الأمير الصغير

Folder: 
قراءات



  قراءات                قراءات                قراءات






انطوان دو سانت اكزوبري



ما أن تنهي الصفحة الأخيرة من الأمير الصغير , للعارف  انطوان دو سانت أكزوبري  , حتى تسمع في داخلك نحيب .



أميرك الصغير يبكي لدرجة أنه يبكيك .



ولا تدري هل دموعه شوقاً لكوكب غادره وزهرة فارقها طوعاً واختياراً ,



أم توقاً للسعة من حية حكيمة تعجل في إيابك وعودتك لما تركت .



أميره الصغير يذكرك بأميرك ولم تكن نسيته ,



لكنها الحياة بصخبها ..  وطغيان عالم الكبار ..  ألجمه .



فصرت تخجل منه وتداريه ,  كأنه غدى وصمة عار .. وعقدة لطفولة لم تشبع أو تأخذ حقها كاملة .



الأمير الصغير كرمز للفطرة فينا .. الفطرة النقية التلقائية .. التي غطتها كل هذه الحجب



حتى صار من المتعذر علينا تلمسها في أعماقنا , أو الاهتداء إليها .





قبل أن يلتقيه .. كان يبدي ميلاً منذ الصغر للتصوير والرسم



وكان رسمه المفضل ثعباناً ابتلع فيلاً .. تأثراً بكتاب " الغابة العذراء  " ,  وبرسم فيه يصور ثعباناً يلتف حول وحش .



إن أحداً من عالم الكبار لم يكن ليفهم عليه أو يرى في الرسم أكثر من قبعة .. وإذا رسم الباطن .. كان مجرد فيلاً ..لا أكثر .



كان الرسم انعكاس لداخله الصافي الذي يرى حقائق الأشياء بعين البصيرة – العين الثالثة -  التي تضمر مع تقدم العمر .



ومن الرسم يتحول وقد كبر إلى عالم الطيران .. والطيران أيضاً ينطوي على التحليق والنظر من عل إلى الأشياء



إلا أنه شتان بين بصر وبصيرة



فالطائرة هنا رمز للعالم المادي .. وربما - العملي - الذي ينتقل إليه مع تقدم العمر مكرهاً .



وتتعطل طائرته في الصحراء بعيداً عن الأهل .. ومن قلب العزلة  .. يطل الأمير الصغير في رؤيا ساحرة



أمير.. طفل ..  ملحاح .. لا يكف لحظة عن الدهشة والأسئلة .



لكأن الوحدة شرط لازم للالتقاء بهذه الفطرة .. أو بالطفل القابع فينا ينتظر نافذة يطل منها من عالمه الخاص البسيط إلى عالمنا المركب التعددي .





وتبدأ الحكاية :



ينتقل الأمير الصغير من كوكبه .. من عالمه الفردي الداخلي .. عالمه المثالي ..  ذي البراكين الثلاث .. كرمز – كما أرى -  لقوى نفسه



التي تعتبر سبباً لاستمراره ونمائه .. أما الخامد فأرى أنه يرمز لقواه غير المفعلة . . ولأناه التي إن انطلقت وجب أن تلقى دروباً نظيفة لتعبر عن



ذاتها بشكل صحيح لأنها من الذات العليا .



يغادر زهرته التي لم يستطع أن يفهم عليها .. ولا أن يتحمل حيلها الساذجة للمحافظة عليه  .. يغادرها رغم حبه لها .



تلك الزهرة ذات الأشواك الأربعة التي لا أحد يعلم من أين أتت بذرتها الغريبة



زهرة  منظمة .. مزهوة بجمالها .. منسجمة مع أشواكها .. التي تظنها قادرة على قهر أعتى النمور .



وتراني أسأل .. هل هي الخير الذي ما أن تجسد أصبح ملازماً للشر



أم هي الجمال لا يظهر إلا مع القبح



أم أنه الملاك فينا مقترناً بإبليس



أم أنني اهذي وأسرف في الخيال فليست الزهرة كل ذاك



فما هي إلا القرين أو الآخر  .. أكان صاحباً أو حبيباً أو زوجاً .. بمحاسنه ومسائه .



والتي تدور القصة دورتها لتوصل إلينا فكرة تقبله بكل ما فيه ..حين فقط نقدر أن نحبه .



وإذ يقرر الرحيل ..  تبدي كبرياء تمنعها من سكب الدموع حزناً على فراقه ..



فلا هو فهم عليها وكان يؤثر لو تمتع بها ولم يصغ إليها ..



ولا هي قدرت أن تعبر عن حبها فأوقعته بالشك والتردد .



ويرحل مع سرب من الطيور رف فوق كوكبه مسافراً .



ينتقل من كوكبه الذي لصغره  , لا يحمل اسماً بل رقماً ..



وأظنكم معي بأن العدد أبسط من الحرف .. والرقم أبسط من الكلمة .. فهل أراد الكاتب أن يصل فعلاً إلى ذلك .. ؟؟؟



أم أنه كما يقول ليفهم الكبار عليه .. لأنهم لا يفهمون إلا لغة العدد والرقم .



ينتقل من كوكب لآخر ..



وكل كوكب يجسد طبائع الإنسان بصورة مستقلة .. حيث الإنسان أسير الطبع .. كحب السلطة ..  والنزعة نحو التملك .. والغرور وحب الشهرة



والمجد .. والغرق في الهم أو الهروب منه



ثم عبودية أداء الواجب بدون أي شعور تجاه العمل الذي يقوم به ....



وكل منها يحتاج لصفحات لرصده ودراسة أبعاده .. ومع ذلك يبدو عالم صغير كعالمه





ينتقل بحثاً عن خروف فتي يعمر طويلا ولا يحتاج لكثير من العشب .. يناسب كوكبه الصغير .



يخلصه من النباتات الضارة والبوبابات التي تنمو بشكل مخيف ومؤذ ..



هذه البوبابات التي تبتدئ بذوراً في بطن الكوكب ,  فإذا تركت بعد نموها قليلاً وتمايز نبتتها الطالحة عن النباتات الصالحة



شكلت خطراً قد يودي بالكوكب إلى التهلكة .. ولا يخفى الإشارة هنا إلى دور التربية في تهذيب ما نحمله من خصال سيئة في مورثاتنا



أي دور المكتسب في صقل الموروث وتثقيفه .



وأتساءل من جديد .. هل الخروف عند الكاتب إذاً هو التربية التي تهذبنا لكنها تقضي أيضاً وللأسف .. على طهارتنا وعذريتنا الأولى ؟؟



هل هو العلم والمعرفة ؟ .. أم هو المحك والتجربة ؟.



ذلك أن الخروف يأكل الزهور أيضاً بأشواكها .. كما يأكل البوبابات .



وها أنا أخمن .. ولعلي أحتاج إلى أن أتعمق أكثر لأعرف رموز القصة كاملة .. إنما هي قراءة للقصة عقب تأثر بالغ بها .



يصل الأمير الصغير  إلى كوكب الأرض وتبدأ الحكاية ..



فالأرض .. في نظر الأمير مجرد تكرار وتعداد للكواكب التي مر عليها .. أي كوكب التجمع ..



فمن كل كوكب مر عليه ,  يجد هنا أعداداً  لا تحصى .. تحب السلطة .. أو المجد .. أو العبودية .. أو العلم. أو التملك ..



أول كائن يلتقيه كان الحية في صحراء خالية .. ومنها يأخذ الحكمة الأولى .



ثم وهو ينتقل من الصحراء للأماكن المأهولة يشاهد وروداً تشابه وردته التي غادرها فيمتلئ حزناً لظنه أن لا مثيل لها



إلا أن ما يعزيه تلك المشاعر التي يكنها لوردته دون ورود العالم .. وهذا ما يسميه له الثعلب – بالتدجين –



لقد كان الثعلب معلمه الثاني على هذا الكوكب الغريب .. إذ يدعوه ليكون صديقه أي ليدجنه .. ويشرح له كيف لا يدرك البشر أهمية التدجين



فيعيشون أغراباً رغم أنهم متجاورون .. لا يعرفون الصداقة لأن الصداقة تحتاج لوقت .. لطقوس .. بينما هم في سرعة تقصيهم عن متعة محبة



أي شيء.



ويا لروعة الطقوس .. يتحدث عنها الثعلب بحكمة وشاعرية .. تجعلنا نعيد النظر في تمردنا عليها والتنكر لها .



حكمة عجيبة لا تأتيه من بشر بل من ثعلب حزين .. ربطته به صداقة ..



هذه الصداقة التي تجعله يتحمل ألم الفراق ..  ويودعه هامساً له بما نسيه الناس :



- الرؤية الحقيقية هي رؤيا القلب .



- الوقت الذي تبذله لتدجين شيء , يجعل منه شيئاً مهماً وخطيراً .



- أنت مسؤول عما دجنته .. فالتدجين إذاً مسؤولية ..



وكانت المسؤولية تحمل الحزن .. وأسى الفراق .



عالم البشر .. لم ير به إلا كبارا .. لا يدركون عبث كل ما يصنعون .. وحدهم الأطفال بحبهم لدمية وحزنهم لكسرها يعيشون حقيقة المحبة .



الصحراء وصمتها .. وإشعاع رملها موحياً بوجود بئر في مكان ما منها .. يجمع بينهما .. وإذ يبلغ بهما العطش مداه .. يهتديان لبئر جاهز بدلوه



وحبله وبكرته .. ويكون لطعم مائه  مذاقاً عذباً لم يعرفوه قبلاً .. لارتباطه بموسيقا البكرة والحبل وتعب سحبه



ههنا تبدو إشارة إلى أننا نحن من يعطي الأشياء قيمتها وجماليتها .. فتبدو مميزة ولو شابهت غيرها لأننا وهبناها من روحنا وإحساسنا .



وهكذا ندرك السعادة في تأملنا لأبسط الأشياء حين تقترن بداخلنا بمعنى ما لطيف .. أي بعلاقة ضمنية طيبة مع هذه الأشياء .



أخيراً يغادر الأمير الصغير كوكب الأرض بطريقة تخالف قدومه ..



يعقد اتفاقاً مع الحية الحكيمة أن تلسعه لسعة قاضية فينتقل .. إلى كوكبه ويلحق جسده الشفاف به في اليوم الثاني



لم يمت الأمير وإن بدى لكم كذلك .. بل انتقل وقد اختبر الحياة الحقيقية ..



عاد لزهرته وقد أدرك كيف يتآلف معها بأشواكها الأربع ..



عاد .. بعد أن عرف أن المحبة الحقيقية تكون في تقبل فكرة الفراق .. وتقبل الحزن والألم الذي يصحبه .



عاد وقد أقام صحبة مع إنسان من كوكب الأرض .. فلا تخلو الأرض من الناس رغم كثرة البشر .



أجل ..عاد لخصوصية عالمه .. لكوكبه الصغير .. وهو يحمل معه التجربة .. من العالم الخارجي .. عالم الأرض .. عالم المادة والروح .. المادية



والمثالية .



الأمير الصغير استطاع أن يعلمنا ما عجزت عنه أكبر العقول



أراد أن يقول أشياء كثيرة .. فاقرءوه .. ثم أعيدوا قراءته لمرات .. وستجدون أن هناك أفكاراً لم تعطوها حقها من الاهتمام ..



كما حدث معي



لأنني سأعاود القراءة .. وربما كتبت يوماً رؤية أخرى للأمير الصغير .





*ثناء درويش*












View thana-darwish's Full Portfolio