أوبرا "المتشردة"



أوبرا "المتشردة" .. فورة الشباب وجمال الحب





محطات





د. صبرى حافظ









  

  



لا شك فى أن أوبرا "المتشردة" أو "البوهيمية" ( la boheme ) للموسيقى الإيطالى الشهير جياكومو بوتشينى والتى افتتحت مؤخرا فى أوبرا جلايندبورن Glyndebourne من أكثر الأوبرات شعبية، ومن أعذبها موسيقيا. لأننا نجدها فى "ربيبرتوار" أو برنامج الكثير من الفرق الأوبرالية فى مختلف أنحاء العالم. ولأنها تستجيب لحاجة حقيقية لدى جمهور المشاهدين، وهى العودة إلى سنوات الشباب الأولى بكل ما فيها من نزق وتشوف للحب والنجاح، وبكل ما تنطوى عليه من استعادة للصعاب التى مر بها المرء والتجارب التى عاشها وصاغت خبرته فى الحياة ومعرفته بنفسه ودوافعه. فهى من هذه الناحية من الأوبرات القليلة التى تتناول قسوة الحياة بالنسبة للشاب وهم فى مقتبل العمر، يعانون من الفقر وشظف العيش، بينما تضج أجسادهم بالطاقات والمواهب، وتقصر إمكانياتهم المادية عن إشباع رغباتهم الحسية والروحية على السواء. كما أنها تجسد لنا عواطف الشباب الجامحة بما فيها من صدق ونزق، وتعريها بشكل يستثير مشاعر الجمهور ويستدر دموعهم. وثمة حاجة إنسانية للبكاء والتنفيس عن أخطاء الماضى الدفينة كانت تدفع الجمهور أحيانا للعودة إلى مشاهدتها عدة مرات، لأنه ليس أبلغ من الموسيقى فى استثارة العواطف، وفتح بوابات الانفعالات المكبوتة. وهى فى الوقت نفسه من الأوبرات القليلة التى تتناول الرغبة فى التحرر من الأعراف الاجتماعية والانفلات من ربقة التقاليد الأخلاقية على السواء. وتقرن هذا التحرر بشهوة الإبداع والخلق لدى أبطالها وهم جميعا من الفنانين الشبان الذين يتشوفون لتغيير الفن والحياة على السواء. كما أنها من الأوبرات التى تحتفى بطقوس الحياة اليومية، وتتعامل مع الكثير من مشاهد الفرح اليومى الذى ترتقى بها الموسيقى إلى ذرى من الإبداع النغمى الذى يحمل المشاهد على أجنحته إلى آفاق من المتعة الفنية والحسية على السواء.



عنوان الأوبرا



والواقع أن عنوان هذه الأوبرا نفسه يثير شيئا من أجواء القرن قبل الماضى الذى تبلور عند منتصفه نصها وكتبت قرب نهايته موسيقاها، والكثير من تحيزات العصر الذى كتبت فيه ورؤاه واختياراته. فالعنوان نفسه ( la boheme ) مشتق من الكلمة التى تعنى أساسا سكان مقاطعة بوهيميا، وهى أكبر مقاطعات الجمهورية التشيكية الحالية، والتى كان أغلب سكانها فى الماضى من الغجر، وما أدراك ما الغجر. رغبة متقدة فى الحياة، وعشق لعرامتها وتدفقها، مع عزوف عن الجهد أو العمل فى الوقت نفسه. إلى الحد الذى أصبحت كلمة "بوهيمي" مرادفة لكلمة "غجري" فى الثقافات الأوروبية. وحملت الكلمة لذلك الكثير من المضامين التى ألصقت بالغجر والتحيزات العرقية التى حملتها ضدهم جل الثقافات الأوروبية المختلفة. لكن كلمة "بوهيمي" سرعان ما انفصلت عن معناها الضيق ذاك، وأصبحت تستخدم لكل من يعيش حياة غير مستقرة تتسم بالمعاناة من الفقر كحياة الغجر. ولكل من لا يعبأ بالمواضعات الاجتماعية والتقاليد الأخلاقية المرعية مثلهم. فأصبح معناها مرادفا لمعنى التشرد بسبب نقصان المال، وعدم الاستقرار والارتحال من مكان إلى آخر بحثا عنهما. والتحلل من القيود الأخلاقية أو الأعراف والمواضعات الاجتماعية التى تقنن سلوك البشر فى مجتمع من المجتمعات. ثم أصبحت كلمة "بوهيمي" تطلق على موضة بين شباب الفنانين الذين يعانون من الفقر وعدم الاعتراف بمواهبهم، ولا يهتمون بمظهرهم، ويغترفون قد طاقتهم من متع الحياة الحسية، بينما لا يعبأون بالروادع الأجتماعية أو الأخلاقية فى حياتهم اليومية. وإذا كان عنوان الأوبرا "المتشردة" بالمفرد المؤنث يشير بالتحديد إلى بطلتها "لوسيا" أو "ميمي" فإن بقية شخصيات الأوبرا الأساسية ينطبق عليها هذا المصطلح بالمعنى الفنى له. لأن الشخصيات الرجالية كلها من شباب المشتغلين بالفن والفكر والذين يعانون فى الوقت نفسه من الفقر وشظف العيش، ولا يعبأون كثيرا بالمواضعات الاجتماعية والأخلاقية التى تقيد السلوك، ولا تولى مطالب الروح والفن العناية التى تستحقها.



أصل الأوبرا



وما يكسب هذه الأوبرا تأثيرها القوي، أنها أوبرا شديدة الواقعية. كتب نصها الغنائى جوزيبى جياكوسا ولويجى إليشا، عن رواية الكاتب الفرنسى الذى اختطفه الموت وهو فى شرخ الشباب هنرى موجيه Henry Mںger "مشاهد من حياة بوهيمية" Scenes de la Vie Bohڈme التى كتبت عام 1845. وهى رواية أقرب ما تكون إلى روايات السيرة الذاتية تستمد الكثير من عناصرها من حياة كاتبها نفسه، وهى الحياة التى يجسدها بطل الأوبرا "رودولفو" الشاعر والكاتب، بينما يستطيع دارسو هذا الكاتب الفرنسى أن يتعرفوا فى بقية شخصيات الأوبرا مارشيللو الرسام، وكولينى الفيلسوف، وشونارد الموسيقار على شخصيات حقيقية من أصدقاء الكاتب وزملائه ومعاصريه. أما بطلة الأوبرا "ميمي" أو "لوسيا" فإنها تتكون من جماع الشخصيات النسائية الأربع اللواتى وقع الكاتب فى حبهن واحدة إثر الأخري، واستطاع أن يدمجهن فى هذه الشخصية الروائية الجميلة التى تفيض رقة وعذوبة وحزنا شفيفا فى الآن نفسه. ينتهى بها وقد سقطت صريعة مرض السل التى راحت ضحيته مجموعة كبيرة من بطلات روايات الحب الرومانسية فى القرن التاسع عشر. وقد ترك هذا الصدق الواقعى بصمته الواضحة على العمل كله، وعزز من تأثيره الكبير على القارئ والمشاهد على حد سواء. فقد تحولت الرواية إلى عرض مسرحى لاقى نجاحا كبيرا فى حينه، ثم استأثرت بعد ذلك باهتمام بوتشينى فحولها إلى هذه الأوبرا الخالدة التى ما تزال تعرض حتى اليوم بنجاح كبير فى مختلف دور الأوبرا العالمية. لأن موسيقى بوتشينى العذبة استطاعت أن تحيل هذا العمل الثرى من المشاعر إلى موسيقى قادرة على مخاطبة الوجدان الإنساني، والتأثير الكبير عليه. وأن تصوغ من تفاصيلها بنية نغمية قادرة على تقطير علاقات الحب والمعاناة من أجل هذا الحب فى عالم مترع بالمشاعر، ولكنه مثقل فى الوقت نفسه بالقيود التى تحول دون هذه المشاعر الصادقة والتحقق. لأن عذوبة الموسيقى فى هذا العمل الأوبرالى وتعقيدها فى آن هى التى ارتقت بتفاصيل الحكاية الواقعية إلى أفق الحس الإنسانى المطلق.



بوتشينى والأوبرا



والواقع أن بوتشينى استطاع تحقيق ذلك فى هذه الأوبرا، لأن موضوعها لمس وترا حساسا فى نفسه، وبلور الكثير مما عاشه هو نفسه فى حياته فى شرخ الشباب. فقد عانى هو الآخر من الفقر وجحود موهبته فى بواكير حياته. فلم توافق بلدية "لوكا" ــ وهى بلدية المدينة التى ينتمى إليها فى منطقة توسكانى فى إيطاليا ــ على تقديم منحة دراسية له لدراسة الموسيقى فى "كونسيرفيتوار" ميلانو، كما فعلت مع عدد من أبناء المقاطعة، بسبب ما تصورته من تفاهته وتحلله الأخلاقي. وعانى من الفقر وتراكم الديون عليه، إلى حد أنه رهن ملابسه ليستطيع شراء النبيذ لنفسه ولأصدقائه كما فى أحد مشاهد الأوبرا. ولم يستطع أكثر من مرة أن يدفع إيجار غرفته، كما فى أحد مشاهد هذه الأوبرا كذلك، وطالما خدع أصحاب البيوت، وتجنب إلحاحهم بحيل مشابهة لتلك التى تعرضها علينا أوبراه. كما أنه كان ولوعا بالنساء، لا يقوى على مقاومة سحرهن، أغوى أحد راقصات فرقة "سكالا" الشهيرة للأوبرا فى ميلانو، وهرب مع زوجة أحد أصدقائه من أيام الدراسة، وغير ذلك من التصرفات البوهيمية التى كانت موضع استهجان الكثيرين. فقد ظل طوال حياته، حتى بعدما حقق الشهرة والنجاح وتخلص من محنة الفقر، ولوعا بالمزاح البذيء والمقالب الصبيانية التى يدبرها مع أصدقائه. إلى الحد الذى دفعه إلى تأسيس نادٍ للمزاح والمقالب بينما كان يكتب هذه الأوبرا استلهم اسمه منها ودعاه بنادى "البوهيمية". هذا فضلا عن أن ثمة جانبا أخر من جوانب شخصيته يتسق مع شيء عميق فى هذه الأوبرا، ألا وهى تلك النزعة أو الغريزة النيرونية Neronic ــ نسبة إلى "نيرون" الذى أحرق روما ــ وهى تلك النزعة التدميرية التى تربط بين تعذيب الذات وتدمير الآخرين برباط خفى يتغلغل فى المستوى العميق فى هذه الأوبرا التى تعمد إلى توثيق عرى العلاقة بين الحب والموت.



واقعية الأوبرا



إذن فقد قيض لهذه الأوبرا نص يرتوى من تجربة مؤلفه الحقيقية، وموسيقى رأى تجربة حياته الشخصية مجسدة فى الكثير من مناحى هذا النص، فقرر أن يكتب أوبرا تجسد هذه التجربة، وتكشف عما تنطوى عليه من عمق إنسانى شامل. وفى هذه الخبرة العميقة والشخصية بتجربة النص والأوبرا معا يكمن سر جاذبية هذه الأوبرا، وبقاء تأثيرها وسحرها على الجمهور. والواقع أن هذا العرض الذى قدمته فرقة Glyndebourne الأوبرالية المتميزة قد سعى إلى تأكيد الجانب الواقعى فى العمل، وتأكيد أن هذا الجانب الواقعى ما زال معاصرا لنا فى الوقت نفسه. فلم يلجأ إلى الأزياء التقليدية أو المناخ التاريخى الذى يموضع الأوبرا فى وقت كتابتها وهو منتصف القرن التاسع عشر، أو فى وقت كتابة موسيقاها وهو العقدين الأخيرين منه. وإنما استخدم الأزياء المعاصرة والمشهد المعاصر، وكأننا نعيش بين مجموعة من شباب هذا العصر، ونشهد معاناتهم من أجل الفن والحب معا. كما وعى هذا الأخراج الرباط العميق بين الحب والموت فى هذه الأوبرا فأرهص بشبح الموت وتحويمه حول مشهد ميلاد الحب نفسه، وكأن الحب محكوم عليه بالموت منذ كان جنينا فى لفائف الميلاد. وحتى لا نستبق الحكاية بالحديث عن النهاية قبل البداية علينا أن نتعرف على عالم هذه الأوبرا وشخصياتها، وما يدور فيها من أحداث. وقد أشرت من قبل إلى أن شخصيات هذه الأوبرا جميعها من الفنانين الشبان: رودولفو الكاتب الشاعر، ومارسيللو الرسام، وشونارد الموسيقي، وكولين المفكر أو الفيلسوف. فضلا عن شخصيتين نسائيتين أساسيتين: أولاهما هى "لوسيا" أو "ميمي" الفتاة الرقيقة وجارتهم فى المسكن، وتعمل حائكة للثياب، و"موزيتا" وهى روح عارمة متدفقة من الحسية والتحرر والجمال.



قصة الأوبرا



وتبدأ الأوبرا فى وقت الاحتفال بعيد الميلاد وقد حل البرد الشديد، ولا يستطيع كل من "رودولفو" و"مارسيللو" اللذان يسكنان معا تدفئة البيت فى قر الشتاء. ويقرران حرق آخر مخطوطات "رودولفو" فى المدفأة جلبا لبعض الدفء. وسرعان ما يقبل الصديقان الآخران "كولين" و"شونارد" وقد جلب الأخير شيئا من الطعام والنبيذ والوقود والمال، وقد امتلأ بهجة لأن انجليزيا غريبا قد تعاقد معه على العزف. ويقترح "شونارد" الاحتفال بعيد الميلاد فى مقهى "مومو"، وبينما هم فرحون بالدعوة، ويستعدون للمغادرة يصل "ينوا" صاحب البيت مطالبا بايجار الغرفة، فيدعونه للدخول ويغرقونه فى الشراب. ولما يلح فى طلب الأجرة، يلقون به فى الخارج، وعندما يهم الجميع بالخروج للاحتفال بالعيد فى مقهى "مومو" يقرر "رودولفو" البقاء لإنهاء مقال يكتبه، ويعد باللحاق بهم بعد قليل. وبينما هو وحده يعمل فى مقاله، تدق بابه جارتهم الشابة الجميلة "ميمي" التى انطفأت شمعتها، بما ينطوى عليه رمز انطفاء الشمعة من دلالات متعددة. وما أن يفتح لها الباب حتى يغمى عليها من مجهود صعود السلم، والإغماء مقدمة للموت منذ المشهد الأول، أو هو ميتة صغري. وعندما تفيق من إغماءتها يوقد "رودلفو" شمعتها، وتنصرف، ولكنها تكتشف أنها فقدت مفتاحها عندما سقطت مغمى عليها، وتنطفئ شمعتها من جديد. وتنطفئ معها شمعة "رودولفو" هو الآخر ويبقى الإثنان فى الظلام. وبينما يبحثان عن المفتاح، يكتشف أن يديها باردتين، ويقرر تدفئتهما بين يديه. ويخبرها عن حياته، وعن أحلامه، فتخبره هى الأخرى عن حياتها ووحدتها وفقرها وعن أحلامها وانتظارها للربيع بزهوره. وسرعان ما يقع كل منهما فى غرام الآخر، فيعلنان حبهما، ويغادران البيت متوجهين إلى مقهى "مومو".



وعندما يبدأ الفصل الثانى تكون الشوارع مليئة بالمحتفلين بعيد الميلاد من باعة ومشترين، وأطفال ومحتفلين. وفى الطريق إلى مقهى "مومو" يشترى "رودولفو" قبعة لـ"ميمي"، ويصحبها إلى المقهى ليقدمها إلى أصدقائه. ويحتفلون معا، ويغنون وسط طقوس الطعام والشراب والحفل. وبينما الاحتفال على أشده، والأطفال يملأون المكان بالصخب والمرح، تدخل "موزيتا" حبيبة "مارسيللو" السابقة مع أحد المعجبين بها من الأثرياء "أليساندرو". وما أن تقع عين كل من الحبيبين السابقين على الآخر، حتى يحاول "مارسيللو" أن يتجاهلها دون جدوي. فقد اشتعل الغرام القديم فى القلب من جديد. وزاد حدة نيرانه أغنية "موزيتا" التى تتغنى فيها بجمالها وقدرتها على الغواية والإغراء. ويعلق الأصدقاء على ما تنطوى عليه الأغنية من عمق فى المشاعر، بصورة تؤكد أن جذوة الغرام القديم لم تخمد بعد. وتزعم "موزيتا" أن حذاءها يؤلم قدميها، فتخلعه وترسل "أليساندرو" الثرى به ليشترى لها حذاءً بديلا. وما أن يختفى عن الأنظار حتى تلقى بنفسها فى أحضان حبيبها القديم "مارسيللو". ويهرب الجمع من المقهى بأن ينظم إلى أحد عروض الشارع الشعبية الجميلة، وقد تركوا "أليساندورو" يدفع الحساب.



ويبدأ الفصل الثالث بعد بضعة شهور، وقد جاءت "ميمي" تبحث عن "مارسيللو" الذى انتقل من سكنه القديم مع "رودولفو" ويعيش مع "موزيتا". وعندما تصل تنتابها نوبة شديدة من السعال، وتخبره كيف أنها لا تزال تحب "رودولفو" الذى هجرها الليلة الماضية، وترك ــ وسنعرف أنه جاء إلى "مارسيللو" وقضى الليلة عنده ــ وكيف أنه أفسد حياتهما معا من خلال غيرته الشديدة واتهاماته لها التى لا أساس لها من الصحة. وتسأل "مارسيللو" أن يساعدهما على الانفصال. وتختفى وراء السلم حينما يقبل "رودلفو" كى يخبر "مارسيللو" بأنه تركها لأنها تغازل الآخرين، لكن هذه العلة لا تقنع "مارسيللو" فيعترف له "رودولفو" بالحقيقة، وهى أنه قرر أن يغادر "ميمي" لإحساسه الشديد بالذنب، ولأنه بسبب فقره، وعدم تمكنه من أن يوفر الغذاء الكافى والدواء، قد أدى إلى تفاقم مرضها وأنها توشك على الموت بسببه. ولذلك فلا سبيل أمامه إلى أن يحطم قلبه ويهجرها، علها تجد من يستطيع أن يوفر لها ما هى جديرة به من رعاية وعلاج. عند ذلك الحد من الاعتراف نسمع نحيب "ميمي" فيندفع "رودولفو" إليها ويأخذها فى أحضانه ويغنى لها أغنية الحب الدائم، وهى من أروع أغنيات هذه الأوبرا، وأكثرها عذوبة. ويقرر العاشقان، وقد أكد كل منهما حبه للآخر، الانتظار حتى قدوم الربيع، وهكذا ينتهى الفصل الثالث.

ويبدأ الفصل الرابع لهذه الأوبرا الدائرية البناء، من حيث بدأ الفصل الأول. فقد فقد كل من العاشقين حبيبته، وعاد "مارسيللو" ليسكن مع صديقه "رودولفو" كما كان الحال قبل الانتقال للعيش مع "موزيتا" أما "ميمي" فقد غادرت هى الأخرى "رودولفو" إلى الحياة مع رجل غنى كى يوفر لها ما تحتاج من طعام ودواء. ولم يبق للصديقين إلا الفقر والغم القديم. ومن يبدد غم الأصدقاء وكربهم إلا الأصدقاء. وكما حدث فى الفصل الأول، يجيء كل من "شونارد" و"كولين" بشيء من الزاد والشراب والبهجة. ويبدأ الجميع فى الطعام وقد حاولوا التخفيف عن بعضهم البعض. وتدخل "موزيتا" كالعاصفة أو الإعصار الذى يعصف عادة بالكآبة وينشر المرح فى كل مكان. ولكنها تجيء هذه المرة وفى صحبتها "ميمي" وهى على شفى الموت تعانى من سكراته المدوخة. ويهرع الجميع يعدون لها فراشا على الأرض، فنحن فى غرفة فقيرة فى كل شيء. وتوشك أن تقع، فيحملها "رودولفو" إلى الفراش الذى أعده لها الأصدقاء. وتخبرهم "موزيتا" أن "ميمي" قررت أن تترك عشيقها الثري، وأن تعود إلى هذه الغرفة الفقيرة لتموت. ويذهب كل من "مارسيللو" و"موزيتا" إلى السوق لبيع "قرط" "موزيتا" لشراء دواء لـ"ميمي"، بينما يسارع "كولين" برهن معطفه الثمين، ولما يجد "شونارد" أنه الوحيد الذى بقي، يقرر التعلل بحجة هو الآخر كى يترك العاشقين وحدهما. ويؤكد الحبيبان حبهما لبعضهما البعض، ويتذكران الزمن الرخى القديم الذى جمعهما سويا، وأشعل فى قلبيهما جذوة الحب الجميلة التى ملأت حياتهما بالحياة والمرح. وتتذكر القبعة التى اشتراها لها يوم لقائهما الأول، وتطلب أن ترتديها الآن. ويعود الأصدقاء، وقد جلبت "موزيتا" شيئا يدفئ يدى "ميمي" الباردتين. ويصلى الجميع من أحلها، ولكن شمعتها سرعان ما تنطفئ بينما يصرخ "رودولفو" مناديا اسمها، فترجع الموسيقى الموجعة أصداء هذه الصراخ الذى يمزق نياط القلب. وتنطفئ الإضاءة من المسرح كله على هذه النهاية القاتمة.



قران العشق والموت



وتعقد هذه النهاية هذا القران الوثيق بين العشق والموت، وهو قران نجده فى أغلب أوبرات بوتشينى الذى تدفعه نزعته التدميرية إلى الحكم على كل حب بالموت، وكأن نهاية الحب الحتمية أو الطبيعية هى الموت. وكأن الحب من ثمار الحياة المحرمة والمشتهاة معا. ما أن يستمتع بها الإنسان لفترة محدودة حتى يتوجب عليه أن يدفع الثمن، أو حتى تستأدى منه الحياة الثمن الفادح رغما عنه. وهذه النهاية الفاجعة هى التى تجعل كل خيوط العمل الواقعية تقترب لا من الواقع فحسب، وإنما من الحقيقة بمعناها الفلسفى والإنسانى الأعمق. لأن غاية الفن الكبرى ليست بأى حال من الأحوال تصوير الواقع، أو تجسيد خبراته المعاشة. وإنما النفاذ من خلال هذا التصوير الصادق والعميق إلى الحقيقة الإنسانية التى يستجيب لها الإنسان فى كل مكان. وترهف وعيه بنفسه وبواقعه وبالعالم من حوله. وهذه هى غاية الفن العظيم فى كل العصور والثقافات.







محطات





المصدر: العرب اونلاين


Author's Notes/Comments: 

  

rudwanhimat@hotmail.comsudan.2ya.comsudan poems

View sudan's Full Portfolio