرة سابقة، وكان يخفّف تصاعد توتّري ومخاوفي كلّ من الأستاذ فائق وزوجة صديق أبي آنّا التي بقيتْ معي خطوة بخطوة، فوجدتُ فيها نعم الرفيقة اللطيفة.

حين صعدنا سلم الطائرة وتوجّهنا إلى مقاعدنا، وجدتُ آنا تتحدّث إلى المضيفة، ثم تركتْ مقعدها وجلستْ بجواري مبتسمة فبادلتها الابتسامة بامتنان، يبدو أنّ المضيفة يسّرتْ أمر جلوسها على المقعد المجاور خاصّة وأنّه ظلّ فارغاً مما جعلني أخمّن أنّه لا يخصّ راكباً من الركّاب.

قلتُ لآنا قبل أن يطلبوا منا شّد الأحزمة بقليل أنّ لدي رهاب المرتفعات والسفر جوّاً، وأنّي أحسّ بقلبي يخفق بسرعة وسيتوقف لحظة إقلاع الطائرة، وأخبرتُها أنّ عقلي يرفض تصديق بقائي معلّقاً في الجوّ لمدّة أربع ساعات!

فضمّتني بحنان، وأعطتني ورقة، ثمّ طلبتْ مني بلغتها العربية المكسّرة القريبة للقلب أن أدوّن اسمي عليها لمرّاتٍ باليد التي لا أستعملها للكتابة عادة لتشتيت انتباهي عن الخوف، ومراقبة تحسّن مهارة  كتابتي مرّة بعد مرّة.

ثم أعطتني قصبة شرب بلاستيكية لأضعها في فمي، وأنشغل في محاولة التنفّس من خلالها، حيث ستساعد هذه العملية في خفض تسارع الأنفاس الذي قد يصيب الخائفين.

لم أصدّق حقّاً أنّي تغلّبتُ على رهاب السفر جوّاً، فقد انشغلتُ عن رعبي بتأمّل العاصمة من النافذة التي بدأتْ تصغر وتبتعد عن عيني، ثم بتتبّع الغيوم التي تمرّ بنا بشكل ساحر ومرعب معاً، بينما تبدو الأرض لي بقعاً زرقاء وخضراء وصفراء.....

ثم أخرجتْ آنا من حقيبتها اليدوية حلوياتٍ ومكسّراتٍ وفواكه مجفّفة ووضعتهم أمامنا، وأخذتنا الأحاديث بعيداً عن الطائرة ومخاوفها، فلم أشعر بفارق العمر الكبير بيننا، وأحسستُ أنّي كسبتُ صداقة قلب كبير وأمومة فيّاضة.

حدّثتها عن حلمي بدراسة الفنّ وكيف رضخ أهلي لقراري في اختيار السفر لتحقيق طموحي، وأبديتُ لها مخاوفي من المجهول القادم إليه ولا أعلم عنه إلّا معلوماتٍ عامة أو قراءات أدبية لا أكثر، فشجّعتني وأثنتْ على إرادتي ونضجي، وبثّتِ السكينة في روحي وهي تقول:

-       

سعيدة بك يا جواد،  وكم أجد نفسي في تحدّيك قبل عشرين عاماً!

ابتسمتْ عينان بلون البحر وكأنّها تستحضر تلك الأيام البعيدة بنفس انفعالاتها، وتابعتْ وهي تسرح في سماواتٍ بعيدة نحو ذلك الماضي:

-       

لم يكن زوجي كأيّ شابّ أعرفه أو عرفته، جذبتني وسامته العربية بلون بشرته الأسمر والملامح الواضحة والمواقف الرجولية التي كنتُ أراها تسفر عن وجهها يوماً بعد آخر، وقد تعلّقتُ به لدرجة إحساسي بأنّ قدري مرتبط بقدره وأنّ حياتي محال أن تكون بدونه.

لم آبه لاستنكار والديّ المنفصلين أصلاً منذ كنتُ صغيرة ولا لتحذيراتِ صديقاتي، كنتُ مسحورة تماماً يقودني الحبّ كعمياء حيث شاء.

لن أحدّثك كيف مرّتْ تلك السنين عليّ بعيدة عن أهلي ووطني، في بلد عانيتُ فيه من التباين في الثقافة والطباع والحضارة ومفهوم الأخلاق تحت بنديّ "عيب وحرام"، ولا كيف كبرتْ ابنتاي في الهوّة الشاسعة بين حرّيتي وقيود مجتمع لا يشبهني، ولكنّي أقول لك بأني لستُ نادمة.. فقد كان خياري، والسعادة ألّا نجبر على أمر مهما كان، لأننا سننعم بخير ما اخترنا ونتحمّل شرّه برضانا.

صمتتْ آنا، ووعدتني بتواصل أكيد بيننا لاستكمال الحكاية، كذلك لذتُ بالصمت وأنا ما زلتُ متأثّراً بكلماتها.

ثمّ لا أدري كيف سرقني النوم فغفوتُ، لأراني في الحلم أحلّق بخفّة طائر فوق ثلاثة خطوط حمراء، وكنتُ أحمل بمنقاري ريشة مغموسة بالألوان، تحيل الخطّ الأول ينبوع ماء والخطّ الثاني سرب يمام وتجعل من الخطّ الثالث حديقة زهور.

ألتفتُّ بعد انتهائي، فوجدتُ طيوراً من كافّة الأشكال والأحجام  تحذو حذوي دون خوف، في رقصة وجودية ما بين تغريد ورفيف أجنحة لتشكّل لوحة بديعة، فإذا بالثالوث الخطير "سياسة.. دين.. جنس" الذي حذّرونا منه يغدو حياة طبيعية بدون قهر وقتل وكبت، ورأيتُ المشهد من الأعلى بعين أوسع ينظمه قانونٌ حاكم، وضميرٌ فرديّ يقظ، وعاداتٌ سليمة تربّتْ منذ الصغر.

استيقظتُ بعدها على صوت المضيفة تطلب من المسافرين التهيّؤ للهبوط.

"فكأنّ الطائرة ما كانتْ إلّا وسيلة تحمل الطائر إلى حيث يغدو الحلم حقيقة"


View thanaa_darwish's Full Portfolio