بين البطل والكاتبة
بركنها البعيد المعتاد جلستِ الكاتبة وحيدة قرب النافذة مع أوراقها وفنجان من القهوة، تصغي باسترخاء لذيذ لعازف التشيلّو في اللحن الأقرب لقلبها.. وقلبي!
هو ذات المقهى القديم الذي سبق وأبدعتْ فيه غيري لسنين خلتْ، فكأنه الرحم الواحد لكلّ مواليدها، ما أُجهض منها دون أن يستكمل أشهر الحمل، أو شبّ واشتدّ عوده، أو سُرق بساعة غفلة وتبنّاه سواها، لكنّي واثق أنها المرّة الأولى التي يحاورها فيها أحد أبطالها ككينونة مستقلّة، وربما لم يخطر ببالها قطّ أن ترفع رأسها عن أوراقها لتراني جالساً على الكرسيّ المقابل أتأمّلها بودّ واهتمام!
قلتُ لها وأنا أعاين بمتعة تفاصيل الديكور الشرقيّ للمكان، واللوحاتِ المعلّقة على الجدران المنتقاة بإحساس عالٍ:
-
مقهى جميل ومريح، لا أملك إلّا أن أثني على ذوقك النخبويّ في الاختيار.. وأبدي إعجابي بالفكرة العبقرية لصاحب هذا المقهى، بأن يختصّ روّاده من أهل الإبداع والباحثين عن الخلوة والصمت والسكينة... هل هو فنّان؟
وقبل أن تردّ، أتناول من أمامها ورقة كتبتْ عليها للتوّ: "لم يبق أمامنا إلّا كلّ شيء"، بينما دوّنتْ على الأوراق التالية رؤوس أقلام حدّدتْ بها الشخوص وصفاتها، والمسار الذي ستمضي به رواية "حصرم الألم" كسيرة ذاتية لي بخطوطها العريضة وحتى ملامح الخاتمة، فأبتسم وأعيدها لمكانها، بينما يحمل ترحيبها بي دهشة وعلاماتِ تعجّب:
-
أهلاً جواد.. الحقيقة أنك فاجأتني بقدومك.. كيف عرفتَ أني هنا؟!
-
الأمر بمنتهى البساطة.. أنتِ ناديتني فأتيتُ، ثمّ هل نحن اثنان أم واحد يا صديقتي، ألستُ أقبع في ثنايا دماغك كبطل لروايتك منذ انبثاقها كومضة؟!
-
صدقتَ، للمرّة الأولى في حياتي أحبّ أن أُطلع بطلاً من أبطالي على خطّة الرواية قبل البدء فيها، وأضمن رضاه عن مسارها، وأفكارها، وتطوّراتِ أحداثها، ولعلّي جذبتك برغبتي الخفيّة تلك.
-
هل أفهم من كلامك أن دوري يقتصر على التوقيع بالرضا؟!
-
ليس تماماً، فأنتَ لستَ رهيناً عندي أو قبض إرادتي، كما أني لستُ ديكتاتورةً لأتجاهل حرّية صنيعة يدي، لكنّ مشاعرك وأفكارك نتيجة حتمية لمناخ الرواية وظرفها العام وزمكانها، ولا أظنّك تملك حقّ إفساد نسقها وانسيابها نحو غايتها المرتجاة، رغم ما كوّنته فيك من رفض الأنساق والخروج عن المألوف.
فحذاري، لأني لن أسمح لك أن تمضي على هواك أو أن تهدم ما أبنيه وتخربط الأوراق.
-
لا أعدكِ أن أكون العبد المطيع تكتبيني كما تشائين، وسترين خلال فصول روايتك أني قد أخرج عن السيطرة، ولا أقبل أن أنطق بما تريدين أو أتصرّف وفق قناعاتك.
أعرف أني سأتعبك كثيراً، ففي اللحظة التي ترين أن المنطق يقتضي حدثاً بعينه، ستريني فاجأتك بحدث آخر باتّجاه مغاير، وحين تتوقّعين مني المثالية وفق تربيتي وأخلاقي، ستخجلين مني ومن أخطائي التي أراها طبيعية باعتباري كائن بشريّ خطّاء.
-
أتعلم! لست خائفة على روايتي منك، لسببين.. أوّلهما أني أعرفُ الناس بك وقد أسبغتُ عليك ما أحبّ من صفات جميلة، وثانيهما أن القرار بيدي في أن أحييك أو أنهيك رغم أني من خلقك، وبالحبّ أبدعك، لقد رسمتُ لك السطور لتمشيها بخطى ملتزمة، فإن اختلّتْ حكمتَ على من معكَ بالاضطراب مثلك.
-
لا أجزم بأني سألتزم الحياد، إذا ما كتبتِ ما لا يروقني، وأستغرب حقّاً أن تضعي منذ البداية نهاية حتمية لروايتك، فحتى أنتِ عاجزة عن التكهّن تماماً بها!
-
لطفاً.. امضِ جواد الآن، ولا داعي لاستباق الأحداث، فمن يدري لعلّي أنا أيضاً أخرق الخطّة فجأة برؤية جديدة، وما الغرابة بذلك ما دامتِ الحياة نفسها تفاجئنا دوماً بما لم يكن بالحسبان، رغم أننا نخضع لقوانينها واحتمالاتها وننقاد لها طائعين.
أنهض من أمامها بهدوء تاركاً مصيري بين يديها، ما دامتْ تعلم ما بنفسي ولا أعلم ما بنفسها، فهي من أوجدتني ثم أضفتْ عليّ من الطباع والصفات ما تريد.. وهي من خلقتْ لي واقعاً أتحرّك فيه وأتفاعل.. أشعر وأفكّر وأقرّر، لأنها أنا... أما أنا فلستُ هي!!
ثم أتوارى فيها، وكلانا يعلم أن في غيابي حضور... أما عيناي فكانتْ تقولُ لعينيها: مبدعتي الجميلة.. هذه طينتي بين يديك فانفخي الروح بي لأحيا، وأكون تجلّياً من تجلّياتك التي لا تحصى!
سألتُ نفسي وأنا أمضي عنها لتتفرّغ لي: هل أحبّها؟! فطفتْ على وجهي ابتسامة من وحي السؤال الغريب!!!!
أليستِ الإجابة عن سؤال كهذا مبكّرة جداً؟!
وهل الحبّ في جوهره إلّا عروة وثقى تتكوّن عبر الزمن، وما من ثقة تُبنى بين يوم وليلة، فكيف إذاً أحبّ من أجهل؟!
وليستِ الفكرة في أنها تكبرني بعقود، فهي العتيقة وأنا ابن اللحظة، بل لأن الحبّ تعلّقٌ، وأنا مثلكم أنتظر ذلك التعلّق، وقلبي يحدّثني بومضة خاطفة تلوي عنق "لا" الرفض بأعماقي وتهدّئ ثورة روحي.
لكن.. لحظة لو سمحتم.. أين ذهبتْ أفكاركم حين لفظتُ كلمة حبّ؟! هل تخيّلتم العلاقة بين رجل وامرأة؟ أم وصلكم المعنى سافراً كما أردته، بأني أقصد به: المعنى الوجدانيّ الوجوديّ للحبّ؟