الفصل الأول / حصاةٌ تحتَ لساني ١

 

 

الفصل الأول

 

حصاةٌ تحت لساني


"١"



أخيراً حانتِ اللحظة...

 

اللحظة المصيرية التي أرمي بها الحصاة من فمي، وأقف وجهاً لوجهٍ أمام خوفي، فقد آن أن تغادرني إلى غير رجعة بعد أن صار عمرها بعدد سنين عمري.

 

أعتذر منكما يا والديّ، لأني سأقول "لا" لأوّل مرة في حياتي، وأبصق الحصاة التي دسّها كلاكما تحت لساني منذ طفولتي بقصد أو عن غير قصد، ثمّ رفدتِ المدرسة ما بدأتماه تحت مفهوم العيب والحرام والممنوع، ليتولّى المجتمع ورجالاتُه الباقي فيما بعد، فتصبح الحصاة في فمي مكبحاً أو كاتماً للصوت كلما أردتُ أن أعترض، أو أقول رأياً مغايراً، أو أعبّر عمّا أحبّ وأكره، أو حتى أتنفّس، فلا أنا قدرتُ على التخلّص منها، ولا اعتدتُ عليها كحالة طبيعية، لأكبر وتكبر الحصاة دون حتى أن تلاحظا كيف غدتْ صخرة خانقة تجثم على صدري مع توالي الكبت والصّمت، لترافقني متلازمة الخوف، بدءاً من عقل لساني وشفتيّ كي تمنع انفلات كلمة غير مناسبة للآخرين، وانتهاءً بغلّ يدي عن أن تفعل، وقدمي عن أن تخطو، وعقلي عن أن يتساءل، حيث  الحصاة قيد وعرقلة، في مجتمع أبعد ما يكون عن حقّ التّعبير وبدهيّة الاختلاف.

 

أعتذر.. لأني لأوّل مرّة سأختار ما أحبّ، لا عن تهوّر واندفاع أحمق، فأنا لا زلتُ كما تصفاني "العاقل"، بل لأني لا أرى نفسي إلا كفنّان.

 

لقد نظرتُ لرأسي مراراً، فرأيتُه لوحة كتب عليها الجميع ما يحبّون بحبر قاتم، بقصد حمايتي أو حماية أنفسهم، إلّا أنا، بقيتُ طوال الوقت أقف متفرّجاً، وكأن اللوحة تخصّ سواي، فأمسكتُ بقلمي ورسمتُ حلمي ولوّنتُه زهرةَ نيلوفر تطفو على سطح أهوائهم، ويمامةً تسمو فوق أسوارهم.  

 

سأغادر هذه البلاد يا سارة، لأحقّق حلمي وأنعتق من الخوف المعرقل المسكون بالحبّ الذي أحاطني ما يقارب عشرين عاماً، وأختبر نفسي بعيداً عن الرعاية والإملاء، في بيئة مختلفة يحكمها القانون المدنيّ والناس أمامه سواسية، لا تحاكم الفرد وفق ولادته منتمياً  لطائفة أو عشيرة،  وسأحيا حلمي المنشود في جوّ حرّ وفي بلد ناضل رموزه لإرساء أسسه الاشتراكية والعيش بكرامة واحترام.

 

كانتْ سارة لا تزال تحت تأثير المفاجأة ولم تستوعب ما أقوله لها، فقد هبط الخبر بها فجأة من سماواتِ فرحتها بتميّزي في الشهادة الثانوية وحصولي على معدّل يخوّلني دراسة الطبّ، ورماها على فجاجة قراري بالسفر، وأنا أحاول عبثاً أن أجعلها تتعاطف معي ومع قراري:

 

-       

أنت أكثر من يعلم يا أختاه شغفي بالرسم منذ كنتُ صغيراً، وتعلمين أيضاً كم حلمتُ بأن أصبح فنّاناً مشهوراً، بل حلّق بي الحلم لأرى لوحاتي في معارض العالم، والكلّ يشهد لتفرّدي وتجربتي الخاصّة في الرسم.

 

ثمّ تابعتُ وأنا أحاول أن أجعل صوتي أرقّ وملامحي أليَن:

 

-       

ثمّ يا سارة، إنه مستقبلي ولي حرّية تقرير مصيري فيه، وأنا من سيحياه لا سواي!

 

اقتربتْ سارة وجلستْ قربي وكنتُ أرى أيّ حال هي فيه، المسكينة كانتْ موزّعة بين أمنيتها في أن أحقّق حلمي ولو على حساب بعدي عنها، فهي بأمسّ الحاجة لي كأخ وصديق، وبين خوفها من ردّة فعل والديّ لو علما بقراري.

 

وضعتْ يدها على كتفي وهي تقول:

 

-       

أتعلم ما تفعله بنا جميعاً بقرارك هذا يا أخي؟؟!! ثم أسألك: لماذا لم تخبرنا من  قبل، أو حتى تلمّح لنا لنتهيّأ نفسيّاً على الأقلّ؟! ولماذا أتعبتَ نفسك بالدّراسة وسهرتَ الليالي ما دمتَ ستختار دراسة الفنون؟!

 

وفيما كنتُ أهمّ بالردّ أنّي لم أكن أرغب بفتح جبهات عليّ سلفاً، دخلتْ أمّي فجأة وقد سمعتْ بعض أطراف الحديث، وراحتْ تصرخ بجملٍ غير مترابطة، والحقيقة أنني لم أرها مرّة بمثل هذا الانفعال وفقدان سيطرة على أعصابها، فعقلها لم يستوعب أمرين: دراستي لغير الطبّ وتحديداً للفنون، وسفري بعيداً عنها ولم أبلغ العشرين عاماً بعد.

 

-       

ستتركنا وتسافر يا جواد! ستلحق بأوهامك وتضحّي بمستقبلك! ستكسر قلبي الذي رعاك يوماً بيوم ليراك طبيباً "قدّ الدنيا"، وأفاخر بك أمام الجميع بأنّ تعبي قد أثمر ولم يضِعْ؟!

 

صمتتْ لحظة وأنا غارق في حزني عليها وأمنيتي أن تتفهّم طموحي.. ثمّ تابعتْ:

 

-       

ستهدر كلّ هذا المعدّل العالي لأجل اختصاصّ لا يحتاج نصف هذه الدرجات!

 

ثم غطّتْ وجهها براحتيها وأجهشتْ بالبكاء، ولم أفلح بإقناعها أو تهدئتها، كذلك لم تصغِ لسارة التي كانتْ تقول لها:

 

-       

دعيه يا أمّي، وسيحصد نتائج خياراته إن كانت خيراً أو شرّاً.

 

-       

أتدرين يا سارة ما سيحدث حين يعود من غربة دراسته؟ سينتظر وربما لسنوات قرار تعيينه مدرّساً لمادّة الفنون وربما جاء تعيينه في منطقة نائية..

 

 ثم أنتِ تعلمين كما هو يعلم  أنّ حصّة الفنون في مدارسنا للتسلية، ويدرجونها كفاصل ترفيهيّ بين المواد الأساسية للتّخفيف عن الطلّاب وإراحتهم بقليل من الفوضى…

 

مسحتْ دموعها وقالتْ وهي تنهض مغادرة الغرفة:

 

-       

ستحيا عمرك شحّاذاً، ولن تجد في جيبك حتى ثمن  الخبز.

 

ربما كانتْ أمّي على حقّ، من حيث نطقها بواقع الحال، لكنّها تعلم بحدسها أيضاً أن عين الطموح عمياء، ولو لم تكن كذلك ما تفتّحتْ بصيرة تلك العين لتبدع وترى الأوسع.

 

لا أدري كيف مضتْ تلك الليلة على أفراد أسرتي وخاصّة على أبي، بعد أن أخبرتْه أمّي برغبتي وقراري، أما أنا فكان قلبي في اضطراب لم أعهده من قبل، وغفوتُ وأنا أراني قاب قوسين من حلمي، يتوّجني رضا والديّ عليّ.

 

 

 

 

 

 

 

 

View thanaa_darwish's Full Portfolio