بعد مئة عام من التحليل النفسي: ما الذي بقي من الفرويدية





إعداد: الحسن المختار

**************



ظهرت مع مطلع القرن العشرين نظريات ومدارس فكرية ومناهج كثيرة في مجال الادب والفن والانسانيات، تحول بعضها بسرعة الى تيار جارف يتجاوز الحدود الفاصلة بين العلم والفن والايديولوجيا، والعلوم الانسانية التي ظلت خليطا من كل تلك المناحي والنظريات، مما جعل البعض يصفها بأنها »كثيرة المناهج قليلة النتائج«، وهذا ما يبدو واضحا من خلال مسيرة مدرسة التحليل النفسي التي قدمها سيجموند فرويد الطبيب النمساوي منذ مئة عام، وما زالت تراوح في دوامة المفاهيم والمناهج، وهي التي قدمت نفسها اصلا باعتبارها منهجا وعلما، لكن ما الذي صارت اليه بعد قرن من الزمان؟ وما هي آفاق استخدامها الان؟





في كتابه »بنية وتكوين الثورات العلمية« يوضح الاستيمولوجي والمنظر في مجال نظرية المعرفة، توماس كون، ان النظريات العلمية والمعرفية تمر عبر مسار ظهورها وارتقائها بمراحل واطوار عديدة، تبدأ من محاولة الغاء وتجاوز النظريات السابقة لها، وتنتهي بالغائها هي نفسها متى ما ظهرت نظرية اخرى اكثر وجاهة واقوى سندا معرفيا او نسقا منهجيا، ومعلوم ان مثل هذا الرأي في مسار المعرفة يقوم على افتراض تطور خطي للعقل العلمي، وكأنه ينمو عموديا، اللاحق منه يغطي السابق ويلغيه، ويتجاوزه، مثلما وقع في العصر الحديث من طفرات و»ثورات علمية« عديدة.





ومثل هذا الرأي نستذكره الان عندما نقارن مسيرة ومصير نظرية فرويد، مع نظريات اخرى واكبتها عبر المئة سنة الماضية، فمع مطلع القرن العشرين، كانت ثمة نظريات كثيرة تسعى لتأسيس حداثي في مجال الانسانيات، والادب، كانت كل واحدة منها تقدم نفسها باعتبارها »علما« وتصف غيرها بالتأملية والايديولوجية، وغير ذلك من الصفات السيئة، واحكام القيمة المفعمة بمعاني السلبية والاستهجان.





فنظرية ماركس مثلا كانت عند دعاتها »نظرية مادية علمية« وليست ايديولوجيا، وقد انبروا للبرهنة على هذه الواقعة ابتداء من جورج بليخانوف وانتهاء بلويس ألتوسير »1918م ـ 1984م« الذي طوع قدراته التنظيرية والبنيوية الهائلة للفصل بين مفهومي العلم والايديولوجيا، ولأنه اعتبر هذه الاخيرة نوعا من الوعي الزائف، واعتبر نظرية مثله الاعلى ماركس علما بكل معاني الكلمة، وهي واقعة بعيدة عن الحقيقة.





ومع مطلع القرن العشرين ايضا كانت ثمة نظرية اخرى لا تقل حماسا ولا ايديولوجيا، هي ما يمكن ان نسميه بنظرية او ايديولوجيا »علم الاجتماع« حيث كان انصار اوجست كونت »1798م ـ 1857م« مازالوا يبشرون بعلم يسمونه »الفيزياء الاجتماعية«، ويزعمون ان في مقدور علمهم هذا ان يدرس المجتمع من منظور منهجي تجريبي يضاهي العلوم الطبيعية، ويصفون اي منهج اخر بالتأملية والتذهنية، وهذه سبة كبيرة في لغة دور كايم وليفي بريل وغيرهم من الكونتيين ودعاة علم الاجتماع مطلع القرن.





وخلال القرن ايضا قدمت نظرية اللساني السويسري فردينانددي سوسير، باعتبارها علما وسعى الكثيرون لتطبيقها كمنهج في مجال فلسفة اللغة، وعلم النص، وفي حضنها ظهرت المدرسة البنيوية، وفي مسار مواز تماما، كانت نظرية الامريكي بيرس السيميوطيقية تحشد الانصار وتسعى هي ايضا لتأسيس منهج علمي في مجال النظرية الادبية، يسمح بفهم البعد العلمي للغة والكلام.





اما نظرية فرويد نفسها فكان صاحبها في غمرة كشفه »لقارة جديدة« هي اللاوعي، وكان انصاره ينعون مناهج الاستبطان والتنويم المغناطيسي وغيرهما من تقاليد علم النفس في القرن التاسع عشر، ومع موت فرويد نفسه اتجه هؤلاء الانصار اتجاهين مختلفين مازالت المسافة تتسع بينهما حتى الان، ركز احدهما على الجوانب السلوكية وتمثله مختلف مدارسها، اما الثاني فكان ذا وجه ايديولوجي فركز على الجوانب الحضارية لنظرية فرويد، وانطلق من كتابه »قلق في الحضارة«، ليدمج مفهومي »الكبت« عند فرويد و»الاغتراب« عند ماركس، وليقارن بين »صراع الطبقات« و»صراع الطبقات النفسية« داخل الفرد، ومن ابرز ممثلي هذا الاتجاه فلاسفة مدرسة فرانكفورت مثل ماركيوزو وهوركهايمر، وايضا رانيش واريك فروم وغيرهم من »اليسار الفرويدي«.





الفرويدية والادب لقد تلقفت المدارس النقدية الادبية ذات المنزع النفسي، نظرية فرويد وسعت ليس فقط لتطبيقها بغية تفسير البنية النفسية التي تؤسس جوهر العمل الابداعي وانما ايضا لتعميمها على مختلف الظاهرات الانسانية التي تشكل مجتمعة، الابعاد الانسانية لعملية الانتاج الادبي والفني اصلا.





وهكذا طبقت مفهومات التحليل النفسي لتفسير عملية الابداع، واستعين بمعطيات علم نفس الشواذ ونظريات الشخصية والمدارس السلوكية، لتفكيك ظاهرة العبقرية والقدرة على الابداع والربط الخلاق بين معطيات توجد متناثرة في نفس البيئة، فيأتي العباقرة والمبتكرون فيربطون الحلقات المفقودة بينها، فتبدو منظورة، وينتهون بها الى مركب جدد فريد، سواء أكانت هذه العناصر مادية كالاختراعات، ام ادبية كروائع الشعر والمسرح وانواع السرد والفنون الحسية والبصرية.





ولكي لا نشتط بالقارئ العربي بعيدا فسنقصر الحديث هنا على بعض تأثيرات الفرويدية على النقد العربي المعاصر، الذي بدأ يتفطن لأهمية الابعاد النفسية في الادب منذ العقاد ومدرسة الديوان، وحتى شخصانية محمد عزيز الحبابي جوانية عثمان امين وايضا بمعنى ما وجودية عبدالرحمن بدوي.





الا ان استلهام الفرويدية بالمعنى الحصري سيأتي مع دراسات ذوقان قرقوط وجورج طرابيشي وبوعلي ياسين ثم من خلال مقالات متميزة لمطاع صفدي، وغيرهم ممن تأثروا لحد ما، بمدرسة ما يسمى باليسار الفرويدي المرتبطة بتقاليد مدرسة فرانكفورت والمدرسة النقدية التي تفرعت عنها فيما بعد هجرة رموزها الى امريكا كماركيوز وهوركهايمر وغيرهما.





مؤدى استخدام الفرويدية كمنهج في النقد الادبي، ان علينا التعامل مع النص المكتوب باعتباره انفلاتا وانفجارا للمكبوت، وبالتالي فما علينا سوى ان نترك المبدع يكتب ما شاءت له الملكات ان يكتب، ثم ان نتعاطى مع انتاجيته كما لو كانت نوعا من »الاعترافات« بعقده ومبكوتاته وطموحاته واحلام يقظته غير المتحققة، وتضاريس نفسه الخلفية وعالمه السفلي، سواء راق له ذلك ام لم يرق، سواء بسواء.





واذا كان قرقوط في دراساته عن »فانون« وطرابيشي في دراساته عن الانتلجنسيا العربية وعصابها الجماعي، وبوعلي ياسين في »الثالوث المحرم« قد استلهموا فرويدية يسارية يشوبها شيء من الايديولوجيا، فإن صفدي كان اكثر وفاء لتقاليد مدرسة فرانفكورت وخاصة منها نظرية ماركيوز التي عرضها في »الحب والحضارة« وايضا »الانسان ذو البعد الواحد« و»الحب محاطا بالالغاز«، ان كل ذلك فتح افقا فرويديا عربيا ضمن حدود، فإن ثمة دراسات نقدية عربية اخرى كانت اكثر تعمقا كقراءات على زيعور النقدية ومحاولاته حول العقلية الصوفية، وخاصة دراسات العلامة عبدالكريم اليافي التي تخلط على نحو عجيب واصيل بين معطيات ومنهج التحليل النفسي الفرويدي والمنهج الاستطيقي المستخدم في علم الجمال.







محطات







الفرويدية على شرفة المستقبل شهدت الساحة الثقافية الغربية منذ مطلع العام الحالي حملة استعادة واهتمام بالفرويدية بمناسبة مرور مئة سنة على ظهور نظرية التحليل النفسي التي اعتبرت وقتها ثورة »كوبرنيكية« واكتشافا لا يقل عن غيره من اكتشافات العصر الحديث العلمية وراهن الكثيرون على ان هذه النظرية ستقلب سائر المفاهيم والتصورات الانسانية كافة، فما الذي تحقق من كل ذلك الان وبعد قرن من الزمان؟!







محطات







هذا هو السؤال الذي يسعى الان كبار المشتغلين بالانسانيات والفلسفة للاجابة عنه، فمثلا جان برتران بوتاليس الروائي والمحلل النفساني الكبير يعتقد ان النظرية الان لم يبق فيها سوى اليسير مما قاله فرويد، ولعل خير دليل على ذلك انها بدأت تستشرف آفاقا مختلفة تمام الاختلاف، ولا تمت بصلة الى ايديولوجيا »اللاوعي« و»الكبت« كما عرضها فرويد نفسه، بل لعلها اضحت اكثر منهجية وواقعية، وبالتالي اقل حظا من الايديولوجيا والمفاهيم الانثروبومورفية (الشخصية) التي يجب اصلا دفعها وتخليص النظرية منها، ويشارك اخرون بوتاليس رأيه هذا لذا جاءت عملية الاستعادة الحالية في شكل اثارة تساؤلات حول مشروعية الاستمرار في تقاليد مدرسة التحليل النفسي، وما اذا كانت المفاهيم القديمة تستشرف الان افق المستقبل ام انها تقف عند افق انسدادها ونهايتها، لتدخل عن جدارة في متحف الشمع والذكريات.





وقد صدرت منذ مطلع العام الحالي ثلاثة كتب بهذا الخصوص، كان اولها بعنوان »فرويد وقرن من التحليل النفسي« للمفكر والمحلل النفساني الارجنتيني اميليو رودريجيه، وفيه يرسم بكثير من التتبع والدقة سيرة فرويد، ولكنه لا ينسى في كتابه المؤلف من مجلدين يزيدان عن 1250 صفحة، ان يسائل نظريته بل وان يطبق على فرويد نفسه كمبدع مبدأ التحليل النفسي، فيقدمها باعتبارها انعكاسا لعقد صاحبها النفسية، وتمثيلا لاواعيا لجميع العناصر المكونة والعوامل المؤثرة في شخصيته، فهو قبل ان يكون عالما او طبيبا او مبدعا، هو قبل هذا وذاك شخص مليء بالعقد ومحكوم بمنظومة الاهواء والرغبات الدفينة.





ثم جاء الفيلسوف والمحلل النفساني الفرنسي فرانسوا روستانج واطلق كتابه »نهاية الفجيعة« ليطرح الاسئلة نفسها، وليقارب نظرية التحليل النفسي ليس كما عرضها مؤسسها فرويد، وانما من خلال واحد من امثل واعمق تطبيقاتها، ونعني مشروع جاك لاكان »1901م ـ 1981م« الطبيب النفساني الفرنسي الذي طبق النظرية كمنهج في مجالات الالسنة والانتروبولوجيا من منظور بنيوي، واعتبر في الستينيات والسبعينيات خير من يمثل الفرويدية والبنيوية معا كما اسلفنا ترابطهما.





اما المحلل الشهير باتريك فرويته فقد خصص كتابه »بعد مئة عام« لاستشراف آراء تسعة من كبار المحللين الاحياء، فجاء الكتاب في شكل مقابلات معهم استغرقت 550 صفحة، ومن خلالهم عكس توجهات مختلفة في الممارسة الفرويدية في علم النفس والادب وعلم الجمال ومجالات اخرى كثيرة، لأن نظرية فرويد تحولت مع مرور الوقت، وعلى ايدي اتباعه الى ما يشبه الموضة او التيار العام الذي يتم تطبيقه على مجالات لا حصر لها.





وهنا مكمن الخطورة، لأن نظرية ما، تزعم انها علمية، مازالت بعد مئة سنة تتعاطى مفاهيم غير متفق عليها، تدعو للريبة، ويدعو للريبة ايضا ان اتباعها حولوها الى مايشبه الايديولوجيا او التيار، مدعين انها تصلح لكل شيء، متناسين ان المفتاح الذي يفتح جميع الابواب هو عادة مفتاح مشبوه او مزور..










View sudan's Full Portfolio