"٣"
كان الأستاذ فائق بحراً من العلوم والخبرة، وكنتُ أصغي إليه طوال الطريق مأخوذاً بثقافته وأسلوبه الشيّق في الحديث، بحيث لم أشعر بالوقت أو المسافة، وأتساءل كيف لعدّة سنوات بيننا أن تنضج الإنسان بهذه الطريقة في الشخصية والتجربة والأفكار؟!
سألته بمعرض حديثنا:
-
أستاذ فائق، أنا فعلاً لا تفارقني الدهشة، وأستغرب كيف ومتى اكتسبتَ كلّ هذه المعرفة وامتلكتَ الوقت لقراءة هذا الكمّ من الكتب؟!
يبتسم بودّ وهو يربت على كتفي ويقول:
-
قريباً ستفوقني بكلّ ما ذكرتَ، لأن لديك ميزة ليست لديّ، هي أنك فنّان، وما دمتَ بهذا الشغف والاندفاع سأذكّرك يوماً بما ستكون عليه بعد سنوات إن مدّ الله بعمرينا!".
لقد منحتني كلماتُه دعماً كبيراً جعل طاقتي تزداد توثّباً، واستعجلتُ الأيام لأراني فعلاً بذات حضوره الواثق، فيا لسحر الكلمة كم تفعل بنا، وهي ترفعنا لنطال النجوم، أو تهوي بنا في لجّة الإحباط، كما يمكن لشخص أن يدفعنا كريح طيّبة في إبحارنا نحو الحلم المشتهى، أو يحطّم مجاديفنا برؤيته أن كلّ ما نفعله وهمٌ وسراب.
لن أنسى أبداً اللحظة التي نظر بها إلى عينيّ مباشرة، وهو يقول لي:
-
صدّقْ أني أستطيع أن أقرأ حتى طفولتك، فجواد.. الطفل الهادئ المسالم لم يكن كما يبدو للجميع، وطاعته ما كانت إلّا احتراماً لوالديه أو معلّمه أو ربّما من خوف وتجنّب للعواقب.
رأسك الذي تعوّد على الانحناء كان يعرف أيضاً حين تكون وحدك كيف يعبّر بالرفض أو الاستياء، وما أكثر ما كنتَ تميل للوحدة، لتعبّر عن رفضك أو رغباتك من خلال رسومك على الورق، حين تحاصر بتحديد ساعات النوم والاستيقاظ، أو اختيار الصداقاتِ، أو حتّى في أكلك ولبسك.
يزداد ذهولي لإحساسي أن الأستاذ فائق كان ملازماً لي منذ طفولتي، خاصّة حين يستطرد:
-
أراك تكبر، تدخل مرحلة المراهقة لتبدأ التغيّراتُ الفيزيولوجية والنفسية بالظهور فتشي بأنّك لم تعد طفلاً، لكنّ الخوف يبقيك في دائرة وجوب الطاعة دون حوار، لأن مخاوف الأهل عليك تزداد بدل استيعاب التغيّر الجديد.
-
ما أقدرك على قراءة كتاب النفس يا أستاذ، مع أنك رجل علم وهندسة!
تفتح كلمات الأستاذ فائق الباب الموارب بيننا، وأشعر أني أنساق للبوح له بثقة وطمأنينة، دون خوف من سوء فهم أو حسابات واحتمالات، فأحدّثه عن شبح الخوف الذي عشّش بداخلي طوال سنين عمري منذ سنيني الأولى يوم كانت العتمة ترعبني، وأتهيّب لقاء الغرباء، وأتوتّر من الأصوات العالية، ثمّ كيف شطح خيالي في تصوّر ما يقصّه رفاقي عن الجنّ والأشباح والوحوش واللصوص وأبالغ في تحويلها لأفلام رعب، وأسررتُ له أني حتى اللحظة لا تفارقني صورة المعلّم بعصاً غليظة يعاقب بها كلّ من يهمل كتابة الواجب أو يسيء الأدب أثناء الدرس، وكلّ النصوص التي قرأتها لاحقاً لم تحسّن صورة المعلّم بعقلي.
كانتْ كلّ كلمة تخرج من فم الأستاذ فائق تقع بقلبي وعقلي وأنا أرى به الصديق لا الواعظ، يصغي إليّ ويدفعني لأكون كما أنا دون خجل أو خوف.
تابع قائلاً:
-
ما أعظم من قال "خير طريقة للقضاء على الخوف هو الوقوع فيه"، وها أنتَ تفعل بكلّ شجاعة، وبخطوة سبقتْ بها أقرانك، الخوف يا جواد سمة طبيعية عند كلّ الكائنات، أما غير الطبيعي فهو تكريسه عمداً أو عن غير قصد.
أنا مثلك يا جواد شببتُ لأقرأ قائمة المحظوراتِ الكبيرة التي تشكلّ خطراً علي، وتضافرتْ جميع الجهاتِ لمنعي من ممارسة حرّيتي تحت اسم حمايتي، ولأخبرك مثلاً كيف يسري الخوف إلينا من أهلنا دون أن ننتبه.. كانتْ أمّي حنونة جدّاً وفي منتهى التفاني، لكنّها كانتْ بحالة من الخوف الدائم .. إن زاد ملح الطعام، أو أهملتْ كيّ قميص أبي، أو سمعتْ كلمة لا تروقها، أو اضطرّتْ للسفر، أو مرضتْ، أو نسيتْ وقت الصلاة، أو تعاركتُ مع أحد الأطفال، أو.. أو...فانتقلتْ مخاوفها إليّ لا شعورياً.
صار كلّ ما هو خارج أسرتي غولاً سيأكلني، وصدّقتُ أن للحيطان آذاناً تلتقط كلّ كلمة وتبلغها لأولي الأمر، حتى الله برع الجميع بتصويره منتقماً جبّاراً يسلخ الجلود ويوقد النار العظيمة ويتفنّن بوسائل التعذيب لحرق الخارجين عن طاعته، ولم أجد جواباً لسؤالي: "لماذا يزداد عدد المجرمين رغم كلّ هذا التخويف؟!"
ثم بدأتِ الأسئلة النائمة تستيقظ في عقلي دون أن ألقى أجوبة تقنعني، حينها بدأتْ مرحلة جديدة عندي بالتأمل والإصغاء لما يقوله قلبي.
وختم حديثه بابتسامة جعلتني أبتسم بدوري، وهو يمسك كفّي بين كفّيه معزّزاً ثقتي بنفسي، فيما نتأهّب لولوج المطار.
بقي الأستاذ فائق مرجعيتي الأوثق وأخاً كبيراً لي طوال فترة دراستي، وقد استفدتُ حقاً من ارشاداتِه ودعمه النفسيّ، وكثيراً ما كنتُ ألجأ إليه كلما أُشكل عليّ أمر خاصّة في سنتي الدراسية الأولى، وكان يصبر على جهلي وخجلي بأخلاق حافظتْ حتى النهاية على سموّها ومعدنها الأصيل.
وكانتْ كلمة الشكر التي خصصته بها ضمن إهداءات أطروحة التخرّج، أقلّ ما يمكن أن أفعله عرفاناً بأثره الإيجابيّ عليّ، في نقلتي الحياتية والنفسية الجديدة.
وبقيتْ عبارته حتى اللحظة ترنّ بأذني بوضوح:
"استفتِ قلبك ولو أفتوكَ".