الابن الضال

Folder: 
يُحكى أنّ

 


1
و كان المساء ......
ولم يعد الابن الضال لحضن الآب .
تململت الملائكة و دب الذعر في ريشات جوانحهم البيضاء .. و تمسحوا بعباءة الكبير تزلفا و قربى. لكنه اكتفى بابتسامة و هو يمسح على رؤوسهم الفارغة و يقبل عيونهم الزرق: "لا خوف عليه من الذئب .. بل من أخوة اختار أن يضل عن هداهم".

و كان المساء
والابن الضال يسلك كخيط من خرم إبرة
و الدرب بضيق ويضيق و لا إشارة
سد باب العودة حيث العابدين الشاكرين الصابرين
و الجنان السبع أغلقت دونه أبوابها
لكنها كانت هناك .....
جنة لا مقطوعة ولا ممنوعة تفتح ذراعيها له
آه كم تشبه أباه .... لولا أنها بملامح أنثى.

 

2

و كان المساء و بحث الابن الضال عن حجر يتوسده و ينام، فوجد الأحجار كلها استنفذت في بناء بيوت الآب. فمدت ذراعها له .. ونامت كما الأسماك

 

3

و كان المساء دفن الابن الضال وجهه بشعرها المنثور، حتى ظنت لن يغادره أبدا، لسواه م تفاصيل تدعوه رغبا و حنينا لنعمة النسيان. خضل خصلاته بدمعه و أحست بالنداوة وهو يستنشق عميقا ريح غابات الصنوبر، قبل حرقها في جنة خلده، ممزوجة بالزعتر البري و الطيون . شعرها بقي رسالته الخالدة، آن تساقط الرسائل كورق أصفر في محرقة الوهم

 

4

 

و كان المساء سأل الابن الضال قصيدته الموؤودة بأي ذنب قتلت ؟؟!! فنفضت التراب عن أهداب عينيها ، و بصقت ما علق منه بأسنانها، و تعلقت بأذيال خيبته مجهشة بالبكاء : كانوا كثرة و كنت وحدي شمعة أمام جحافل الظلام و كلما تأجج نوري ، نفخوا عليه بباطلهم اللابس ثوب التقى. ثم دفنوني حية، أشهق الهواء جاهدة فيمعنون في الوأد. حتى أتيت أنت يا مبدعي. ألست أنت من بعثني يا حبيبي من عدم، أما كنت تعلم أن القصيدة أنثى محرمة و عورة تستوجب الستر.. فلم أوحيت لي أني الجميلة .. عنقاء مغرب .. كلما ظنوا أنها ماتت، قامت كشاهق حلم من رماد الأمس. و كم موتة تنتظرني و إياك في عصور الانحطاط ، يا بقايا الآدمية الأولى .. أيها الابن الضال

 

5

 و كان المساء نظر الابن الضال إلى السماء بغضب، ثم أمسك مقصا و راح يقطع كل الخيوط التي تصله بها. بعد اليوم لا علامات للنجوم يهتدي به، و لا أبواب تدق بالدعاء، و لا سماء تمنح أو تمنع بلا سبب واضح. طلاسمها ما عادت تعنيه، و لن يضيع ما تبقى من عمره بمجاهيلها، قصص الطفولة ربما قص بعضها على أطفاله القادمين من باب التسلية، و على الأغلب سيستعيض عنها بفتوحات علمية تمنح وجودهم معنى و احترام. "ماذا بشأن أحلامك القديمة و الرؤى و المشاهدات يا عزيزي.. ماذا عن المدارات و سنين التعبد والاعتكاف؟! " تسأله غامزة كأنها لا تعرف يضمها بشغف متبتلا : أشهد أني مذ رأيتك أعماني نورك عن سواك .. فقوديني كأعمى إلى يقيني

 

6

 و جاء المساء ما أن همس الابن الضال كلمة أحبك في أذن ضلعه القاصر ، حتى أنجبت له صبيانا و بنات.. ملؤوا الأرض رقصا و غناء. كان الضلع كصحن النون و كان هو نقطتها ، يتقلبان من حال لحال ، يمارسان العشق كأنهما يتذوقان طعم التفاح للمرة الأولى. تحنو عليه و تحتويه ، و تلوذ به عن غير خوف و حاجة. لم يطلب من أبنائه تقدمة ليرضى عنهم .. و لا قبل من أحدهم و رفض عطية الآخر، ولا اشتعلت الغيرة في صدر فقتل. التاريخ لن يعيد نفسه يا أبتي ضحك الله في سماه، فكل شيء يجري لمستقر له، فيما نوابه و حرسه الملكي يتوعدون الابن الضال بالهلاك.

 

7

 

 و كان المساء نادى الابن الضال أبناءه إليه اللطيف و الشهم و الجميلة و الصادق و الخطاء و التواب و الرقيقة... و أسماء أخرى من حسنها يغار الجمال. أجلسهم في محضره و تحدث إليهم كما يتحدث الصديق للصديق : تعلمون يا أبنائي أن عهدي و عهد آبائي كان وعد و وعيد .. ترغيب و ترهيب .. أما عهدكم فسفر جديد لحضرة الإنسان. لأنه مكتوب في الصحف الأولى الدارسة، أن الإنسان إن ضل أحب بغير سيادة غير سيادة القلب.. و إن عشق صارت الأكوان خاتما في إصبعه. كونوا أنتم بلا خوف .. تكن الأرض إرثكم الموعود. أحرارا جئتم للدنيا .. أحرارا تخرجون منها.. و الموت قابلة رؤوم. عيشوا اللحظة بصدق و صفاء النية و تباهوا بأنكم كنتم للضلال أهل. و هكذا أطلق الابن الضال خرافه في البرية و الذئب لهم راع

 

8

و كان المساء
حاول الابن الضال أن يستذكر تفاصيل أوهامه الماضية، فغامت الذكرى عليه و تداخلت الأحداث ببعضها، و كلما جرب أن يسلسلها أيها أقدم و أيها أحدث، نعت ذاكرته بالنساءة ، و هو يدري تماما أن النسيان رب اللحظة.
حتى الوجوه التي عبرها كشهاب طارق و خلفها وراءه والتي طالما حفرت في صدره ندوبا، بدت باهتة كأنها لا تعنيه.
هل حقا هو قليل الوفاء لماضيه، أم هو أشد إخلاصا للحظته.
و هاهو الصبح إذ يتفس عن جديده، و هاهي شمسه ترتقيه و يتوسدها تغمره بدفئها، و تكون دثارا و وطئا، فماله و سؤال عقيم، أن كيف انتهى به المآل مطرودا من جنة الرضا.
الزمن لعبة ماكرة أدرك ذلك مرة في صحوة السكرة فضحك ملء فيه و ضحكت لضحكه تلك التي ما طلعت لولاه.
لا تلتفت وراءك.. قالها له يوما قلبه ، من يومها وهو ينظر لموقع خطاه، قدم تخطو ولو أخطأت، و أخرى تثبت ثم تمحو.
لا تلتفت وراءك فالخلف عرقلة، ولا تستعجل الآتي لأنه سيأتي لا محالة، لا يشغلك التاريخ ولا استطلاع الغيب .. فأنت الآن الآن .. هنا هنا .. تلك كل المسألة

 

9

و كان المساء لم يقل فيه الابن الضال لأناه سأنجب منك ابنا على شاكلتي يضل مثلي لسببين.. أولهما أن ضلاله كان آخر التقديس ولا ضلال بعده يحتذى. و ثانيهما .. أنه يرى الإبداع في الاختلاف ولولا اختلف عن الآب ما حرثت الأرض و أينعت و الصحراء صارت جنان

 

10

 

 و كان الصباح استيقظ الابن الضال من حلمه الثقيل، لم يفتح كتاب ابن سيرين لتفسير الأحلام ، و لا سنح له الوقت ليقص على زوجه أضغاث أحلامه اليومية . كلاهما كانا مرهقين ، ليس من ليلة حمراء لم يقضياها منذ دهر .. بل من هم تسديد الفواتير، و أجر البيت المتراكم ، و أربعة أطفال لا يعرفون بعد شيئا عن لعنة القدر. تذكر كلمة من حلمه .. الوعيد .. فزمزم عينيه باتجاه السماء غاضبا .. ثم طأطأه من جديد و مضى في جحيمه

 

 

 

View thana-darwish's Full Portfolio