حصيلة العمـر : بقلم: حسن إبراهيم حسن الأفندي

بقلم: حسن إبراهيم حسن الأفندي







  

  





  











































كثيراً ما يمر الفرد بنوع من السأم, زاد أو نقص, ولكنه بكل المعايير سأم وملل من الحياة أو مما حوله أو من طبيعة عمله أو أوضاعه المحيطة به, ومر كثير من الشعراء بذلك السأم, إما إحساساً بعدم القدرة على تحقيق الغايات التي يعملون ويؤمنون بها أو لطول العمر وكثرة المرض ربما وكثرة التجارب والأحداث, ومن أشهر من تبكى طول العمر لبيد بن ربيعة, وهناك غيره ممن سنعرض لهم, ولكن السأم في الكثير الغالب ارتبط بعمر الثمانين! وعجيب أن يرى سيدنا نوح الحيـاة كوخاً لـه بابان متقاربـان, دخل من أحدهما وخرج من الآخر, على الرغم من حياته تسعمائة وخمسين عاماً بعد أن أوتي النبوة.



      ولقد سئمت من الحياة وطولها      وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟



وقول آخر:



       سئمت تكاليف الحياة ومن يعش      ثمانين عاماً لا أبا لك يسأم



ومر الأمير عبد الله بن الطاهر بالشاعر عوف بن محلم الشيباني, سلم عليه مرات فلم يسمع, وكان يستفسر عما قال الأمير, حتى سئم الأمير وأخيراً علم أو أدرك عوف الموقف, فأنشده قائلاً:



      يا ابن الذي دان له المشرقان       طرا وقـد دان لـه  المغربان



      إن الثمانيـــن وبلغتـها         قد أحوجت سمعي إلى ترجمان



      وأبدلتني بشـطاط  انحنـا         وكنت كالصعدة تحت السـنان



      فقـربـاني بأبـي أنتـما          إلى وطني قـبل اصفرار البنان



      وقبـل منعـاي إلى  نسوة         ديـارها حـران والرقتــان



وأشار شوقي إلى سأم لبيد وهو يخاطب أبا الهول:



     أبا الهول طال عليك العُصر        وبلغت في الأرض أقصى العمر



فقال بيته المعروف:



      وشكوى لبيد لطول الحياة          ولو لم تطل لتشكى القِصر



ولبيد شاعر مخضرم عاش في العصرين الجاهلي والإسلامي, وأسلم وحسن إسلامه, وهو شاعر إحدى المعلقات الشهيرة, من بحر الكامل ومطلعها:



       عفت الديار  محلها فمقامها        بمنى تأبد غولــها فرجامها



       فمدافع الريان عري رسمها       خلقا كما ضمن الوحي سلامها



وله شعر حسن كثير, فهو القائل:



        ألا كل شيء ما خلا الله باطل      وكل نعيـم لا محالة زائل



وقيل إن الرسول (ص) استثنى نعيم الجنة. ولبيد أيضاً من رثى أخاه اربد بأجمل الشعر وأعظمه وأرفعه, في عينية تسترعى الانتباه وتأخذ بالألباب:



     بلينا وما تبلى النجوم الطوالـع       وتبقى الجبال بعدنا والمصانع



    وما المال والأهلون  إلا  ودائع       ولابد يوماً أن ترد  الودائــع



    وما المرء إلا كالشهاب وضوئه       يحور رماداً بعد إذ  هو ساطـع



    لعمرك ما يدرى المسافر هل له       نجاح ولا يدرى متى هو راجع



وفي نفس سياق هذا المعنى للبيت الأخير يقول شوقي:



     ويا وطني لقيتك بعد  يأس         كأني قـد لقيت بك الشبابا



     وكل مسافر سيؤوب يوماً          إذا رزق السلامة والإيابا



وأذكر أني وجدت العالم المصري المعروف البروفيسور فاروق الباز والذي ارتبط اسمه بناسا, على شاشة تلفزيون الشارقة, فسألته كيف وصل لبيد في العصر الجاهلي إلى ما وصل إليه العلم الحديث في بيته الذي تحدث فيه عن هلاك الشهب وتحولها إلى رماد؟ وللعلم ذلك يغذي الأرض بالحديد الذي ليس أصيلاً من مكوناتها. تلك لا شك المعرفة بالفطرة والإلهام الشعري الذي فيه شيء من الإيحاء واستقراء المستقبل البعيد واكتشاف المجهول والغوص فيه, وذلك ما يميز شاعراً مبدعاً عن شاعر يقول أي كلام والسلام, وأنا أكثر المؤمنين بأن العرب جاؤوا بما لم تستطعه الأمم منذ القدم وخلال العصر الجاهلي, في حين أن غيرهم من الأمم وخاصة في الغرب, كانوا يغطون في نوم عميق وجهل فاضح وعبودية الإنسان الحقة. كان للعرب معرفة وعلم وحكمة وفلسفة وحس فني غير محدود وذوق أدبي بعيد, أهلهم لاستقبال إعجاز القرآن البلاغي العظيم, وتفهم رسالة السماء, ويكفي أن زهير بن أبي سلمى مثلاً من أكبر شعراء العالم كما قال الدكتور عبد الله الطيب ـ عافاه الله وشفاه ورد غربته ـ وإن كنت أعتقد أنه أعظم من صهرت التجربة الإنسانية شاعراً, فجاءنا بالحكم وجاءنا بالدعوة إلى السلام في وقت مبكر جداً:



   وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ      وما هو عنها بالحديث المرجم



    متى تبعثوها تبعثوها ذميــمة      فتضرى إذا ضريتموها فتضرم



وأتحدى شاعراً غربياً وصل إلى ما وصل إليه زهير بن أبي سلمى:



   لسان الفتى نصف ونصف فؤاده     فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدم



وأيضاً:



    وأعلم علم اليوم والأمس قبله      ولكنني عن علم ما في غد عمى



تصور شاعراً في العصر الجاهلي, يذهب إلى ما ذهب إليه الرجل! وبعد ذلك كله أعجب من أدعياء ثقافة هذا العصر الذين يعيشون تبعية نفسية وأدبية غريبة للغرب, وكأن عالم الشعر والأدب ما ظهر منه وفيه سوى تي. إس. إليوت وموليير وشكسبير وجوتيه وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان! فشلوا في كتابة الشعر الخالص ومعرفة أسسه وقواعده, فراحوا يدعون إلى ما يعرف بالتجديد وبحرية الشعر, إما أن يكون الشعر شعراً أو لا يكون, فليس هناك من شعر كلاسيكي وشعر حر وشعر تفعيلة وشعر منثور, ورحم الله الشاعر هاشم الرفاعي:



        أيها الناطقون بالشعـر حراً      ولكم بــه دعـوة طنانه



        اسمعونا إن استطعتم قريضاً      لا حديث جالس في حانه



        ليس شعراً وإنـما هو شيء      فوقه الشعر رتبة ومكانـه



        إنما الشعر ما تدفـق عذبـاً      في بنــاء  فأحكموا بنيانه



        ليست الفكرة الجديـدة  تأبى     عرضها في جزالة ورصانه



       لا تحيطوا تراثـنـا بلهـيبٍ      في غد تكـره العيون دخانه



وقديماً قال الحطيئة أبياته الشهيرة:



      إذا الشعر لم يهززك عند سماعه     فليس خليقاً أن يقال له شعر



وهو نفس الشاعر الذي خاطب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:



     ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ       زغب الحواصل لا ماء ولا شجر



    ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة       فاغفر عليــك سلام الله  يا عمر



فعفا عنه, وقد هجا والدته وهجا نفسه واشتهر بالهجاء كثيراً.



و رحم الله لبيد:



       ذهب الذين يعاش في أكنافهم       وبقيت في خلف كجلد الأجرب



إلا ما ندر من الفحول.



وعلمت من تجوالي أن بالسودان شعراء عظماء, لم يجدوا مجالاً للانتشار والمعرفة في مساحات شاسعة بالوطن العربي والعالم أجمع, ولعل ذلك يرجع إلى ضعف الإعلام عنهم والتركيز عليهم وعلى ما قدموه من شعر وإنتاج غزير, ومن هؤلاء شاعرنا الكبير أحمد محمد صالح, شغل منصب عضو مجلس السيادة في حقبة من تاريخ السودان, ربطته بالشاعر المصري علي الجارم صلات معروفة, فقد صدف أن زار الأخير السودان وكان وزيراً للمعارف المصرية, أقيمت له حفلة كبيرة ولم يدع إليها الشاعر السوداني, وعلى ما يظهر أثر ذلك عليه كثيراً, فقد كان رقماً ما كان يجب تجاهله, ذهب في نفس الليلة إلى جريدة النيل حيث كان من المتوقع أن تنشر قصيدة الجارم التي ألقاها يومها في الحفل للقراء لتكون بين أيدي العامة صباح اليوم التالي, قرأها الشاعر السوداني وكتب على التو قصيدته فينوس يجاري على ذات البحر والقافية وسلمها للجريدة ونشرت بجانب قصيدة الجارم, وكانت أجود نسيجاً وأفضل رصانة من قصيدة الجارم, والقصيدة معروفة للأدباء السودانيين ومحفوظة محفورة في وجدانهم. وتـقول أبيات منها:



ملك القريض ووارث المـ

غرد كما شاء البيان

أيام كان لواؤنا الجبار

واذكر لنا عهد الجدود

في القادسية يوم سار

وتغن من فنن إلى

يا وارث الأدب التليد

علم شباب الواديين

علمهم أن الخنو

علمهم أن الحياة

علمهم أن التمسح

علـمهــم أن العروبــة

   ـجد المؤثل من معد

محدثاً عن خير عهد

من سهل لوهد

وصف لنا أيام أحد

النصر من بند لبند

فنن ومن غور لنجد

وباني الأدب الأجد

خلائق الرجل الأشد

ع مذلة والجبن يردى

تسير في جزر ومد

بالفرنجة غير مجدى

ركـن إعـــزاز ومجد





آه, لقد نسيت نفسي مع هذه الرائعة ووجدتني أنساق وراء كتابة كل ما أحفظ منها, فهي أثيرة إلى نفسي, قريبة منها, والشاعر أحمد محمد صالح, حفظنا له من قبل رائعته التي خاطب بها دمشق أيام العدوان الفرنسي عليها واحتلال سوريا الشقيقة, فغنى بها وسار من لا يغني مغرداً:



      صبراً دمشق  فكل  طرف  باكي        يوم استبيح مع الظلام حماك



      جرح العروبة  فيك  جرح  سائل        بكـت العروبـة كلها لبكاك



      جزعت عمان وروعـت بغـداد        واهتزت ربى صنعاء يوم أساك



      وقرأت في الخرطوم آيات الأسى        وسمعت بالحرمين أنـة باكي



      صبراً فرنسا فالحوادث جمــة         والدهر دوار مع الأفــلاك



      وغدا تدور الدائرات فشمـري           سأكون أول شامت ينعــاك



وعبر عن تعاطف السودانيين مع الرئيس محمد نجيب عندما أقصي في مصر الشقيقة عن الحكم, خاصة وأن نجيب تربطه بالسودانيين وشائج قربى وعواطف متقاربة مشتركة, وأخذنا ننشد شعره:



       ما كنت غـداراً ولا خوانا        كلا ولم تك يا نجيب جبانا



       يا صاحب القلب الكبير تحية      من أمـة  أوليتها الإحسانا



      عرفتك منذ صباك حراً وافياً       فوفت إليـك وآمنت إيمانا



      الثورة البيضاء كنت صمامها      من كل شائبة وكنت ضمانا



وأعتقد أن معظم السودانيين كانوا يؤمنون بأن إعطاءهم حق تقرير المصير, كان بدعم ومساندة من الثورة المصرية ومحمد نجيب بصورة خاصة, وامتدت جفوة مشاعر بين كثير من السودانيين والثورة المصرية حتى كان الاعتداء الثلاثي الغاشم على مصر الشقيقة وتأميم قناة السويس, وشعبنا السوداني عاطفي مثله في ذلك مثل الكثيرين من شعوبنا العربية, فنسي كل شيء وتسامح وحارب إلى جانب الإخوة في مصر, وظلت مشاعري بعيدة عن التعاطف مع جمال العرب حتى كانت النكسة وحتى تحمل القائد العظيم المسؤولية كاملة في شجاعة الرجال الكبار العظماء الشجعان, وبكيت يومها كثيراً ووقفت تحت ظل الشمس المحرقة حتى أعلن هرم العروبة عودته إلى الحكم, فقد كنت أرى أن الحرب لها هدفان, أولهما سياسي والآخر عسكري, فإذا خسرنا الجانب العسكري, كان علينا ألا نمـرر المخططات السياسية التى تستهدف قيادتنا, جمال كان أمة وكان قيادة أمة فعلية.



ولختام حديثي عن أحمد محمد صالح الشاعر العملاق, وله من الشعر ما لا يحصر, كان علي أن أتعرض إلى قصيدته التي أنشأها زائراً للمدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام:



     لا تسلني علام فيــم النحيب     أنا من أثقـلت  خطاه الذنوب



     أنا ضيعت في الغواية عمري      وكأن لم يكــن علي رقيب



     وعظ الشيب أخوتي ولداتـي      فأنابــوا ولم يعظن المشيب



     وضللت الطريق ربي فمالـي      خفيت علـي دونهن الدروب



     يا أبا القاسم  المرجى سـلام       أنا أشكو وأنت  أنت الطبيب



     الديانات عند  دينك تخبــو        والحضارات تختفي وتذوب



     جئتنا بالجديد في عالم الروح        فخفت إلـى لقـاك القلـوب



     في كتاب حوى الفضائل طرا       فيه  سر الحيــاة والتهذيب



     فـيه وعـد وفـيه ثم وعيد        كل  شيء  مسطر  مكتـوب



     ليتهم  قدروا تعاليمك السمحة      واستوعبت هــداك الشعـوب



     لو رعوها ما قام في الأرض      جبار ولا عمـت البلاد الحروب



     ولعاش السلام في الأرض حراً    واستوى في الحقوق شاة وذيب



وما أحوجنا في هذا الوقت بالذات إلى مثل هذه الأشعار وهذه المعاني, حيث يعلم الصغير والكبير ما آل إليه الحال وما تشتهي النفوس والصدور بعودة مرتقبة لمعتصم الإسلام والعرب.



   وحصيلة العمر عشرات المئات من القصائد وعشرات الآلاف من الأبيات, ونعم الحصيلة هي إذا تفاخر الناس بالمال والحلال والقصور والعمارات, ولكن أكثر ما يثيرني هو الذكاء العربي الواضح والمتميز, تذوق المعاني وفهم الشعر كما ينبغي, وقد تعرضت في وقت ما إلى موقف هارون الرشيد من خاصته من بني هاشم وقصيدة أبي ذؤيب الهذلي وحزنه لعدم معرفتهم بها والذي فاق حزنه على موت ابنه, ولا تخفي على فطنة القارئ كيف فهم الإنشاد:



     ليت هندا أنجزتنا ما تعد        وشفت أنفسنا  مما نجد



     واستبدت مرة واحـدة         إنما العاجز من لا يستبد



فكانت نكبة البرامكة وكانت صورة جديدة ومسيرة جديدة لحكم الدولة العظمى, بعد أن ضاق الناس ذرعاً بحكم البرامكة.



وفي قصيدة اليتيمة ما يوحي أيضاً بذلك الذكاء الوقاد الذي نعتز به ونطرب له, قيل إن ملكة في اليمن أو أميرة دعت الشعراء إلى التباري في مدحها ووصفها وذكر جمالها, على أن تتزوج صاحب أجود قصيدة, وبينما شاعر اليتيمة في طريقه إلى اليمن, قابله آخر ولم تكن قصيدته تصل مستوى اليتيمة لا معنىً ولا حبكةً ولا لفظاً, فقتل صاحب اليتيمة وأخذ القصيدة ووصل اليمن, وبدأ ينشد:



      هل بالطلول لسائـــل رد      أم هـل لها بتكلـم عهد



      درس الجديد جديـد معهدها      فكأنمـا هي رَيطة جَرد



     من طول ما تبكي الغيوم على     عرصاتها ويقهقه الرعد



     فوقفــت أسألها وليس  بها      إلا المها ونقانـق ربـد



ومضى في القصيدة ومعانيها المشهورة:



     فالوجه مثل الصبح مبيض      والشعر مثل الليل  مسود



     ضدان لما استجمعا حسنا       والضد يظهر حسنه الضد



وهو ما يعرف في الإنجليزية بالـ (CONTRAST), يعطي صورة رائعة, وأخذت القصيدة تصف كل جسد الأميرة من أعلى رأسها إلـى أخمص قدميها كما يقولون, ولم تهمل جزءاً منه, والمفاجأة كانت عندما أُنشد البيت:



     أن تُتهمي فتهامة وطني     أو تنجدي إن الهـوى نجد



حيث صرخت الأميرة (وا بعلاه, وا بعلاه, لقد قتل الرجل زوجي المرتقب) وتجمع الحرس والحاشية وأخذوا يستفهمون ويتساءلون: ما الخبر؟ فشرحت لهم أن شاعرها من تهامة لقوله ذلك, بينما منشدها من نجد حسب ما يوحي لسانه بذلك!  وأمسك بالرجل المنشد وضيق عليه الخناق, فاعترف بما حدث, وللأسف لم يكن يعرف اسم شاعر القصيدة الحقيقي قبل قتله, ولذا لم يعرف لها مؤلف مؤكد, فسميت باليتيمة, وتضم أجمل أبيات من الشعر الخالص مثل:



     لهفي على دعد وما خلقت    إلا لفـرط تلهفي دعـد



والمرأة الدعد الناعمة البضة التي ترتدي الملابس الناعمة.



ومثل الأبيات:



     فالجد  كندة والبنـون هم        فزكا البنون وأنجب الجد



     فلئن قفـوت جميل فعلهم        بذميم فعلي إنني وغــد



     أحمل إذا حاولت في طلب       فالجِد يغني عنـك لا الجَد



     وإذا صبرت لجَهد نازلـة       فكأنــه ما  مسك الجهد



     ليكـن لديـك لسائل فرج       إن  لم  يكن فليحسن الرد



وتستمر الحصيلة, فتقفز إلى ذهني آلاف الأبيات التي ربما لا تتوافر مصادرها وتكون في متناول يد الكل, ولذا فإني أوثر أن أترك معظم هذا الفصل لمختارات من الحصيلة, فربما أفادت, وكل إناء بما فيه ينضح, وكما يقول الشاعر عبد الحميد الطيب العباسي, وهو من شعراء السودان الفحول:



      لـو كنت ذا مـال لكنت بــه       للصالحات وفعل الخير سباقا



      وما رضيت لكم بالغيث منهمراً       منى ولا النـيل دفاعاً ودفاقا



ولكننا لا نعطي إلا ما نملك, ولنا عزاء في قول عروة بن الورد, وهو أحد الصعاليك أو المطاريد, ولعله أول من استخدم كلمة شركة أو شراكة في العربية, فأضاف جديداً إلى قاموسها:



        إني امرؤ عافي إنــائي شركة        وأنت امرؤ عافي إنائك واحد



        أتهزأ مني أن سمنت وأن  ترى         بجسمي مس الحق والحق جاهد



        أفرق  جسمي في جسوم  كثيرة        وأحسو قراح الماء والماء بارد



وكنت قد أشرت إلى هذه الأبيات في قصيدتي (حراسة الرمة), ومنها:



        أحب المال لا شرها ولكن      أريد بـــه  مساعدة  لغيري



        فإن أمدد ذراعي يوم ضيق      لمحتـاج يسر رضاه  حجري



        وإن تعجز يميني عن نوال      أقام الحزن في قلبي وصدري



        كأني عروة بن الورد  فيها      وإن ظن الجميع  فساد  أمري



        وقولي كلهُ  شعر وغيري       من الشعراء  مفضوح  بذكري



      أنا من نسل من ملكوا القوافي     وجدي جندح من  صلب حجر



ورغم ما أملك من ثروة شعرية ضخمة ومختارات غير محدودة, فما ترى أقدم وما ترى أختار للقارئ, ألامية العرب للشنفري:



       أقيمـوا بني أمي صدور مطيـكم        فإني إلى قــوم  سواكم  لأميل



       وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى      وفيها لمن  خاف القلى  متعزل



       هم الأهـل لا مستودع  السر ذائـع      لديهم ولا  الجاني بما جر يخذل



      وإن مدت الأيـدي إلى الزاد لم  أكن      بأعجلهم إذ أن أجشع القوم أعجل



أم لامية أمية بن الصلت يخاطب ولده العاق به:



       غذوتك مولـوداً وعلتـك يافعاً         تُعل  بما أجني إليك وتُنهل



       إذا ليــلة نابتك بالشكو لم أبت         لشكواك  إلا ساهـراً أتململ



       كأني أنا المطروق دونكم  بالذي         فجعت به  دوني فعيني تهمل



       تخاف الردى نفسي عليك وإنها         لتعلم أن الموت  حق  مؤجل



       فلما بلغت السن والغايـة  التي         إليها مدى ما كنت  فيك أؤمل



       جعلت جزائـي غلظة وفظاظة         كأنك أنت المنعــم المتفضل



       فليـتـك إذ لم ترع  حق أبوتي         فعلت كما الجار المجاور يفعل



       فأوليتني حق الجوار ولم تكـن         علي بمال دون مالـك تبـخل



وما أكثر اللاميات, فلو تابعناها لاحتجنا إلى وقت طويل, ولكنني أنبه إلى لامية الشاعر إبراهيم طوقان, أميل إليها بحكم المهنة, فهي مرحة ظريفة تحكي معاناة المعلم:



     شوقي يقول وما درى بمصابنا      قــم للمعلم وفــه التبجيل



     أقعد فديتك هل يكون مبجــلاً     من كان للنشء الصغار خليلا



     لو أدرك التعليم شوقي ساعـة      لقضى الحياة  شقاوة وخمولا



     ويكاد  يقتلني الأمـير بقولـه       كاد المعلـم أن يكون رسولا



     ولو أن في التعليم نفعاً يرتجى       وأبيك لم أك بالعيون بخيـلا



     لكن أصحح غلطة لغويـــة        مثلاً واتخذ الكتـاب دليـلا



     وأكاد أبعث سيبويه من  البلى        وذويه من أهل القرون الأولى



     فأرى ابن جهل بعد  ذلك  كله        رفع المضاف إليه والمفعولا



     يا من يريــد الانتحار وجدته       إن المعلم لا يعيش طويــلا



     مئة على مئة إذا هي صححت       وجد العمى نحو العيون سبيلا



وبالمناسبة للشاعر محمود غنيم قصيدة لامية, عن المعلم وهي طويلة ومطلعها:



       قالوا المعلم قلت لست أغالي        إن قلت هذا صانع الأجيال



وتحمل أجمل المعاني والإطراء والمديح والثناء بما يستحق المعلم:



       صنع الصواريخ المبيدة غيره        وعلى يديه يتم صنع رجال



       أبدا يبشر بالسلام وليس من         صنع الرجال كقاطع الآجال



وليته لو قال: كقاصف الآجال. وتمنيت أن لو عرضت القصيدة كلها ولكنها موجودة بديوانه دون شك, فالمعلم يطبع تلاميذه على حسن الأخلاق والأدب والخلال, ومنهم من يغدو صديقاً منه مقرباً, ومنهم من يحترمه, ويكفي ذلك رصيداً له في الحياة, ولكني أريد أن أشركك معي في تصوير حال المعلم معداً مجهزاً محضراً لأداء دروسه:



     ولقد يبيت وكتبه من حـوله      فكأنـه  منهـن  بيـن تـلال  



     ويبيت يهذي بالدروس كأنه       في الفصل بين إجابـة وسؤال



     أو نازل بجزيرة أو سابـح       في البحر بين الرأس والشلال



     أو بين  أشكال وبين  دوائر      مخروطة الألــوان والأشكال



     أو بين أفعال صحاح ما شكت    عـللاً ومعتـل  من الأفعـال



     أو بين معمله يخوض تجارباً     ومع اللغات يخوض كل مجال



والمختارات تطول, ولكنى كنت وما أزال معجباً بقصيدة بشر بن عوانة العبدي, وهو أحد الصعاليك, حينما طلب ابنة عمه فاشترط عليه أن يسوق ألف ناقة مهراً من نوق خزاعة, يريد هلاكه بالسير في طريق وعرة مليئة بالمخاطر, وفي الطريق قابله أسد, وكانت القصيدة:



    أفاطم لو رأيت ببطن خـبت         وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا



    إذن لـرأيـت ليـثا أم ليثـا         هزبـرا أغلبـا لاقى  هزبرا



    تبهنس إذ تقاعس عنه مهري          محاذرة  فقلت عقـرت مهرا



    أنل قدمي ظهر الأرض  إني         رأيت الأرض أثبت منك ظهرا



    وقلت له وقد أبـدى  نصالاً          محـددة ووجهـا  مكـفـهرا



    يـدل بمخلـب وبحـد ناب          وباللحظات تحسبهن جمــرا



    ففـيم تروم مثـلى أن يولى          ويجعل في يديك النفس قسرا



    وقلبي مثل قلبك ليس  يخشى         مصاولة فكيف يخاف ذعـرا



    وأنت تروم للأشبال قـوتـاً          وأطلب لابنـة الأعمام مهرا



    نصحتك فالتمس يا ليث غيري        طعامـاً إن لحمي كان مـرا



    فلمــا ظن أن الغش نصحي        وخالفنـي كأني قلت هجرا



    مشى ومشيت من أسدين راما        مرامـاً كان إذ طلباه وعـرا



    هززت له الحسام فخلت أنـي       سللت به لـدى الظلماء فجرا



    وأطلقـت المهـند من يميني         فقـد لـه من الأضلاع عشرا



    فخر مجنـدلاً بــدم كأني          هدمت بـه بنــاء  مشمخرا



   وقلت لـه يعـز علي أنـي          قـتلت مناسبي جلـداً وفخرا



   ولكـن رقت شيئاً لـم يرقه     سواك فلـم أطق يا ليث صبرا

   تحاول أن تعلمني فــراراً          لعـمر أبيـك قد حاولت نكرا



   فلا تجزع فقـد لاقـيت حراً         يحاذر أن يعـاب  فمـت حرا



ولما كان الحديث عن الحب والتضحية, فما أحلى أن نورد للواوي الدمشقي قوله:



   أنيسة لو رأتها الشمس مـا طلعت         من بعـد رؤيتها  يوما على أحد



   سألتـها الوصل قالت لا تغر بـنا         من رام منـا وصالاً مات بالكمد



   فكم قتـيل لنـا بالحب مات جوى         من الغرام ولم يبـدئ ولم  يعد



   واسترجعت سألت عنى فقـيل لها         ما فيـه من رمق, دقت  يداً بيد



   وأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت         وردا علـى العنــاب بالــبرد



   وأنشدت بلسـان الحال قائـــلة         من غير كره ولا مطل ولا مدد



   والله ما حزنـت أخت لفـقـد أخ         حزنـي عليـه ولا أم على ولد



   وإذا ما أطلقنا العنان للذاكرة, فإن الأمر يطول والقول يجر أقوالاً, وأتمنى أن يمتد بي العمر فأتمكن من جمع مختاراتي كاملة غير منقوصة في كتاب يكون في متناول يد القراء, وإن بدأ يُغني الكمبيوتر والإنترنت عن الكتب وطويل البحث والاستقصاء, وأكتفي أخيراً بقول أبي البقاء الرُندي:



     لكل شيء إذا ما تــم نقصان      فلا يغر بطيب العيش إنسان



     هي الأمور كما  شاهدتها دول      من سره زمن ساءته أزمان




Author's Notes/Comments: 

منقول عن الأزمنة العربية أونلاين

View sudan's Full Portfolio