"٢"
معذورةٌ الفراشة التي يجذبها النور رغباً وتقصيها النار رهباً، فتلك هي الحياة الحقيقية، وروحي كانتْ حينها كتلك الفراشة لا ترى إلّا نور الحلم يناديها ولو احترق جناحاها، وهل تراها تمتنع لو ألف مجرّب نصحها بالتوبة؟!
استيقظتُ وأنا أتوسّل أن يبارك أبي قراري ولا يدفعني باعتراضه على سفري لسلوك لا يرضيه، ويبدو أن دعائي استجيب، فقد سألني فيما نتناول الفطور متعمّداً عدم النظر في عينيّ عن موعد تقديم أوراقي للمنحة الدراسية، ففهمتُ أنّه لم ينم ليلة أمس أبداً.. وأنّ والدتي أقنعته بأسلوبها ودموعها أنّ الإذعان لرغبتي خير من أن يفقداني.
وهكذا كان ذاك الصباح مختلفاً، لأني به أمسكتُ مقبض الباب الموصد أمام حرّية اختيار مستقبلي، لأخطو خطوتي الأولى المتعثّرة، لكنّها الواعدة حتماً بأن تصير جناحاً أحلّق به نحو آفاق رحبة وأمدية لا تحدّها الأسوار.
لم يتأخر الردّ بقبولي في إحدى جامعات روسيا الحكومية ذات الاختصاصات بالرسم والموسيقى والرقص، وكنتُ شبه متأكّد من أنّهم سيقبلونني، بعد اجتزتُ امتحان التّقديم بامتياز، فسارعتُ للتّسجيل بدورة لتعليم اللغة الروسية، وكنتُ فعلاً قد أتقنتُ قليلاً منها عبر متابعتي لبرامج عبر الإنترنيت، كان حماسي يغلب مخاوفي كلما طفتْ على السّطح، وأشعر كأنّي أملك العالم في قبضتي، وأن القادم أجمل.. أجمل حتماً!
خلعتْ أمّي خاتم زواجها من بنصر يسراها وأعطتني إيّاه لأبيعه ولم يكن تمنّعي ليفيد في تلك اللحظة فقد كنتُ بحاجة للمال، وتلعثمتُ وأنا أعبّر لها عن امتناني ووعدي لها بأن أعوّضها حين أتخرّج خيراً.. فابتسمتْ، وكم لابتسامة الأمّ في مواقف كهذه معان يصعب علينا استيعابها، فكأنّها تقول.. كونوا بخير ولا أريد عوضاً عن تضحياتي المادية والمعنوية غير أن أراكم سعداء وناجحين.
ساعدتني أمّي في حزم أمتعتي وتهيئة حقيبة السّفر، وكانتْ سارة تعيد كلّ مرّة على مسمعها مراجعة الورقة التي كتبتُ بها لوازمي وأنا أطلب منها الاختصار للالتزام بالوزن المسموح به في المطار، وللمرّة الألف تتلو وصاياها عليّ بأن أتجنّب برد تلك البلاد ما استطعتُ لذاك سبيلاً، وأن أتدارك الصّداع الذي لازمني منذ طفولتي حال إحساسي به قبل أن تلزمني نوباتُ الشّقيقة الفراش وتجعلني أتقيّأ ما بجوفي.
وحذّرتني من الغرباء الذين سيشاركونني غرفتي:
-
برضاي عليك لا تترك مصروفك في الغرفة حين تخرج، وضعه تحت رأسك حين تنام، هؤلاء ليسوا أباك ولا أمّك ولا أخوتك ليهمّهم أمرك! ولا تدعهم يستغلّونك خاصّة إن كانوا أكبر سنّاً منك، وكما عهدتك لا تصعّد أيّ حوار مع أيٍّ كان فسلامتك هي الأهمّ.
ثمّ يا بنيّ، أخشى ما أخشاه من بنات تلك البلاد، لقد نشأن على حرّية العلاقاتِ ويا خوفي أن تقع في شراك إحداهنّ.
وكانتْ تعيد النصائح بقلب الأمّ وسارة تغمزني بطرف عينها أنّ في الإعادة إفادة، بينما أخواي التوأم ورد ومجد يلازمانني كظلّي، أكتم عنهما شوقاً يسبقني منذ اللحظة إليهما.
عند الباب وقفنا جميعاً بانتظار السيّارة التي ستنقلني إلى المطار.. حيث سيمرّ عليّ المهندس فائق الموفد كمعيد ليدرس الدكتوراه في الهندسة المدنية، وقد قال لأبي قبل أيام أن لا يقلق عليّ حين رآه مصرّاً على مرافقتي إلى المطار، وواعده بأنّه سيتوّلى الاهتمام بي كأخيه الأصغر، ولا أدري كيف أذعن والدي مرغماً رغم خوفه عليّ باعتباري لم أزل طفلاً في عينه، فشارباي اللذان خطّا وصوتي الذي اخشوشن وقامتي التي طالتْ لم تزده ثقة بقدرتي على التوازن في ذلك العالم الشاسع، ولكون خوفه وعدم ثقته أقوى من وعود الأستاذ فائق ولم يطمئن قلبه تماماً، كثّف اتصالاته ليعرف أنّ زوجة صديقه الأوكرانية مسافرة لتزور أهلها وقد عدّلتْ تاريخ سفرها ليكون على ذات الرحلة، وأكّدتْ له أنها ستلاقيني في المطار وتهتمّ بي.
ضممتُ والدتي مودّعاً وأنا أجاهد كي لا تجرّني دموعها لبكاء مماثل، ثمّ ضممتُ سارة وأنا أهمس لها:
-
إيّاكِ أن تتواني عن إخباري بكلّ تفصيل عنك لأني سأبقى سندك كما كنتِ، سأتابع قراءة كتاباتك فتابعي نشر ما تسمّينه خربشاتٍ.. هذه الخربشات من فتاة في الخامسة عشر من عمرها أبلغ بكثير من معظم رواياتِ هذه الأيام!
ثم حضنتُ ورد ومجد معاً وقبّلتُ خدودهما الطريّة وعنقيهما الغضّين مبلّلاً إيّاها بدموع غدرتني:
-
أيّها الشقيّان.. إيّاكما أن تحتلّا غرفتي وتستعمرا سريري وخزانتي وأشيائي بعد مغادرتي، وأعدكما بإحضار دبّ قطبيّ لكلّ منكما، وإن استطعتُ نقل فيل الماموث من صقيع سيبيريا فسأفعل، شرط أن تدرسا وتكونا من المتفوّقين.
كان أبي آخر من ودّعته، ضمّ كتفيّ بكفّيه بقوّة قبل أن يعانقني وهو يقول لي: "كن رجلاً بأخلاقك وعلمك ولا تخذل أباك"، وكلّي ثقة أنّه اصطنع التجلّد أمامي كي لا يضعفني، وأنّه سيخلو بعد رحيلي لساعات وربما لأيام مع طفولتي وصبوتي، وستعصف به المشاعر ما طاب لها.
ثم ركبتُ السيّارة من الخلف فاسحاً المجال للأستاذ المهندس فائق أن يجلس قرب السّائق، فأغلق الباب الأماميّ للسيارة وصعد ليجلس بجانبي وهو يلتفتُ إليّ قائلاً بابتسامته المعهودة:
-
أنا منذ اللحظة أخوك الأكبر ولا داعي لأن تناديني بلقب الأستاذ، ثم إنّ الطريق إلى العاصمة طويل وسنستعين بالدردشة ليصبح الوقت أسرع.